الأربعاء، 13 يوليو 2011

جدران يحيى المنذري تثير جدلا في النادي الثقافي



اسئلة الثمانينات تطرح لليوم .. عن الذات والخصوصية والعالمية!



كتبت: هدى حمد
تصوير: فيصل البلوشي








الثلثاء, 12 يوليو 2011
ملحق شرفات-جريدة عمان




عقبت الورقة الانطباعية التي قدّمها القاصّ والكاتب سليمان المعمري الاثنين الماضي في النادي الثقافي، بعنوان: عبور الجدران..قراءة انطباعية في "طيور" يحيى المنذري "الزجاجية"، الكثير من المداخلات التي رصدتها شرفات.
وعلى الرغم من أنّ المعمري صرّح منذ العنوان بأنها قراءة انطباعية، وليست نقدية - ليكون ذلك هو خط الرجعة الذي يستعين به إذا ما هطلت عليه الانتقادات- إلا أن غالبية الحضور كانوا مندمجين مع الورقة التي قدّمها، بل وتفاءل عدد كبير منهم بميلاد ناقد جديد في عُمان. وعبر يحيى المنذري عن تفاجئه من تحليل المعمري الذي ركز على ثلاث ثيمات.. "قد تكون ثيمة الفن التشيكلي تم التطرق إليها، وسمعتها من قبل ولكن ثيمة الجدران أسمعها للمرة الأولى، وهو لم يكتفِ بإظهارها في المجموعة الأخيرة، وإنما في كل مجموعاتي السابقة".
سعت الورقة إلى تأمل جدران كتابة يحيى بن سلام المنذري الشكلية والمضمونية من خلال تركيزها على مجموعته الأخيرة "الطيور الزجاجية" وتعريجها على مجموعات يحيى الثلاث الأخرى "نافذتان لذلك البحر"، و"رماد اللوحة"، و"بيت وحيد في الصحراء" ، طارحة عددا من الأسئلة من قبيل: ما هي العوالم التي تلح على كتابة المنذري؟ وما هي المضامين التي تتكرر لديه من مجموعة لأخرى؟ والى أي مدى أثر عشقه للفن التشكيلي في كتابته القصصية؟ وأسئلة أخرى ولدها التوغل في ثيمة الجدار، ومن ثم عرضت الورقة تجليات ثيمة الجدار في مجموعة "الطيور الزجاجية"، ملفتة النظر إلى عدة تجليات لهذه الجدران هي الجدران الخشبية كما في قصتي "طائرة تبدد لون السماء" و"إنقاذ"، والجدران الأسمنتية كما في قصة "ليلة الخنجر"، و"من جدار أبيض إلى جدار أسود"، والجدران الزجاجية كما في قصة "سر الورقة"، مشيرة إلى أن الجدران تمنع الإنسان من مجرد الحلم في قصة "الباب الزجاجي"، وتمنعه من مجرد الكلام في قصة "الساق"، كما أشارت الورقة إلى تجلٍّ آخر للجدران في مجموعة "الطيور الزجاجية" هو الجدران التي ترينا أنفسنا، تلك التي تقوم مقام المرايا في تقديمنا كما نحن بلا أية رتوش أو محاولات تجميل.
ورأى المعمري أن كتابة يحيى سلام المنذري هي كتابة الأسئلة بامتياز.. فلقد دأب على طرح الأسئلة التي تبدو في ظاهرها بريئة، ولكنها ليست كذلك في العمق..ثم تصل الورقة إلى ملاحظة جوهرية مفادها أنه كلما تقدمت تجربة يحيى المنذري القصصية للأمام كلما تراجع الحضور التشكيلي للخلف، أو لنقل خفت وبات في خلفية المشهد..

