السبت، 10 يوليو 2010

القطط الزجاجية

يحيى سلام المنذري

أدخل جميع البطاقات وبدون ترتيب في الخزانة المكسورة، أمسك كأس الماء المتشققة وارتشف منها، نفض غطاء السرير، وألقى جسده على الفراش، كان قلبه يخفق، اعتبر نفسه لا شيء، وأكد على ذلك وهز رأسه، حاول أن ينام لكنه لم يستطع. نهض مرتجفا وقرر أن يتناسى موعد الغد ومحاولته السادسة والعشرين في البحث عن وظيفة، فكر: لماذا كل هذا الألم الآن؟ تأمل في حياته المعجونة بالقلق.. راجع نفسه وقال بأنه لا جدوى من التفكير في الألم أو مصدره.. لا جدوى في التفكير فيه إذن.. حاول فعلا أن يتجاهله.. وفي الوقت نفسه فكر في الحياة وأنها تمضي وهو يذوب فيها.. انفجر حزنا وفرحا.. ما جدوى أن يتألم؟
***
استيقظ مبكرا. حمل أوراقه، كنزه الثمين، فهي التي ستقوده إلى الوظيفة المناسبة. تذكر بأن وقت المقابلة ما يزال بعيدا. قرر أن يمشي على الشاطىء قبل أن يركب المايكروباص ببضع ساعات، مشى على حجر صف بعناية، على يمينه سجادة فضية مرصعة بسمك السردين اليابس، رائحتها جميلة، أجساد ووجوه تمشي باتجاهه وتتجاوزه، التقط كلمة أو تذمر أو ضحكة حلوة من هنا وهناك، سجل في عقله تعابير الوجوه المختلفة، كل شخص يحمل هذيانه وأفكاره وهمومه، ليته يعرف ما يدور بخلد كل واحد منهم، لكنه يفكر: “ما الفائدة التي سأكسبها؟” التفت إلى ناحية جبال مسقط الشامخة، وأطلق سؤالا له رائحة البرودة: ماذا لو تحول فجأة اللون البني للجبال إلى لون الحليب؟ وضع أوراقه التي كان يحملها على مقعد يواجه البحر واتجه لمساعدة بعض الرجال في سحب قارب من عمق البحر الى الشاطىء، وكان القارب مليئا بسمك السردين الذي يتقلب في شبكة خضراء. وبعد أن ساعدهم اكتشفوا بأنه غريب عليهم، فحاولوا إمساكه ورميه في البحر، وهو ليس له دراية بالسباحة، لأن أباه لا يعرف السباحة ولا الرماية. وتعجب لماذا حاولوا رميه في البحر رغم أنه قدم لهم المساعدة؟ أخذ يقاوم حتى نجح في الهرب. وبينما كان يركض سمعهم يضحكون بصوت عال كأنهم دخلوا الجنة. وبعد مسافة ليست بقليلة توقف واتجه برأسه ناحيتهم ولهاثه يكاد يقتله، شاهدهم يصطفون بجانب بعضهم ويركعون ويسجدون في صباح له رائحة الخبث والسمك.
***
خرج من المايكروباص ونظر إلى البناية ذات الأدوار العشرة، وتأكد من العنوان في ورقة صغيرة ضمن أوراقه التي كان يحملها. حمله المصعد إلى الدور الرابع الذي توجد فيه الشركة صاحبة الإعلان عن الوظيفة. لم يجد لافتة تدل على الشركة، كل ما هناك ثلاثة أبواب مغلقة ومتجاورة، توقف قليلا وسأل نفسه: "أي باب غرفة يخص الشركة؟" طرق الباب الأول فلم يجد استجابة، مد يده وفتحه بهدوء وتفاجأ بوجود مجموعة كبيرة من القطط الملونة تحدق فيه. هكذا بدون أن يتوقع – ولا أي إنسان آخر يمكن أن يتوقع- يهم بفتح باب غرفة للبحث عن شيء معين ويصعق بمشهد آخر.. هكذا بدون مقدمات شاهد غرفة مملوءة بقطط صامتة وواجمة، لم يسمع صوتا، كأنها دمى، بعضها جامد وبعضها الآخر يتحرك، لكنها لم تحاول أن تهرب من الباب، انتابته رعشة سرعان ما تحولت إلى خوف، وبدون تفكير أغلق الباب بقوة وركض متجاهلا المصعد إلى ناحية السلم وصادف امرأة جميلة تصعد السلم، لم يعبأ بها رغم جمالها، ثم وجد نفسه في الطابق الأرضي وبعدها خارج البناية، ثم ابتعد قليلا عنها ودخل إلى مقهى يقع مقابلها، جلس إلى طاولة كمن يستنجد بأي أحد ليهدىء من خفقان قلبه وليريح قدميه المرتعشتين، لم يتمكن من سماع صوت النادل وهو يسأله عن طلبه، فقد تجمد للحظات. وحينما لاحظ النادل شروده انسحب من طاولته وذهب إلى أخرى. بدأ يحدق في البناية مستحضرا مشهد القطط، وتنبه إلى أنه نسي أوراقه هناك، وتذكر بأن شهادته الجامعية الأصلية من ضمن الأوراق، فكر إن كان ذلك المشهد مجرد خيال فقط، جاءه النادل مرة أخرى، حينها سأله على الفور: “أليست شركة المبادرات العالمية هناك في الطابق الرابع في هذه البناية” أجابه النادل على الفور وقال: “لا أعرف.. ربما.. ماذا تطلب؟”. نكس رأسه وأحس بخيبة كبيرة.
***
مات أبوه قبل أن يفرح بدخوله الجامعة، وعندما تخرج في الجامعة ماتت أمه قبل أن تفرح بتخرجه. وأثناء الدراسة أحب فتاة جميلة، لكن أباها أرغمها على الزواج من ابن عمها فاختفت من أمامه فجأة واختفت أيامها الجميلة حينما كان يلتقي بها في أحد الفصول الدراسية بعد المحاضرات حيث كان يقتات الحنان والابتسامات والغنج والصوت الناعم ونظرات دافئة من عينين ساحرتين، تلاشى الحب مثل غيمة كانت مملوءة بالمطر فأجهضته وانفجرت كالبالونة. كان كلما يتذكر تلك الفتاة يضرب بيده على جبينه ندما لأنه لم يحاول يوما أن يلمس صدرها واكتفى بلمس يديها وها هي اختفت وتخرج هو في الجامعة وماتت أمه وأصبح وحيدا.

