الجمعة، 3 يوليو 1998

مجموعة اللون البني .. عين القاص في رحلة الرصد

يحيى سلام المنذري

في رحلته عبر (اللون البني) اصطاد القاص محمود الرحبي مشاهد تفصيلية - الى حد ما - لكائنات حية وغير حية واجواء واماكن هزته من اعماقه، فكان ان ترصدها منذ زمن. وبدأ ينسج خيوطها بهدوء العارف، وبتقنية الفنان، الى ان انجز رحلته / مجموعته الأولى هذه على ارض مقسمة الى ثلاث مناطق مكتظة بالكائنات المختلفة والفانتازيا، وجميعها التقطت اما عن طريق عينيه وذهنه محتفظا بجميع المشاهد المؤثرة، أو عدسة مجهره الفنية التي تكبر الاشياء والمشاهد أو كاميرته التي تلتقط (مثلا) صورة تركز على شخص معين ألا أنها أيضا تحتوي على جميع الأشياء من حوله.

من هنا ينوع القاص محمود الرحبي مواضيع الرصد لديه من مشاهد وانفعالات تتراوح بين التلقائية والصنعة الفنية، والمشهد لديه حالة تجر وراءها حالات كقصة (عين الذبابة.. ص 21). أو يكون المشهد حالة مكثفة مختزلة تنم عن سلسلة من التساؤلات كقصة (حضيض.. ص 29)، وثمة قصص تولدت من تفاعل الكاتب مع الكائنات المختلفة من حوله، وعلى سبيل المثال قصة بعنوان (سقف العرين.. ص 43) التي تلتقي في موضوعها مع قصة (ركلات متوالية.. ص 45)، إذ في القصة الأولى السارد يستخدم أفعال الأمر كثيرا فيوجه نفسه أن ينزل الى الشارع بعد أن يخرج من البيت ويتعامل كفنان مع الأشياء الأخرى الى أن يأمر قدميه على الطيران ويعود لبيته ويصرخ من أثر كل شيء شاهده وتفاعل معه، والقصة الثانية يستفيق البطل ويخرج من البيت ليتفاعل مع كائنات الصباح وبعدها يعود الى البيت، اذن القصتان لهما بداية واحدة ونهاية واحدة وهما قابلتان لدمج.

وهناك قصص يركز القاص على استخدام عدسة مجهره بشكل واضح لتكبير التفاعلات، مثلا في قصة (وجه.. ص 49) ذكر فيها معظم التفاصيل الخارجية للجسد. وهي على الترتيب حسبما وردت في القصة: (الديدان /الخدان /الفخذان / الاكف / الاظافر / الانف / الوجنتان / الرقبة / حلقة الاذن / رأس الذقن / الابهام / الحلق / الرأس / العينان / الشعر). وجميعها كانت تحت المجهر أطلق عليها القاص تفاعلات كيميائية فكانت كائنات تتألم، ولتفاعلاتها رواسب حارقة لدى من يملكها.

اما عن استخدام القاص لتقنية الكاميرا فهو واضح في قصة (ملهيات الضجر.. ص 51) حيث تتحول عيناه (وهو جالس على عرشه الخاص فوق سطح البيت) الى كاميرا تصور الاشياء من ثلاثة اتجاهات، يبدؤها من الأسفل فيرصد ما تحت السطح في لقطات بارعة، مثل: (رؤوسا بشرية تلاطم بعضها بعفو سريع الحركة كأنما شيء يركلهم من الخلف كل باتجاه وظيفته.. ص 51)(السيارات وهي تتعارك بالمزامير والغبار.. ص 51)، أما الاتجاه الثاني هو الوضع المستقيم للكاميرا (أي بين الأسفل والأعلى) فيصور الأشياء التي تقابل سطح البيت مثل (طوابير البنايات المتراصة مثل أسنان كبيرة.. ص 52)، ثم ينقل كاميرته الى الأعلى حيث السماء وفقاعات السحب، لتستيقظ ذاكرته عن الطفولة والقرية حتى ينزل من السلالم ويجد نفس (التفاصيل كانت تحوم تحت عرشه الخشبي).

***

وهذه قراءة سريعة لقصص القسم الأول من المجموعة، وهي تسع قصص، التي من بينها خمس قصص ضجت بحشد من الحيوانات والحشرات، فكانت معركتهم مع البشر وخصوصا المسنين منهم في مشاهد ممتعة، مثل (دجاجة، ديك، قط، بطة، ماعز، فراشة، ذبابة،، الخ)وفي المقابل (عجوز وحيدة، رجل مسن، فتاة، طفل..الخ)، وهذه القصص هي: (ظل الريش، قمر السكران، مشهد الفجر، عين الذبابة، وأفعى الغروب).