لكي لا أكرر نفسي

بدأت المداخلات، بطرح شرفات لعدد من الأسئلة كان أولها حول عمر تجربة يحيى المنذري التي تمتد لأكثر من عشرين عاما، وبالرغم من ذلك ليس بحوزته سوى أربع مجموعات قصصية.. "هل هذا لأنك من الكُتاب الذين يخططون طويلا قبل النشر، أم لأنك مقل أصلا في عملية الكتابة؟" فكان أن أجاب المنذري بقوله: "هذا الشيء خارج عن إرادتي..عندما كنا ندرس في الجامعة كان هنالك نشاط قوي وتدفق هائل في كتابة القصة، لدرجة أنه طغى على الدراسة نفسها آنذاك.. أصدرتُ مجموعتي الأولى وأنا في السنة قبل الأخيرة من الجامعة عام 1993، بعد ذلك أخذنا العمل والحياة الاجتماعية لأشياء أخرى.. أيضا هنالك الحرص على التأني، ونظرة وطموح لأن لا يتكرر الأسلوب في الكتابة، مع محاولة التطوير فيها". استوقفه الشاعر يونس البوسعيدي متسائلا حول مسألة التخطيط للكتابة، فأجابه المنذري: "في البدايات الأولى كانت القصة تأتي بدون تخطيط, ولكن هنالك حالات أخرى أخطط لها منذ البداية.. فالأمران ممكنان معا في الكتابة..أعني التخطيط وعدمه".

أقرأ الغلاف قبل الشراء
وتابعت شرفات أسئلتها قائلة: "هل استطعت عن طريق الكتابة أن تُلغي رغبتك بالفن التشكيلي.. وهل يمكننا عبر الكتابة أن نحقق ما أخفقنا فيه عبر الفن؟" أجاب المنذري: "من الملفت حقا أن أجد الفن التشكيلي ضمن كتاباتي بطريقة لا واعية..هكذا تأتي المسألة بدون تخطيط، وهذا ربما من تأثير تداخل الفنون التشكيلية بالفنون الكتابية، حيث نجد لوحة يمكن من خلالها أن نقرأ حياة كاملة، ويحدث العكس أيضا". أما السؤال الأكثر خصوصية الذي طرحته شرفات فكان: "هل من عاداتك أن لا تقرأ الغلاف النهائي لأي كتاب، كما هو حال بطلك في قصة "جدران ومرايا"؟. ابتسم المنذري وأجاب: "أنا من الناس الذين يقرؤون الغلاف الأخير قبل شراء الكتاب، ولكن بطل القصة هو ممن لا يقرؤون الغلاف الأخير.. كان ذلك محاولة لقول شيء غير مطروح كثيرا".

ليست مهمة الكاتب
بعدها انتقلت شرفات للتساؤل حول دلالات الجدران التي كانت في الغالب الأعم سيئة وسلبية.. فالجدران عقبة في وجه الحلم، الجدار يعبر عن الانشغال، الجدار نقيض الحرية، الجدار يشغلنا عن قراءة كتاب.. "ألا توجد دلالات أخرى للجدار أكثر إيجابية؟" فأجاب المعمري قائلا: "صحيح أنه غلبت القراءة السلبية للجدران، ولكن الأمر لم يخلُ من جوانب إيجابية لهذه الجدران تحديداً في قصة "إنقاذ".. حيث مثل الجدار نافذة على الحرية، وإنعتاقاً للمرأة. وفي قصة "جدران ومرايا".. المرء لم يكن بحاجة لقراءة كتاب ليتأمل ذاته بعمق، إذ ساعدته الحيطان على هذا التأمل ، ما يعني أن دلالة الجدار هنا يمكن أن تكون ايجابية بعكس تأويلك.
فكان أن سألت شرفات.. "يحيى المنذري طارح الأسئلة بامتياز، فماذا عن المهام الأخرى، والتي ربما هي الأكثر صعوبة ..الأجوبة؟". رأى المعمري أن الأجوبة ليست من مهام الكاتب،"مهمته أن ينبش في الأسئلة، وهذا أقصى ما يمكن أن يفعله الكاتب سواء أكان قاصا أو شاعرا أو روائيا أو مسرحيا، فهو ليس منظرا اجتماعيا ليضع لنا الأجوبة أو حلولا للمشاكل".

