سالم آل تويّه
«ليس هناك من عمل للتحرر الفردي أروع من جلوسي وراء آلة كاتبة لابتداع العالم»
غابرييل غارسيا ماركيز
منذ أصدر القاص العُماني يحيى سلام المنذري مجموعته القصصية الأولى "نافذتان لذلك البحر" عام 1993 والطفولة والصبا هما محور أغلب قصصه. الطفولة والصبا هنا مرحلتان عمريتان أثيرتان تنالان نصيبًا أوفر من السرد، وتطرحان أسئلة شتى تتعدَّى الحكاية التي يوليها يحيى اهتمامًا يُميِّزه عن كتاب القصة الآخرين في عُمان لتبني عالمًا قوامه واقع الشخصيات وأحلامها وأفكارُها الكامنةُ في الأعماق، الأفكار الظاهرةُ أمام القارئ عبر سلوك تُبرزِه تجارب الفقد والحرمان النفسي والمادي حتى بالنسبة إلى الشخصيات الأكبر سنًّا في قصصه، الشخصيات التي بلغت مرحلة الشباب أو تجاوزتها، وهي شخصيات محبطة مكسورة نتيجة أوضاعها الحياتية والاقتصادية، من فرط حزنها تنفجر أحيانًا حزنًا أو فرحًا على نحو غريبٍ يبعثه استغراقها في الألم.
تقسيم المجموعة القصصية إلى أجزاء وعناوين تحوي عناوين أخرى طريقة درج عليها يحيى سلام المنذري في مجموعاته القصصية الأربع. لعل هذا التقسيم نابع من فكرة الزمن نفسها ومراحل حياة الإنسان الثلاث (تُقسَّم إلى خمس مراحل أيضًا) دون إخضاعها للترتيب والعدد الصارمين كما هما في الواقع، وكأن الزمن في هذه القصص ينتظم في السلك الغامض نفسه مستلهمًا خفاياه ذات العلاقة الأوثق بالوأد والانقطاع والألم والمصير اليائس أكثر من خضوعه للتراتبية المعهودة المتصاعدة من الميلاد حتى الموت. في "الطيور الزجاجية" يأتي التقسيم على النحو الآتي: الجزء الأول: خمس قصص عالمها الطفولة والصبا. الجزء الثاني والثالث: قصص عالمها الرجولة والشهوة والشباب، وتختلط المراحل العمرية في بعض قصص هذين الجزءين –وإن بقيت الشخصيات المحورية تنأى عن عالم الطفولة وتقترب منه- لتشترك معًا في أرق نفسي يصبح خصيصة تميز عوالم قصص يحيى سلام المنذري ومنطلَقًا ومنتهى.
طفولة خائفة في قصص «الطيور الزجاجية»، طفولة هلِعة، والخوف مقبل من عالم الكبار، من المدرسة والمعلم والمجتمع وأسباب الحياة وأقدارها المحزنة. يدوم الخوف بل إنه يتأبَّد، لأن القصة تنتهي هناك في تلك اللحظات المزمنة المجلودة بوعي المعلم وصراخه وحزامه، اللحظات التي –في أغلب الأحيان، برغم انتهائها- تبدو بلا نهاية، كما هو الحال في قصة "خوف العصافير الصغيرة". إن الراوي نفسه في هذه القصة متلبَّس بخوف التلاميذ الصغار، بأرواحهم المرعوبة؛ إنه –هو الآخر- طفل حتى في لغة سرده المتلعثمة أحيانًا بسبب غطرسة المعلم! العنوان "خوف العصافير الصغيرة" يتناص وعنوان المجموعة "الطيور الزجاجية"، لكننا هنا سنشير إلى التشبيه البليغ الذي يجعل الأطفال عصافير دون واسطة لغوية، فالعنوان يوحي بأن محور أحداث القصة هو (العصافير)، ولا يتبين أن المقصود هم الأطفال إلا بعد الشروع في قراءة المتن. المعلم كريه، مبغوض، لأنه مصدر الألم والرعب، وحتى بعد أن يغادر التلاميذ الصف الدراسي يستمر أثر أذى المعلم في نفوسهم: «تصبح أمنيتهم الوحيدة هي أن لا يأتي الغد. وبعدها تطير العصافير إلى أعشاشها منفطرة القلوب»(ص 33).
وجه الشبه البليغ بين الأطفال والعصافير واضح: البراءة، ويُوصله الراوي حدَّ التطابق بحذفه أداة التشبيه. العصافير تُذعَر وتُصادَر حُرِّيتها بحبسها داخل قفص، وجدران الفصل الدراسي تصير معادلًا موضوعيًّا للقفص. السكين مبعث خوف العصافير، وصراخ المعلم يصبح سكينًا أيضًا تذبح ضحك الأطفال وتقمع مرحهم. العصافير تمارس مرحها المعتاد بالطيران والزقزقة دون وعي أي عوامل تقتضي منها العكس، فهذه طبيعتها، وهذه لغتها أصلًا، لكن الحبس والسكين يمنعانها من عيش عالمها الحر، وطبيعة الأطفال شبيهة بطبيعة الطيور. هذا ما يبنيه سرد القصة ويُرسِّخه في وعي القارئ. المعلم يقوم بدور شرير عبر سلوك يهدم ويخرب ويرعب ويعمل ضد الطبيعة، وما دام الأطفال يشبهون الطيور في رقتهم وصخبهم وبراءتهم –حسبما يراهم السارد- فإن المعلم يشبه الأسد في شراسته وبعثه الرعب في القلوب. المعلم في هذه القصة عامل نفسي مستبد. وظيفة التعليم تخرج من إطارها المعتاد لتحتل وعي التلاميذ الأطفال بالعنف والتخويف ومقت الدراسة: «وبعد أن يعلن لهم بكل صراخه بأن الغد هو مخصص لتسميع جدول الضرب تصبح أمنيتهم الوحيدة هي أن لا يأتي الغد»(ص 33).