اتجه الى خزانة ملابس مكسورة الباب حيث فتش بين أكوام أوراق وكتب مغبرة، فانتشل بطاقات عديدة كتب فيها جميع مواعيد المقابلات بشأن الوظيفة في الأشهر الماضية، ووضعها أمامه مرتبة على الأرض كمن يريد أن يتهيأ للعب بالورق، كان عددها خمسا وعشرين بطاقة جمعت خلال عام كامل وتوزعت معلوماتها بين قطاعات حكومية وخاصة، حدق إليها وضحك بتعب، كل تلك الهرولة والاستعدادات لم تجد نفعا، كل تلك المحاولات أصابها الفشل، كأنه يتخيلها شريطا يمر أمامه في فيلم سينمائي، ويشعر بالتعب من التحديق المستمر فيها، حاول أن يحلل ويستنتج لكن التعب غرز رأسه، مشاهد طفولته تمر فجأة في رأسه، مشاهد بعيدة في بطن تاريخ مغبر، لكنه يبعدها عن رأسه وبالطريقة التي اعتادها حينما يريد إبعاد فكرة أو مشهد من رأسه بأن يضرب بيده على جبينه بقوة لاعتقاده بأن لسعة الألم تلك كافية أن تهشم كل شيء. قام وشاهد نفسه في المرآة.. ضحك وغمز وصفر، ثم اكتئب، اكتشف بأنه لم يتقن عملية التمثيل، اكتشف بأنه ضعيف.. ضعيف لدرجة أن الأشياء البغيضة تغلبه بسهولة.. اكتشف بأن له طبيعة هشة مثل رقة القوارير.. نفحة هواء تستطيع أن تسقطها وتنكسر.
***
قرر أن يصعد مرة أخرى إلى تلك البناية على الأقل ليجلب أوراقه التي نسيها هناك وربما سيتأكد من وجود الشركة وأن ذلك المشهد ليس إلا محض تهيؤات. خرج من المقهى وترك النادل في دهشته وقد لاحظ بأنه لا يوجد أحد في مدخل البناية والمصعد وحيد هناك، دخل من جديد إلى المصعد وصعد إلى الطابق الرابع ليجد أن الأبواب الثلاثة ما زالت مغلقة لكن أوراقه لم تكن هناك، حدق في الممر لكنه لم يجد شيئا. كان الممر غارقا في هدوء مخيف، أخذ يكلم نفسه “أليس أحد هنا؟ ربما أحدهم أخذ أوراقي وستدخل تلقائيا ضمن المقابلات” قرر أن يفتح الباب الثاني، ومد يده وفتحه فوجد قططا زجاجية تحدق إليه بعيون كريستالية ملونة، كان عددها كبيرا، لكنها هذه المرة لا تتحرك، ظل ماسكا مقبض الباب، كان واجما يحدق ويقرأ الغرفة ذات الجدران البيضاء، ولم يجد غير ما شاهده، أغلق الباب وقد كان خوفه هذه المرة أقل بكثير من السابق، بحث من جديد عن أوراقه في الممر لكنه لم يجد شيئا. قرر أن يفتح الباب الثالث. تردد في بداية الأمر، فكر أن يرحل وألاّ يعود من جديد إلى هنا، سينزل ويجلس في المقهى ويطلب شايا مع الحليب ويمحو من ذاكرته هذا اليوم. لكنه تذكر شهادته الأصلية وأنها هي منقذه من حالة البطالة هذه، ماذا يفعل؟ سيفتح الباب الثالث. وربما سيجد لجنة المقابلة حسب الإعلان الصادر. مد يده وفتح الباب فلم يجد هذه المرة القطط، وإنما وجد أبوابا زجاجية معتمة. خفق قلبه من جديد وتذكر بأن الوقت يمضي وأنه لم يعمل حتى الآن والأبواب تتكاثر والقطط في الغرفتين المجاورتين لا يعرف سرهما. وقرر ألاّ يعود إلى بطاقاته وأنه سوف يهشم هذه الغرف وسيظل يبحث عن أوراقه مهما كلفه ذلك من ثمن.


ملاحظة: الصورة في الأعلى نقلت من ((http://www.flickr.com/photos/livingglassart/3274757676/))