تراجع الحلم والأفكار
الشاعر يحيى اللزامي هنأ نفسه والآخرين بميلاد الناقد سليمان المعمري، وأضاف: "يحيى المنذري "جواهرجي"، وسر تميزه في ترفعه عن الاستسهال في الكتابة، لأن من يدرك نار الكتابة وأسئلتها الحارقة سيظل متأنيا فيها.. لذا أنا لم أتفاجأ بالقيمة الجمالية التي قدّمها في مجموعته الأخيرة.. ثمة مكر في عناوين المجموعات، واستخدام للجمل الاسمية وبالتحديد في المجموعة الأخيرة "الطيور الزجاجية"..فهل ثمة طيور غير زجاجية أصلا.؟!. وإذا ما وجدت فأتمنى أن تدلني عليها!" .. أعجب المنذري بتعبير مكر العناوين، وتابع: "لا أظن بوجود طيور زجاجية أصلا.. أما موضوع تفسير النص فأتركه دائما للقراء وللنقاد.. فليس لديّ الحقيقة القدرة على تحليل القصة التي اكتبها".
فتابع اللزامي قائلا: "ما ذكره المعمري من أنّ حضور الفن التشكيلي إلى كتابتك بدأ يتراجع، هل هذا دلالة على تراجع الحلم يا يحيى، وتراجع الكثير من الأفكار التي آمنا بها، وكنا نأمل أن تتحقق؟" صمت المنذري قليلا ثم قال: "لم يتلاشَ إلى الآن حلم التشكيل.. قد يخفت، وقد يعود لاحقا بشكل أكثر تدفقا وقوة، ربما يكون المغزى من ذلك أن لا أكرر نفسي". ثم وجه اللزامي سؤاله إلى المعمري: "إلى أي مدى يا سليمان استطاع المنذري عبر مجموعاته هذه أن يطرح الأسئلة التي ينبغي طرحها؟ فأجابه المعمري: "من وجهة نظري الأسئلة هي الأسئلة..ليست هنالك أسئلة حارقة وأخرى مراوغة..طريقة طرح الأسئلة هي التي تختلف دائما.. الأسئلة التي يطرحها المنذري تبدو لأول لحظة بسيطة وعابرة ويمكن أن يطرحها أي شخص، ولكن عندما تتأملها بعمق تجد أنها تحاول أن تستكنه أشياء لم تكن موجودة من قبل، ومن الملاحظ أن أبسط الأسئلة وأعمقها هي تلك التي يطرحها الأطفال، والأطفال ثيمة متكررة في كتابة المنذري ولديه أبطال أطفال كثر في مجموعاته القصصية من مثل قصة "إنقاذ"، و"طائرة تبدد لون السماء".. هؤلاء الأطفال يطرحون أسئلة تبدو بسيطة ولكنها عميقة في نفس الوقت.. لدرجة أن القارئ يستعجب كيف لم يطرحها على نفسه..

أنا لا أعتصم باليمام
وكان للدكتور زكريا المحرمي مداخلة قال فيها: "أنت اكتشفت ثيمة الجدران عند المنذري، الذي تشكل وعيه الكتابي في فترة الثمانينيات..تلك الفترة كانت حبلى بما يناقض ما تحدثت عنه.. حيث كان تحطم جدران الاتحاد السوفيتي وتساقطه، تحطم جدران نيلسون مانديلا وخروجه إلى الحرية، وتحطم الجدار الجليدي الفاصل بين العرب وإسرائيل.. فهل اعتصام يحيى المنذري بالجدران هو نتيجة لخوفه من هذا الطوفان الهائل، ومن الانفتاح والتغير السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. أم هو حنين إلى الأصالة وما يمكن التمسك به في ظل المتغيرات؟
أضاف المعمري إلى جملة ما تحطم من جدران، "تحطم جدران مهمة في الألفية الجديدة من مثل تحطم جدران سرية المعلومة، وتحطم الحواجز بين البشر نظرا للتواصل الالكتروني السهل"
ثم تابع قائلا: " المنذري لا يعتصم بالجدران فقط.. فلدى الكاتب القصصي وحتى الشاعر ثيمات معينة تجدها تتكرر في كتابته من دون أن يشعر..فكما أخبرنا المنذري أنه لم يشعر بتكرر ثيمة الجدار في مجموعاته.. وهنالك أيضا في كتابته ثيمات أخرى تتكرر كالطيور والأطفال، وعبارة "خفق قلبه" أو "قلب يخفق"، هذه الثيمات والعبارات تتضافر مع بعضها لتشكل كيانه كقاص.. لكن تكرر ثيمة أو كلمة في كتابة أديب لا يعني بالضرورة أنه "يعتصم" بهذه الثيمة .. فلو فرضنا مثلا أنني أكرر كلمة "يمام" في كتابتي فلا يمكن أن أقول أني اعتصم باليمام لأني أكرر هذه الكلمة !