حسب السياق يتبين أن تشبيه السارد الأطفال بالطيور والمعلم بالأسد نابع من المعلم أساسًا الذي يفتك بطمأنينتهم صارخًا: «يا بهائم.. حفظتم جدول الضرب؟.. كما قلت.. الذي لم يحفظ سيأكله هذا الحزام»(ص 34). "بهائم" المنطوقة من قبل المعلم تجعل أفكار التلاميذ والسارد تتوارد باللغة نفسها، أي لتصفه بمرادِف لصيق بلغته أو شديد القرب منها. وإذا أمعنا في القراءة سنلاحظ تأثير لغة المعلم المستبدة العنيفة الشاتمة الشامتة في متن السرد بإخافته السارد وإرباك شخصيته. يمكن الإشارة هنا إلى مستويين: فني فاعل في إدارة السرد وبنائه، وآخر يوهن لغة السارد ويصيبها بالإعياء. إن محاولة كسر نمط الرعب والحيلولة دون امتداده لا يلبث أن يواجهها المعلم بتأكيد غطرسته. المحاولة تلقائية يقوم بها أحد الأطفال/ العصافير إثر تهديد المعلم الآنف ذكره، فكلهم يصمتون خائفين «عدا عصفور واحد كان يجلس في آخر الصف فاجأ الجميع بضحكة غريبة. اندهش لها الأسد وصوب له نظرات حادة كالسكين حتى قطعت ضحكته البريئة»(ص 34). لا يتوقف الأمر هنا. بل إن الضحكة المذبوحة بسكين نظرات المعلم تجعله يُغادِر إنسانيته في عيون الأطفال –وفي عيني السارد الطفل أيضًا- ويصير حيوانًا: «بدأت العصافير المرتعشة تتابع يدي الأسد ذواتي المخالب والعروق النافرة، يدان تتحركان وتمسكان المعدن الذهبي للحزام الأسود»(ص 34).
يشدد السارد على النتيجة النهائية وهي تنهب قلوب الأطفال: الخوف: «ازداد خوفهم مع كل دقيقة تزيد في أعمارهم»(ص 34). الخوف يقض مضجع العصافير، يفصلها عن واقعها ليصنع لها واقعًا آخر أثره بالغ وممتد سرعان ما يؤكده السارد «انتهت لعبة المرح وازداد خوفهم. ازداد وما زال يزداد حتى هذا اليوم»(ص 34)، أي أن الخوف لم ينته، رافق الأطفال حتى "اليوم". "اليوم" هنا زمن مستمر لصيق بكل أزمنة الأطفال اللاحقة حتى الممات. إن السارد لا يكتفي بذكر الخوف أو الإشارة إليه فقط، وإنما يؤكد أثره المهيمن والمتصاعد أيضًا: "ما زال يزداد". عندما يكبر الأطفال يكبرون خائفين. الطفولة مرحلة تنوء بأثقال ينوء بها كاهلها وكاهل العمر الآتي كله، فهي أثقال لا تتبدَّد، بل تتسم بالتمدد وثقل الوطأة.
سارد قصة "خوف العصافير الصغيرة" يسرد من زمن بعيد عن الطفولة، من المستقبل يعود، من الكبر إلى الطفولة متقهقرًا بروح يُلوِّعها استمرار الأثر. البراءة والمعرفة وجهان للحكاية نفسها، حكاية الماضي المستمر، الماضي الأبدي، حكاية المعلم المستبد والأطفال الذين كبروا لكنهم ما زالوا هناك لا يغادرون الزمن المر المحفور في الروح: «كانوا بحاجة إلى التنفس لكنهم لم يستطيعوا.. كانوا بحاجة إلى شيء لينسوا ولو للحظة هذا الخوف المنتشر هنا الذي لا يعرفون متى سيبتعد عنهم ويجعلهم يهنؤون براحة المعرفة»(ص 35). لا نعرف هوية السارد، لكننا نشعر بالقدر غير القليل من عدم الارتياح الذي يكنه للمعلم؛ «وكأن المعلم طلب منهم الاستعداد للحرب»(ص 33)؛ هكذا يبدأ السارد القصة. مبالغة السارد تُنير ظلمة المتن الحكائي وتجعله نتيجة منطقية لشخصية المعلم؛ كان الأطفال «بحاجة إلى التنفس لكنهم لم يستطيعوا»(ص 35)، فتهديد المعلم وشخصيته المرعبة يكتمان أنفاس طلبته، إنه، بمعنى آخر، نقيض الحياة، بل مُنتزِعُها، حابسُ الهواء، زارعُ الخوف في الأعماق الدفينة. كل هذا يخلق طفولة خائفة بدورها تؤسس شخصيات قلقة مريضة خائفة يستولي عليها التَّبلُّد، أحيانًا، والاضطراب، ويرافقها الترقب ونوبات الأرق والتفكير الممض على نحو متصاعد متواتر لا يستغرق الزمن الحاضر وحده فقط بل حتى الآتي.