1- ظل الريش.. ص 9

بداية القصة حب بين عجوز ودجاجتها، وحب بين الدجاجة والديك صاحب الرجل المسن جار العجوز، ولكن النهاية سيمفونية حزينة سببها قط متوحش يستخدم أنيابه لينهش الديك المربوط وبالتالي تموت الدجاجة من الحزن عليه، إذن سبب هلاك الدجاجة وحبيبها هو الحب وحب التملك من جهة العجوز ناحية دجاجتها، القصة تحاول ان تقول انه رغم الحب القابع في القلوب -الحب الخفي – إلا أن البيئة وتقاليدها كفيلة بالقضاء عليه، فالعجوز تعيش وحيدة مع دجاجتها فاتخذتها رفيقة حميمة لدرجة أنها تغار عليها حتى من الأطفال ومن حبيبها الديك، مما يبعث في الدجاجة الخوف والحزن، (لكن الدجاجة تطل من الشرفة المشبكة وتراقب حركات الضيوف وحلقها يخفق من الخوف).. ص 9، والجدار الطيني في القمة كأنه الحاجز الذي يولد الألم والمتعة في نفس الوقت لجميع أبطال القصة، فهو يفصل الدجاجة عن حبيبها الديك، اما العجوز فاتخذته وسيلة استمتاع بالتفرج على تحركات المسن ثم يكون الثقب في ذلك الجدار وسيلة محادثة وتبادل المرح بينها وبين الرجل المسن، اذن هذا الحاجز أليس هو المجتمع المنغلق الذي يحاول أهله البحث عن مساحة ولو كانت ضئيلة كثقب صغير واستغلاله - ولو كان في السر - نحو البوح والمتعة وكشف العواطف الخامدة، إنه الحاجز المر الذي كان سببا في قدوم القط المتوحش الجائع وانقضاضه على الحب.

2- قمر السكران.. ص 12

كأنما نحن أمام مشهد سينمائي عذب أبطاله قمر وبركة وماء وبطة، ثم زائروا البركة يتوافدون ليرسموا دوائر صغيرة وكبيرة ويذهبوا، القمر يحرس بركة الماء من فوق ويمدها بالألوان وكذلك الزائرون، والبطة في بطن البركة ماكثة كأنه محيطها الذي لا تتنازل عنه وفي نفس الوقت ترحب بالمارين، القصة تصور محيطا هادئا، تلعب فيه موسيقى ماء البركة دورا كبيرا، لوحة من الدوائر والكائنات، قطرات عذبة تلطف ذهن القاريء، تحفزه على التأمل لهذا المشهد الشاعري الذي يدور في أحداث سريعة تشبه الحلم، فهل يريد الكاتب أن يقول أن الكل يتجه ناحية الجمال إلا أنه يظل ماكثا في المخيلة مثل مقطع شعري حفظ ذات يوم، ويتبين من خلال هذه القصة مدى حرص الكاتب على بوح ما حفظته مخيلته من مشاهد أعجب بها وتأثر، بوح على طريقته.

3- مشهد الفجر... ص 17

الديك بطل لمشهد الفجر دائما، فهو يصدح في الأعالي فيصطدم صوته مع أصوات أقرانه في الفضاء، إن مشهد الفجر والديك رصد آخر للكاتب وضح فيه انفعالات الديك، إنها عين الكاتب تجذب ما يمكن الكتابة عنه في حالة تفاعله معه.

4- عين الذبابة. ص 21

السارد يتلبس ذبابة أو يجري وراءها متابعا تحركاتها السريعة بين الناس والأشياء، رصد آخر متقن، عين الذبابة هي عين الكاتب، وبالاحرى هناك عينان، عين ترصد تحركات الذبابة ومشوارها وانفعالاتها، وعين أخرى ترصد تحركات الناس والأشياء كالرجل المسن والشاحنة والاطفال والدجاجة وغير ذلك، ومن خلال قصة الذبابة تتوالد قصص اخرى مشوار الذبابة هو الذي يجرنا إليها وتكون هي الرابط بينها، فهي تنتقل من مكان الى مكان ومن مشهد الى مشهد (تقفز الذبابة في جهة المرأة، وتنزلق في دائرة أذنيها) وبعد ذلك.. (تحط الذبابة فوق كتف المسن) الى آخر هذه الانتقالات، وهكذا تظل تنتقل من كائن الى آخر أو من قصة الى أخرى ناسجة بذلك خيوط الربط ، الذبابة كائن يكاد لا يرى، كائن مهمش يداس بالاقدام ويقتل بأصغر وأضعف آلة يمتلكها الانسان، ولكنه له القدرة على أن يخترق بجسده وعينيه كل المنافذ، أن يكشف كل الأسرار البيوتية وغيرها، وكأنما هي كاميرا خفية ترصد ما يمكن رصده، ولكن مصيره هو الموت حينما يكتشف، الذبابة تظل كائنا ممقوتا من المجتمع والبشرية للأسباب المعروفة لدى الجميع، وهكذا كان مصير ذبابة محمود الرحبي هو الموت. أن هذه القصة قابلة للامتداد ونسج قصص كثيرة حولها من خلال رحلة الذبابة واختراقها الاماكن، بمعنى أن القصة قابلة لمشروع رواية، أوليست عين الذبابة في هذا القصة هي عين الكاتب التي ترصد المشاهد؟ وفي هذه القصة تصاوير طريفة، مثل (فوق الممر يهتز كف رجل مسن، مسن وأعرج، تسقط الذبابة فوق ذلك الكتف، المسن والذبابة يمشيان كصديقين شاخصين في الهواء). ص 21. (تحلق الذبابة فوق فتحة الكيس وتنظر، تتوامض ألوان خفيفة في داخل الكيس، ترفع الذبابة جسدها قليلا وتهوى نحو فتحة الكيس..) ص 22.