من الذات إلى العالم
وانتقل المحرمي إلى سؤال آخر، "أنت كقاص وكناقد أيضا يا سليمان ما رأيك بمسألة طغيان الذات الكاتبة في القصص والروايات..هل هو دليل على صحة في الكتابة أم أنه دليل على عدم قدرة إبداعية؟ فأجابه المعمري: "قرأتُ لك مقالا يا زكريا في شرفات منذ عدة سنوات، واستفزني لكتابة نص من نصوص عارف البرذول حمل عنوان "قصة برذولية جدا".. كنت تأخذ في مقالك ذاك على كتاب القصة العمانيين أنهم بعيدون عن بيئتهم ولا يعبرون عن مجتمعهم وأنهم يتحدثون عن أشجار السنديان التي لا وجود لها في عُمان .. أنا اختلف معك.. فلا يعني أن أكتب عن فلج هنا وقلعة هناك أني اكتب قصة محلية بامتياز، إذ أنّ المسألة لا تقوم على الشكل بقدر ما تقوم على روح النص.. وعودة إلى سؤالك : إذا لم أكتب ذاتي في البداية وتعالقي مع الأشياء فأنا لا أصلح أن أكون لا شاعراً ولا كاتبا ولا قاصا ولا مسرحيا، الذات هي شرط أساسي من شروط الكتابة، ش الذات ليعبر عمّا هو عام من خلال يومياته البسيطة وهو يغلي الق ريطة أن يمتلك الكاتب أدواته لكي يحول شأن الذات إلى شأن عام. محمود درويش معظم قصائده وكتاباته النثرية يتحدث فيها عن هوة مثلا.. أنا شخصيا أحب الكُتاب الذين يكتبون عن أنفسهم وذواتهم أكثر ممن يحدثونني عن حادثة تكتب بضمير الغائب..

الخلطة السحرية
وجد خالد العريمي ( أخصائي تدريب بوزارة التربية والتعليم) أن القصص هي من أكثر الأمور التي تُحدث تغيرا في حياة الإنسان، وخير دليل على ذلك قصص القرآن الكريم.
وتساءل: "ما هو موقفك من استخدام بعض الكلمات العامية في سرد القصص؟" فقال المنذري: "الأمر يعتمد على توظيف الكلمة ، وعلى فكرة وموضوع القصة..أنا أتجنب وجود الكلمات العامية، ولكنها حدثت في مجموعتي الأخيرة، وعادة ما أتركها بين علامتيّ تنصيص، وألحق بها الشرح في الهامش، لأني أتوقع أن يقرأ المجموعة قراء غير عمانيين". ثم تساءل العريمي عن الخلطة السحرية من أجل إثارة القارئ للمتابعة وقراءة ما تكتبه؟ فأجاب: "في رأيي الصدق في الكتابة، وعنصر التشويق مهم في القصة".
فأتبعه العريمي بالسؤال الثالث عن الكتابة الإلكترونية؟ فقال: "أنشأتُ مدونة مؤخرا، وقد ساعدتني لأن تصل مجموعة كبيرة من قصصي لأكبر شريحة من القرّاء".
ورأى يحيى اللزامي أن د. زكريا المحرمي طرح سؤالا في غاية الأهمية، "أنا كمتلقٍ لم أشعر أنه تمّ الإجابة على سؤاله بالشكل الجيد.. هل الجدران هي ما نلوذ به ونعتصم إزاء التحولات الكبرى في العالم..أمام طوفان العولمة؟". وتابع د.زكريا المحرمي الفكرة قائلا: "الجدار هنا يمثل رمزاً لثابت معين..ثابت الوطنية أو الخصوصية أو التراث.. هذه الجدران المنتصبة في اللا شعور نلجأ إليها في ظل المعمعة السياسية والاقتصادية؟"، أجابه المنذري باختصار: "إذا كنت تقصد وجود علاقة بين الجدران التي سقطت في العالم، والجدران التي تحدث عنها سليمان المعمري فليست هنالك أية علاقة". وأضاف يوسف الذهلي أنه شاهد في قناة الجزيرة قبل أيام كيف تمكن الفلسطينيون من كسر بعض من الجدار الفاصل.. وأكد على أنّ لهذا دلالة، "كسر الجدران يساوي الحرية".