قصة "طائرة تبدد لون السماء" شخصيتاها المحوريتان الولد حمود وأمه. أكثر من قصة في هذه القصة. يعنينا هنا الولد حمود والانتظار. الانتظار انتظاران، انتظار مؤقت وانتظار دائم. انتظار حقيقي وانتظار زائف. الانتظار المؤقت الحقيقي الذي يستغرق زمن القصة الفعلي هو انتظار "الموكب"، أما الانتظار الدائم الزائف فهو انتظار الأب المسافر إلى الهند. ولعل وصف انتظار الأب بـ"الدائم" و"الزائف" و"المتوهَّم" يستقر في وعي القارئ الذي يعلم –بواسطة السارد والأم- بما لا يعلمه الولد حمود، ويتعزَّز –الوصف- انطلاقًا من كون الاتصال بين الطرفين (الابن والأم من جهة والأب من جهة أخرى) مقطوعًا، فما سيحدث مرهون بالمستقبل الغامض، أي أن الأب قد يعود وقد لا يعود، لكنه في جميع الأحوال سيعود بالنسبة إلى الابن حمود، فالتخوف من عدم عودته يشغل الأم وحدها، «وقد أوهمت حمود بأن أباه سافر إلى الهند في رحلة عمل وسيعود، وحمود ما يزال ينتظر عودة أبيه من البلاد البعيدة التي لا يعرف عنها شيئًا سوى الحلويات ذات نكهة النارجيل التي تذوقها حينما رجع خاله راشد ذات يوم من الهند»(ص 10) مصدر اضطراب الطفولة هنا هو غياب الأب، لكن لنقف قليلًا عند عنوان القصة. لون السماء أزرق صافٍ تُبدِّده الطائرة؛ هذا ما يخبرنا به العنوان. إن اضطراب أعماق الشخصيات في قصص مجموعة "الطيور الزجاجية" ينشأ من عوامل مباشرة وأخرى غير مباشرة، وكل منها قد يؤدي إلى الأخرى. وكما هو واضح في عنوان هذه القصة "طائرة تبدد لون السماء" يحدث انزياحٌ من السبب المباشر إلى الصورة البليغة المُوجِزة. إن شخصية السارد حاضرة بقوة في جميع القصص، سارد يتوارى ويظهر بأسلوبه الخاص الذي يحاول استخلاص روح المضمون وبواعثه، أي الطفولة أو الصبا أو مسؤوليات الحياة المعقدة والاضطراب والقلق والترقب. من هنا فإن أغلب عناوين القصص – بما في ذلك عنوان المجموعة نفسه - يتسم بالقلق أيضًا ويحمل روح الطفولة، فـ"الطيور الزجاجية" عنوان يوحي أول ما يوحي بلعبة –مثلًا- كما قد يوحي بتعمد إقصاء البراءة ومحوها، وهو تأويل تتيحه مصائر شخصيات قصص المجموعة إذا ما نظرنا إلى مؤدَّى الأحوال ومراميها البعيدة. في الوقت نفسه فإن عنوانًا مثل "طائرة تُبدِّد لون السماء" يبدو للوهلة الأولى خارج السياق تمامًا في قصة تتعلق أحداثها بشخصيتيها المحوريتين: الطفل حمود وأمه، فالطائرة صورة عارضة لا يستغرق ظهورها وقتًا طويلًا. يحدث هذا في معمعة "الموكب" التي لم يفهم حمود شيئًا خلالها. "الموكب" أحد عوامل التعكير والتكدير والقلق المضاف إلى القلق الأصل –إن صح القول- الناشئ عن غياب الأب. الطائرة دخيلٌ غير محبوب بالنسبة إلى حمود. قلنا إن الأمر يستغرق وقتًا قصيرًا لكنه من وجهة نظر السارد أبعد غورًا من تلك اللحظات القليلة. الأمر الموصوف بالعارض والمصادفة يصير أساسًا. يبدو أن أثر ظهور الطائرة بالرغم من سرعته يبقى حبيس وعي الطفل حمود الباطن لينزع إلى سدِّ الأفق الأزرق الصافي ويستثير مكامن إحساسه بالغربة والقلق وفقدان الأب.
لنلق نظرة على ما حدث لـحمود: «حاول أن يقف ويمشي مرة أخرى باتجاه الشارع، لكنه تعثر بحجر وسقط، فشاهد السماء زرقاء صافية، وقبل أن يستمتع بالمشهد ظهرت طائرة مروحية اخترقت صفاءها، فتبدَّد لونها واستحال إلى رماد.»(ص 13). التعثر والسقوط يرفعان رأس حمود نحو السماء ليرى الطائرة. لحظات لا تنتهي بانتهاء حدوثها، ويمكننا القول إنها تُخلِّف أثرًا سيِّئًا في نفس حمود، ولهذا أصبحت عنوان القصة. على نحو من الأنحاء يدرك حمود القلق الذي تبعثه فيه رؤية الطائرة: «نهض حمود من سقطته ليسمع صوت أمه تنادي عليه، شاهدها واقفة بجانب الترمس وأدوات العصير، كانت مثل حمامة تدعوه لتحمله على جناحيها وتطير به إلى البيت.»(ص 13)؛ لنلاحظ المقابلة التلقائية اللاواعية التي يصنعها شعور الطفل ويصوغها الراوي: الطائرة والأم، الطائرة والحمامة، العام والخاص، الخارج والداخل، الرسمي والحميمي، البهرج والجوهري، الخوف والأمان. حمود طفل ليس كبقية الأطفال. طفل يميل إلى العزلة، الأم والبيت وانتظار الأب عوامل سعادته بينما الخارج والناس والطائرة التي بقَّعت زرقة السماء بلونها الرمادي عوامل قلقه. وهكذا لا نتفاجأ حين نستشعر ارتياحًا خفيًّا يكبر داخله حالما يشرع في الابتعاد عن الموكب: «لم يلتفت خلفه ليُشاهد ماذا سيحدث بعد مرور الموكب وما إذا كان الناس سيظلون هناك في انتظار شيء آخر أم سيعودون إلى بيوتهم سعداء، كل الذي يعرفه الآن بأنه موجود مع أمه بأمان»(ص 13).