5-أفعى الغروب.. ص 25

الحيوانات في هذه القصة لم يكن لها دور اساسي، وفي القصة رسالة إنذار للبشرية، هذا الانذار يواجهه الناس بالخوف والرفض والتعنت، فتتم إبادة موصله او ناشره ولا يعرف له أثر.

كانت تلك القصص الخمس في القسم الأول من المجموعة التي اكتظت بالحيوانات والمسنين وبقت أربع قصص.. وهي:الحب الأول، مشهد الغيمة، دموع الحلاقة، حضيض":

1-الحب الأول.. ص 11

الطفل في التاسعة من عمره يحب عجوزا وحيدة، لماذا ؟ ما أسباب هذا الحب؟ القصة بسرعة أحداثها لم تصرح عن إجابة لهذا التساؤل، هو يحبها حتى الجنون، كيف تشكل هذا الحب؟ لدرجة أن والديه يحبسانه طويلا في غرفة كمن اقترف جريمة، إضافة الى أنهما سمحا له بعد أن ماتت العجوز بالخروج وراء جنازتها وبعد ذلك ظل هو يتسلل الى قبرها لزيارته ثمة فجوة في هذه القصة وكأنها – أي القصة – لم تستكمل أو قطع جزء مهم منها، فمشاعر الطفل واضحة وظاهرة، ولكن ما سبب تعلقه بالعجوز بهذه الدرجة من الجنون ؟؟ ما هو نوع هذا الحب؟ أين ملامح العجوز، ماذا عن عاطفتها تجاه الطفل؟ ما دورها في القصة مع أنها تشكل صلب موضوعها، هل قصد من العجوز الوحيدة الوطن أو الأرض المسنة التي سوف تموت لاحقا وتتلاشى، وأطفالها فيما بعد يمشون في جنازتها ويتحسرون عليها؟ هذا مجرد سؤال لا يشبع أي تفسير.

2- مشهد الغيمة.. ص 19

مشهد قصير جدا لرجل عجوز يحدق ناحية فتاة، دون التوغل الى مكامن الرجل العجوز ونظراته تلك، كأنما هي نظرات عابرة بلا أهمية،مثل أي نظرة يطلق عنانها تجاه أي شيء، نظرة دون روح، حتى نظرته للغيمة لم تكن عميقة أو لها دلالة.

في القصة تصوير بديع لعلاقة الفتاة مع شالها الاحمر يجب الاشارة اليه: (الفتاة ترفع الشال، تسيل منه خيوط ماء طويلة، تنهمر الخيوط عندما تلوي الفتاة الشال بين يدها بقوة، ثم تفتحه فيهيج مرفرفا باتجاه الغرب.. ص 19).

3-دموع الحلاقة.. ص 27

السارد هنا رهيف القلب، تأثر كثيرا لمشهد الحلاق. الهندي البعيد عن أمه، فصور ان دمعة الحلاق تسقط في خد السارد قاذفا فيه الحزن أو يعيره دموعا للحظات حتى يشاركه الموقف بينما كان يستمع لشريط أمه ويقوم بالحلاقة له في نفس الوقت. (كانت تسقط فوق خدي أنا المنبسط برخاوة أسفل وقفته الغائمة.. ص 27) المشهد لا يخلو من تكثيف شعري مختزل قد يدمع له القاريء أيضا وقد يتذكر الحلاقين أو أي شيء يتعلق بالغربة والحنين، ان هذا التأثير القصة التي تقتنص مشاهد قد تؤثر من يقرأها وتحقنه برعشة الكتابة.

4- حضيض.. ص 29

حسب تفسيري أن هذه القصة تفضح قسوة المجتمع وما يتبناه من عادات مطبوعة قي قلوب أهله كالتفرقة العنصرية مثلا، تصل الى وحشية لا نتبه لها إلا الفنان الذي يترصد مثل هذا المشهد القصير المليء بخصائص كثيرة، مشهد مكثف وقصير جدا لكنه يضرب في الصميم.

وأخيرا فإن المجموعة تثير أسئلة شتى، إن كان القاص قد حاول أن تكون جميع مشاهده بنية اللون؟ فجاء العنوان مفتوحا، على القاريء أن يبحث له عن دلالات وتفاسير من خلال قصص المجموعة، فهل هناك خيوط بنية اللون؟ هل طفح الطين خارج المشاهد أو داخلها؟ أو تصاعدت جبال قاحلة؟ أم أن الأرض مقسمة الى ثلاث مناطق هي بالأساس بنية اللون، لون التراب، لون ناسها وحيواناتها، طباعهم وسلوكياتهم لا تنم الا عن مناخ هذا اللون الطاغي على بيئة الكاتب ولنا أن نزيد من حرارة السؤال، أين هو اللون البني؟
نشرت القراءة في مجلة نزوى العدد الخامس عشر