لا أكتب من أجل العالمية
اغتنم يونس البوسعيدي وجود كتاب القصة في النادي الثقافي ليطرح سؤاله، "أنا غير مطلع على تجربة النثر العماني بشكل كبير، ولكن ما أعرفه هو وجود شاعرين على الأقل وصلا إلى العالمية.. أبو مسلم البهلاني وسيف الرحبي.. هل يوجد قاص عماني استطاع أن ينقل روح المجتمع العماني إلى العالم؟ أجابه المعمري: "وأخيرا استيقظ الدب" لعبدالعزيز الفارسي تكاد تكون أكثر مجموعة عمانية قصصية فيها الروح العمانية، ومجموعة كاذية بنت الشيخ لرحمة المغيزوي أيضا، وهنالك مجموعات لا تخلو فيها قصة أو أكثر من الروح العمانية.. سيف الرحبي وصل للعالمية، ولكن..هل لأن روحه عمانية أم لأنه محظوظ إعلاميا؟ بالتأكيد لديه تجربة اشتغل عليها جيدا ولكن لديه علاقات جيدة أيضا، الروح العمانية حاضرة في نصوصه صحيح، ولكن ليس هذا فقط سبب انتشاره خارج السلطنة .. فهناك شعراء آخرون تحضر هذه الروح بشدة في نصوصهم كسماء عيسى مثلا. ثم أكد المنذري أنه لا يكتب من أجل الوصول إلى العالمية وإنما يكتب قناعاته وأفكاره.
ثم تساءل البوسعيدي.."هل راودتك رغبة بتوظيف الحداثة التكنولوجية في كتابة قصة؟" فقال المعمري: "مجرد أن يكون لديك مدونة تنشر عبرها.. فأنت بذلك تعيش في الحداثة المعلوماتية". وقال المنذري: "ليس بالضرورة أن اكتب عن الحياة الالكترونية لمجرد أني أمارسها، قد يكتب غيري، أو اكتبها أنا مستقبلا.. الأمر مشابه تماما لما قاله د.جابر عصفور في أحد المؤتمرات حول عدم وجود خيال علمي في الرواية العربية أو أنه نادر..الأمر ليس بالضرورة أن يكتب عنه الجميع".

التقوقع في الثيمات
وقال البوسعيدي أيضا للمنذري.. "لديك تقوقع في نفس الثيمات عبر مجموعاتك، وعندما كنت تقرأ قصة "جدران ومرايا" كنت أتساءل: ماذا يفيد أن أعرف أن هذا لونه أصفر، وذاك شكله كذا.. هذا الديكور الفني للقصة ما فائدته؟ فرد عليه المنذري: "أخال أن قولك في البداية أنك ضعيف في القراءة السردية هو سبب لطرحك لمثل هذه الأسئلة..أنت تتحدث عن الديكور الفني، وأنا أظنني بعيدا عن تجميل القصة.. ربما أنا أكرر بعض الثيمات كما تقول، ولكنك يا يونس: هل قرأت جميع مجموعاتي لتلاحظ ذلك؟" فأجاب: "استنتجتُ ذلك من كلام سليمان المعمري"، فأنكر سليمان أن يكون قد قال أنّ المنذري متقوقع ثم أضاف: "من المعروف أن الكاتب يلح عليه طوال مشواره الكتابي ثيمة أو موضوع واحد يظل يكتبه بطرائق مختلفة من عمل أدبي إلى آخر..ابراهيم الكوني مثلا يكتب عن الصحراء ويكررها في أكثر من رواية، عبدالرحمن منيف كان يكتب عن الهم السياسي وأدب السجون.. لكل كاتب هم يشغله، يتوزع على كتابته بطريقة أو بأخرى .. وعندما يتكرر هَمُّ ما في كتابة يحيى من مجموعة لأخرى فلا يعني هذا أنه متقوقع ".