إذا كانت العصافير رمزًا للأمان والبراءة في قصة "خوف العصافير الصغيرة" فإنها، في قصة "الطيور الزجاجية" –التي حملت المجموعة عنوانها- سبب للقلق والغضب والاستياء. مازن الصبي المراهق الآخذ في اكتشاف جسده وغرائب ما يقع له وحوله في المرحلة الوسيطة بين مفارقته الطفولة وولوجه مرحلة الصبا يُصاب بالضيق ويغرق في كابوس أسود. عبر ستة عناوين داخلية يسرد الراوي مفارقات عديدة يخوضها "مازن" توضح مظاهر الحياة الغريبة التي تُشارك في صنع شخصيته. وإن بدا أن هذه الشخصية تتسم بقدر من الحيلة والتماسك إلا أنها لا تنجو بصاحبها في نهاية المطاف من افتراس الأفكار وأسباب القلق باجتماعها عليه دفعة واحدة. مكمن قلق الشخصيات في مجموعة "الطيور الزجاجية" دائمًا نفسي يخضع لسلوك خارجي يزعزع الثقة ويحبط ويؤلب الأفكار والهواجس على التلاعب بالأعماق الهشة والنيل منها على نحو متصاعد يصير عاديًّا أحيانًا، بمعنى أن وتيرته معتادة بالنسبة إلى الشخصية على الرغم من كونها أذى نفسيًّا.
أحيانًا يكون حدث القصة غريبًا، كما في "الطيور الزجاجية"، وأحيانًا يكون بسيطًا، كما في قصة "إنقاذ"، حيث، أيضًا، يتداخل حدثٌ وحدثٌ يسبب أحدهما اختلال اتزان الشخصية ومحو فرحها في لحظة وكأنه لم يكن. الحدث هنا يكتفي بتقديم نفسه بتواضع دون اعتناء باللغة إلا بقدر ما تسرد وتقدم المعلومات، لغة بسيطة، قنوع إلى أبعد مدى، تفتقد ألق السارد المعتاد في قصص يحيى سلام المنذري. القلق النفسي، العامل المشترك في قصص المجموعة وأغلب قصص المنذري، يحتل مساحات زمنية طاغية مقارنة بأوقات سكينة الشخصيات وسلوكها المطمئن. لا يُقدِّم السارد أعمارًا محددة للشخصيات –كما أسلفنا- لكن الطفولة والصبا تكادان تمثلان ظاهرة في قصص يحيى سلام المنذري. وإذا أمعنا النظر فإن زمن السرد ومناخه يتقهقران نحو سنوات تكاد تندثر ويحل مكانها زمن ومناخ جديدان ينتصران لقيم أحدث تزيد وطأتها على الشخصيات وتفاقم قلقها.
غياب الآباء على ذلك النحو الحزين، ملابس الأم التقليدية، الحواري والدروب الترابية القديمة... كل هذا وإن بقي موجودًا إلا أن نظرة مدققة تثبت أنه يعود إلى سنوات خلت. ليس القصد هنا أن زمن القصة يؤثر سلبًا في وهجها أو قراءتها، إنما –ولا بد من الالتفات إلى هذا- يعني أن الكاتب نفسه يُفارق مرحلته العمرية الحالية آناء الكتابة ليعود إلى فترة طفولته هو وصباه هو على وجه التحديد!. ويجب الانتباه هنا ووعي أن الشخصيات ليست كاتبها على الإطلاق على الرغم من كل ما قد يُحمِّلها الكاتب إياه، واعيًا أو غير واعٍ، من شخصيته. ليس هذا انتقاصًا من قيمة قصص يحيى سلام المنذري –خصوصًا أن هذه الملاحظة تثير شجونًا نقدية وعاطفية في الآن نفسه- بل محاولة للاقتراب من أفضية هذه القصص. إن قراءة سِيَر كتَّاب العالم تثبت أن الأمر حتمي لا يدعو إلى الاستهجان أو الانتقاص.
لعل أحد التأويلات الممكنة هو التشبث بالحياة بمقاومة تقدم الزمن ورفض الانصياع له عبر الشغف بمراحل بعينها من مراحله مهما كان وقعها، فهي تمثل ألقًا خفيًّا يترسب في الأعماق ويزدهر بالتذكار، أو بالأحرى بالاستعادة التي تقوم بها الكتابة لتنتشلها من الأعماق السحيقة وتجعلها، بمعنًى من المعاني، واقعًا معاشًا في المتن السردي، ففي هذه الأثناء ينفصل الكاتب عن الحاضر القائم ويُحِلُّ مكانه الماضي، ليُلغي الحاضر ويُنشئ مكانه واقعًا ما عاد ماضيًا وإنما هو وحده المضارع المستمر، وهكذا فإن القارئ المتفاعل والنص بالضرورة يدخل زمن القصة، زمن الطفولة والصبا، ويعيشه الآن.
إن الإمكانية الأمهر في السرد هي قدرته على بناء عالم تتبدَّى فيه الحقائق والأوهام على نحو خالق مبدع يتطلَّب بشدة كاتبًا يسبر أعماق شخصياته بدراية تجعلها حقيقية فاعلة تخاطب حواسَّ القارئ بإلحاح محبوب وشادٍّ وضليع حدَّ انتفاء الفرق بين الواقع والخيال. السارد لا يتلبس أرواح شخصياته فحسب، بل يكونها كما هي، يكون هو الطفل والشاب والعجوز والنجار والبائع والحلاق والذكر والأنثى والبريء والمجرم... إلخ، لأن ذلك العالم لن يجدر باكتساب هذه الصفة إلا بمشقة يخبرها الكاتب المتوحد بعالمه ذاك. لذلك عندما نقول إن يحيى سلام المنذري الكاتب المبدع ينفصل عن زمنه الراهن ليعود سنوات إلى الوراء ويصير (وهذا فعل تحوُّل من حال إلى حال) هو نفسه ذاك الطفل أو الصبي فإن الأمر ينطوي على معنى أبعد غورًا من أي تأويل سطحي يتبادر إلى الذهن ولا يرى فيه إلا إلصاق يحيى بتلك الشخصية أو هذه ممن يعتورها الاضطراب النفسي ويرسم القلق والخوف ملامحها. إن هذا الأمر يحتاج إلى كتابة أبعد مدى من هذه العجالة.
قد تكون هذه مناسبة للتذكير بالكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا الفائز بجائزة نوبل في الأدب عام 2010م، فقد عرف عنه ولعه بالكتابة عن فترة الصبا وأيام المدرسة. ويمكننا هنا ذكر اثنين من أعماله المهمة في هذا السياق هما مجموعته القصصية الوحيدة "الرؤساء" (1958) وروايته "الجراء" (1966)، وفيهما تحتشد شخصيات الصبيان وطلاب المدرسة بما يرافق هذه المرحلة من اكتشاف الذات نفسيًّا وجسديًّا وبداية سلوك المسالك التي تحدد المصائر لاحقًا. ولا شك أن أكثر من إشارة لأعمال يوسا، وكذلك بعض أحاديثه، يؤكدان نشوء كتابته من ذكرياته الشخصية وبعض القصص الحقيقية الواقعة في بلاده. هذا ما يقوم به أساتذة السرد الكبار، وبالتالي لن يكون الأمر استثناء بالنسبة لسائر الكتاب الآخرين.
كثيرًا ما يكون الآخر في قصص يحيى سلام المنذري مصدر قلق وخوف وعُقدة نفسيَّة. في قصة "ليلة الخنجر" يذهب الصبي ناصر وأمه لحضور عرس أحد أقاربهما. عندما تسأل الأم ابنها عن استعداده للذهاب يجيبها بسؤال: «نعم أمي .. أنا مستعد. لكن من الذي سيحضر هناك؟»(ص 29)؛ سؤال ينم عن قلق لا يزال متواريًا، أي أنه يبدو استفهاميًّا بحتًا أول وهلة، لكن، حين الاستمرار في قراءة القصة، يكشف وَهَنَ طمأنينة "ناصر" واستئناسه بالآخرين. إنه –مثل أغلب شخصيات يحيى سلام المنذري- متقوقع، مستوحد، يرى نفسه محميًّا داخل البيت، فاقدًا الراحة خارجه، برغم أن الأمر يرتبط بمناسبة اجتماعية تستغرق ساعات محدودة، لذلك بعدما تجيبه أمه بأن كثيرين سيحضرون أغلبهم من أقاربه «شعر ناصر بحزن يسري في قلبه ولا يعرف السبب» (ص 29). لماذا شعر ناصر بالحزن؟ وإن لم يعرف السبب إلا أنه، أكيد، سيكون خارج البيت، بعيدًا عن أمه، أي خارج نطاق الحماية المعهود، وسط آخرين لا تبعث رؤيتهم السعادة فيه، ليس بسببهم هم بالذات فكونهم "آخرين" سبب كاف جدًّا للشعور بالحزن. الحزن رفيق مزمن لأغلب شخصيات يحيى سلام المنذري، حتى الصغار لا يسلمون منه، كما نرى الآن بالنسبة إلى ناصر.
في قصة "طائرة تبدد لون السماء" يخبرنا الراوي بسبب غياب والد حمود، لكن في قصة "ليلة الخنجر" لا يُعلِّل الراوي غياب والد ناصر، إلا أن المعلومات الظاهرة والمنطوية في مسار السرد والأحداث تؤكد أن الوالد متوفى منذ أوانٍ بعيد، وبالأصح منذ فترة كافية لأن ينساه ناصر. لعل الدليل الدامغ على ترجيح صحة هذا التأويل هو ما يحدث لناصر حال وصوله ووالدته بيت العرس: «شاهد على أحد الجدران لوحة بها خنجر وأخرى بداخلها سيف فضي فشعر بخوف.»(ص 29). بالنسبة إلى طفل عُماني يمكن استساغة هذا الخوف، هنا، كون الولد ناصر يعيش وأمه فقط، فالأب غائب غيابًا تامًّا، حتى إن الراوي لا يأتي على ذكره أبدًا، فهو غير موجود أساسًا، ولأنه مات منذ سنوات طويلة (بالتأكيد سنوات تعادل سنوات عمرناصر غير المحددة في نص القصة) فلا شيء يستدعي تذكره. وبناءً على هذا الافتراض نستطيع فهم خوف ناصر من رؤية الخنجر والسيف.
وربما للسبب نفسه يصبح ناصر شخصية كثيرة الشرود والتوحد والهواجس الداخلية. كل شيء يبعث القلق فيه؛ إنه شخصية مشتتة منكفئة على نفسها تسهل دواعي اضطرابها وسيطرة الأفكار السالبة عليها، فهو وحيد أمه، عالمه الآمن الأم والبيت وعداهما يصير خطرًا محدقًا به. في العرس «التقى هناك ببعض أقربائه الذين كانوا من عمره، وتذكر بأن حاجزًا كبيرًا زرع بينهم رغم مشاركته اللعب والضحك والجري معهم.»(ص 29). هل هناك نوع من الفصام في شخصية ناصر؟. ماذا يعني السارد بـ«تذكر أن هناك حاجزًا كبيرًا زرع بينهم»؟. "تذكر" تعني استحضر ما كان موجودًا سابقًا فما الذي تذكره تحديدًا؟ متى انبنى هذا الحاجز بينه وبين الآخرين؟. يقدم النص ما يتجاوز جملته المباشرة ويعني أكثر وأبعد، ولذلك أشرنا قبل قليل إلى أن شخصية الصبي ناصر كثيرة الشرود، على الرغم من أن الراوي لم يخبرنا بذلك مباشرة. التأويل هنا ليس مقحمًا، فمهمتنا، كوننا قراء فاعلين، وعي ما تحت السطح وبين السطور، فكل كتابة إبداعية متميزة تتضمن قدرًا غير قليل من المحو، كل كتابة مبدعة تهزأ من القراءة الخاملة.
ما زلنا هناك، في قصة "ليلة الخنجر". أهي الخنجر سبب "تذكر" ناصر الحاجز الكبير بينه وبين الآخرين الحاضرين في العرس؟ يُوهِم الراوي قارئه بأن الفكرة المركزية في هذه القصة هي دشداشة ناصر القصيرة، ثم يبين السرد أن الصبي ينسى قلقه في البيت ليقوم على أنقاضه قلق آخر تسببه رؤية لوحة السيف والخنجر في واجهة بيت العرس، ثم البخور وخنجر العريس.
لا يُوضِّح الراوي سبب شعور ناصر بالغربة ("لماذا أنا غريب وسط أقربائي؟" ص 30)، لكن السياق يظهر استعداد الصبي التلقائي للتقوقع والانجرار خلف الأوهام والأخيلة، فما يراه في العرس (خنجر، دخان بخور، ازدحام..) يصبح روابط للتمادي في استدعاء صور مخيفة (تصاعد دخان البخور –مثلًا- يرسم صورة مارد).
أشرنا آنفًا إلى أن قلق ناصر من رؤية الآخرين قد يكون نابعًا من أنه يعيش مع أمه فقط، إذ لا وجود لأبيه في القصة. ما زلنا نرجح أن يكون أبوه متوفًى، ونضيف: إن استغرابه عند رؤية الخنجر والأسئلة التي عصفت به بشأنها تعود إلى السبب نفسه أيضًا. ومن هنا نستدل على عدم رؤية ناصر الخنجر سابقًا أو عدم اقترابه منها على النحو الذي حدث في بيت العرس. يحدث هذا على الرغم، أيضًا، من أن الصبي تذكر أنه التقى بـ"العريس" "في مجلس بيت جده"، الأمر الذي يجبرنا على التساؤل عن سر خوفه من الخنجر في بيئة تُعَدُّ فيها مظهرًا تقليديًّا معتادًا في مناسبات الرجال. أيعقل عدم معرفة ناصر الخنجر من قبل؟. لا يقدم الراوي أي معلومات استرجاعية، مثلًا، توضح ارتباط مشكلة ناصر بحادثة سابقة، وهذا أمر يجبرنا ثانية على الاعتقاد بأن المشكلة نشأت في العرس فقط. هل للأمر علاقة بالمدينة والغياب التام للأب؟ فما دمنا نقرأ ما بين السطور وما تلمح إليه الأحداث ويمكن فهمه عبر المناخ العام، على هذا الأساس يمكننا ربط سلوك شخصية ناصر بطبيعة الحياة في المدينة والعزلة التي تفرضها على من يعيشون فيها، إذ تكاد العلاقات الاجتماعية تكون معدومة إلا لمن يتعارفون من قبل. قد يكون هذا أحد أسباب استغراق ناصر في القلق والخوف والنفور المرضي من الآخرين وتصاعده حتى بلوغه انعدام تقدير الذات والشعور بالنبذ. يؤكد سلوكه أنه صبي منعزل لا يعرف أكثر من البيت والأم، وحين يفارقه الخوف من الخنجر ويستبد به الفضول يرتكب أفعالًا نزقة تُفاقِم اضطرابه وحزنه. إن فعله يتجاوز نزق الصبا المعتاد، فالصبية الآخرون لا تصدر منهم أفعال كأفعاله، ويندفع نتيجة عدم اعتياده الحياة الاجتماعية السوية إلى الطيش وإثارة حفيظة الآخرين بتهوره: «وشعر ناصرحينها برغبة في أن يعرف ماذا يوجد في ذلك الخنجر فقرر أن ينتهز الفرصة ويستله من مكانه، وفعلًا وبدون أن يعمل حسابًا لشيء وبنزق طفولي حاول أن يسحب رأس الخنجر لكنه وجد مقاومة من العريس إذ أمسك بيديه وعصرهما بقوة صارخًا في وجهه أن يتأدب ويبتعد عنه.»(ص 31). هذه خلاصة قلق ناصر طيلة حفلة العرس: محاولة للسيطرة على الخوف بجرأة الفضول يسكتها تأنيب "العريس"، ثم تأنيب آخر من امرأتين. القلق والاضطراب يكبران داخله، حتى إن مصادر خوفه تتراجع وتنسحق وتصير هي الأخرى مصادر للتأنيب والسخرية والحزن وزعزعة الثقة في النفس: «بينما شاهد المارد يخرج من الغرفة ضاحكًا ومكركرًا.»(ص 31). يحتشد الخارج للنيل منه. كل من حوله يصبح عامل تحطيم نفسي لأن سلوكه اللاواعي عرَّضه لسلسلة تأنيب وتهشيم وإحباط متتابعة أفقدته الاتزان والمقاومة وأخمدت جذوة الفرح التي لم يكد يقترب منها في ليلة العرس تلك حتى استحالت أشد ضراوة من قبل: «بينما إحدى المرأتين أمرت جميع الأولاد بالخروج ولكن قبل ذلك تناولت زجاجة عطر وأخذت ترش في ملابس الجميع ولكنها لم تقترب من ناصر ولم تعطره كالبقية، حينها شعر بأنه كائن منبوذ وأنه يكره الخناجر والسيوف، كما يكره الدخان الذي يتحول إلى مارد ضاحك وغريب الأطوار»(ص 31).
شخصيات يحيى سلام المنذري –حسبما رأينا بعضها- محبطة، مكسورة، هلِعة، حزينة، تعاني أوضاعًا مادية مزرية، يؤسس القلق والاضطراب طفولتها وصباها لينموا في دمها وتكبر بهما. بين تارة وأخرى، في قصص عديدة، تسلك الشخصيات مسالكها بناء على "شر البلية ما يضحك"، إذ يصيب سوء الحظ صاحبه بخفة –وربما استخفاف- تُعلي نبرة سخرية يضمرها السرد ولا يلبث أن يسم بها أغلب القصص، محوِّلًا إياها، أحيانًا، واقعًا معتادًا تجري الأحداث في إطاره.
الحزن ميزة أغلب الشخصيات إذن، ليس هذا فحسب، بل إنه يصبح ميزة الفضاء الذي يحتويها أيضًا. في قصة "البيوت الحزينة" نقرأ كابوسًا واقعيًّا ونراه رأي العين وهو يحصد الأرواح ويُفرِغ البيوت من ساكنيها. في هذه القصة يحضر الموت بصيغ عديدة يستدعيها السارد بحس المفارقة والتكرار العبثي الذي يسفر عن الموت في حوادث السيارات، موت يفضي إلى هزيمة كل الأسلحة ويوجج الغموض والارتباك والغضب ولا يصل سوى إلى نتيجة واحدة: الحزن والفجيعة العصيين على الفهم الواضح. البيوت تحزن على من غادرها ومات ولن يعود إلى أحضانها ثانية. ينبش الموت الذكريات البعيدة ليتذكرها من بقي على قيد الحياة، لكن، كأنما الأمر ينطوي على تحدٍّ لاإنسانيٍّ سافر، لا تكف حوادث السيارات عن حصد المزيد من الأرواح. هناك طفولة وصبا يمزقهما الحزن دون تفسير، وهنا من يشب عن الطوق ويصعد سلم العمر دون أن يتمكن من السيطرة على أي وعي أو فهم لدرجة السلم الأعلى المثلمة فجأة، أو يستطيع التشبث بطمأنينة أو راحة. الحياة كلها سلسلة مراحل يحقن الآخرون والأحداث أوردتها بمحلول الحزن والقلق والاضطراب والأرق.
الطفولة والصبا مرحلتان تتداخلان كثيرًا في مسار شخصيات قصص يحيى سلام المنذري. يروي الكبار القصة أحيانًا لكنهم لا يستطيعون الابتعاد كثيرًا عن إحدى المرحلتين، أو كلتيهما في أثناء تداخلهما وصعوبة فصل إحداهما عن الأخرى. لنتذكر قصتي "زكريا" و"حبات البرتقال المنتقاة بدقة" من أولى مجموعات المنذري "نافذتان لذلك البحر" –على سبيل المثال-، ففي الأولى حزن شفيف منقوع بالفقر وشر البلية المضحك، وفي الثانية أب وأطفال ينتظرونه ورصيف حارق ما زال يشعل القلق والهواجس حتى هذه اللحظة.
إلى أين ستذهب الشخصيات عن طفولتها وصباها؟
في قصة "يوم واحد يتلألأ في عينيّ" تسقط الشخصية المحورية في القصة سقطة مدوية على الأرض تكاد تكون سببًا لموتها. ولأنها سقطة ليست كغيرها وتصيب الرأس خصوصًا فإنها تعبر بالشخصية برزخًا بين الحياة والموت، وكأنها تتردَّد في ترجيح أحدهما والإفضاء إلى أمر حاسم في أي حال، منتصرة في نهاية أمرها المرعب الغامض إلى أحد السرين من جديد: الحياة!. لأن السقطة كانت على ذلك النحو المتماهي في الأسرار والأسئلة يعود الراوي (الكبير) إلى طفولته: «سألني ذات مرة أحدهم: "كيف كانت طفولتك؟" أجبته: "لم أكن طفلًا ذات يوم" فاعتبر إجابتي استفزازًا له وتحديًا.. تناول حجرًا وشجَّ رأسي به وهرب. لم أعبأ بالدم الذي تدفق بغزارة.. لأنه تدفق قبل ذلك مرتين في المكان نفسه.. هكذا على مدار العمر يتدفق كالنافورة ويبلل ملابسي بلزوجته الحارة. بعد أن هرب ذلك الشخص هربت أنا من دمي.. ولم يكن أول هروب.. ولا أريد أن أحصي أيام هروبي.. أسأل كيف وقعت في تلك الحفر النتنة؟»(ص 79، 80).
الطفولة والصبا باب الحياة المفضي إلى درب الحزن والقلق المزمن الذي مهما تعددت مَفارِقُه يتناسل من تلقاء نفسه ويسم الشخوص بسيمائه؛ هذا هو درب قصص يحيى سلام المنذري. حواجز لا تنفك تقف في وجوه الشخصيات، أطفالًا وصبية ويافعين وشبانًا وكبارًا في السن. يكفي هنا تذكر عناوين بعض القصص وربطها بتأويل معنى الزجاج والمرايا/ الألم/ الممنوع/ العقبة/ الانعكاس/ الجوهر/ الحقيقة/ الزيف/ الهشاشة: «من جدار أبيض إلى جدار أسود"، "جدران ومرايا"، "الطيور الزجاجية"، "الباب الزجاجي"، "القطط الزجاجية».
في قصة "من جدار أبيض إلى جدار أسود" تنبني تقنية السرد على درجة حرارة السارد المريض، وبمهارة مُحْكَمَةٍ ينتقل السرد من الواقعي إلى الخيالي والعكس دون تكلف تبعًا لحمى المريض واستفحالها بسبب الانتظار الإجباري وتصاعد سخونتها حتى تسليمها إياه إلى الهذيان. في هذه القصة تُنار بعض عتمات القصص الأخرى. في هذه القصة قصص أخرى أيضًا وليس قصة السارد فقط، السارد المثقف الغضوب الثائر المضطهد الموظف العائد إلى مرحلة الطفولة أيضًا. روح مأساوية عبثية تنطلق من الواقع المنهِك لتنفصل عنه وتلجأ إلى الخيال صانعة واقعها الخاص متماهية فيه على نحو غير مقحم تختفي فيه الحدود ودون شعور يصبح القارئ بدوره في قلبه النابض بالغرابة واللامعقول (أيهما اللامعقول: الواقع أم الخيال؟). ولنمعن النظر في ما يقوله السارد (الكبير) هنا ونتذكر الأطفال الآخرين في قصص المجموعة الأخرى. في قصة "ليلة الخنجر" –مثلًا- يسرد السارد ما يقع لـناصر وشعوره بالنبذ والحزن، أما في هذه القصة فالسارد (كبير السن) يسرد في "مشهد (5)" مشهدًا لطفل في ردهة انتظار بمستشفى. السارد منغمس في ملاحظة الآخرين ووصف أفعالهم ونقدها، وفي الوقت نفسه يسرد ما يتعلق به هو شخصيًّا كونه الشخصية المحورية في القصة، مراوحًا بالتتابع بين العام والخاص. يقول السارد: «الطفل القلق يخرج من جيب دشداشته الصغير منديلًا ورقيًّا مشرذمًا.. يأخذ منه قطعة صغيرة.. يدببها بعناية.. ثم يدخلها في أنفه وينظف.. وبعد أن ينتهي يرمي بها على الأرض.. ثم يقطع أخرى.. وهكذا. لا بد وأن أباه يفعل الشيء نفسه في البيت.»(ص 86، 87). تحت تأثير الحمى يسرد السارد مشهد الطفل وما يقوم به، مستنتجًا، وبانتقاد ضمني، أن الطفل يقلد والده، فهو يدين فعل الطفل ملقيًا التبعة على والده. بعد ذلك مباشرة يبدو أن حرارة حمى السارد ترتفع فينتقل مباشرة من الواقع الذي يشاهده أمامه إلى الخيال الذي تستحثه الحمى، دون شك، وتجعله واقعًا مرئيًّا في خضمِّها يستشعره القارئ، أيضًا، ويراه، ولا يبدي استغرابًا من سرعة الانتقال بين العالمين، لأن ما يحدث هو إحلال كلي تلقائي يخلقه الاستغراق خلقًا لا يصمد الشك أمامه ولا يُذكَر أساسًا، وكأن الأمر تتمة لما سبقه وليس استطرادًا وانتقالًا.
لنعد قراءة الجملة الأخيرة الآن ونكمل: «لا بد وأن أباه يفعل الشيء نفسه في البيت. تحرك الطفل وطار من النافذة ناحية غابة أشجار.. أخذ يقطف أوراقًا خضراء وينظف بها آذان الناس. أردت أن أناول الطفل منديلًا ورقيًّا نظيفًا وجديدًا.»( ص 87). هكذا نلاحظ عودة السارد ثانية إلى الواقع بالتلقائية نفسها دون أي فصل بين صورة الغابة والأشجار والأوراق التي يقطفها الطفل وينظف بها آذان الناس وصورة الطفل والمناديل الورقية في المستشفى. هذا فعل الحمى. إن الإبداع هنا هو جعل المشهدين مشهدًا واحدًا مستمرًّا. صحيح أن هناك استحالة من مشهد إلى آخر لكنها تحدث بسلاسة تمحو عنها صفة التحول وتكسبها صفة الوحدة والتتابع والتلقائية.
مرة أخرى، ولتبيان غرض اقتباسنا الأساس، لنعد لإكمال المشهد من حيث بترناه: «أردت أن أناول الطفل منديلًا ورقيًّا نظيفًا وجديدًا.. لكنني ضحكت لأنني حتمًا سوف أفتح للطفل جرحًا لن ينساه مدى حياته.. سوف يتذكر حينما يكبر أن شخصًا استهزأ بفعلة قام بها وهو طفل. لن أفعل ذلك.. دعه يفعل ما يحلو له. أسأل: لماذا عاد من الغابة؟»(ص 87).
http://www.alkalimah.net/article.aspx?aid=4893