وشاركنا أيضا الكاتب الأستاذ أحمد الفلاحي الذي يعتبر يحيى المنذري من المميزين لغة وصوراً وجملة في الكتابة.."البيئة في كتابة الكاتب تفرض نفسها.. يحيى لديه مجموعة فيها سمائل وفيها العمالة الوافدة وأشياء كثيرة تتصل بالروح العمانية.. لكن عملية الكتابة لا ينبغي أن يتم التعامل معها من قبيل: لماذا لم تكتب هكذا أو لم تكتب هذه الثيمة.. الكاتب يكتب تحت وهج الإبداع ولا ينشغل بالجوانب التحليلية، وإنما يتركها للناقد..الكوني ومنيف اشتركا في الكتابة عن الصحراء، ولكن اختلفا في الطريقة. بالنسبة لـسيف الرحبي هو حالة مختلفة، بدأ أدبه خارج عمان بين العواصم الثقافية المهمة وهنالك برز وتكون، وجاء عمان أديبا مميزا".
وأردف قائلا: "نحن نشكو من غياب الكاتب العماني عن الساحة العربية لعوامل تاريخية وعوامل عزلة وغياب الإعلام وأشياء أخرى، ولكن في العشر السنوات الأخيرة بتنا نرى العماني ينشر، ويحضر المؤتمرات والفعاليات في دول مختلفة من العالم. كما أن التواصل الالكتروني كسر الكثير من الجدران".

الجديد في الورقة وليس الأسئلة

قال رئيس الجلسة قبل الختام، الشاعر يحيى الناعبي معلقاً على سؤال يونس البوسعيدي عن الروح العمانية : "كتبتُ مؤخرا عن رواية ابن سولع للكاتب علي المعمري الذي أتاحت له الحياة أن يعيش في الخارج، ولكن الروح العمانية كانت متمكنة من هذه الرواية، وكذلك الأمر بالنسبة لمجموعة سالم آل توية "حد الشوف" التي كتب بعضها في بريطانيا"
استفز المعمري اثنين من مجايلي يحيى المنذري في كتابة القصة هما: محمد البلوشي، ومحمود الرحبي للحديث ، فاعتذر الأخير بينما قال البلوشي : "الأسئلة التي كنا نطرحها أو تطرح علينا منذ الثمانينات هي نفسها الأسئلة التي تطرح في الألفية الجديدة، وهي نفسها التي طُرحت الليلة :الخصوصية المحلية والوصول إلى العالمية.. ولكن ما أدهشني اليوم هو القراءة التي بدأت تقترب من المنتج العماني بطريقة جديدة كنا نطمح إليها، في الماضي كانت تركز على القصة وتفاصيلها وحبكتها ونهايتها.

الأربعاء، 6 يوليو 2011

لغة الأشياء / ... ويظل الجميع تحت سيطرة الشمس!

باسمة العنزي

«الآن...
جميع الأشياء تحت سيطرة الشمس
هناك سيارات تلتهم الشارع بقسوة... ورجل أعرج متردد
هناك شارع عريض أسود... ورصيف حارق حزين
ويظل الجميع تحت سيطرة الشمس».
ما أن انهيت قراءة قصة «حبات البرتقال المنتقاة بدقة» للقاص العماني يحيى المنذري، حتى تأكدت أن لبعض النصوص وقعا خاصا على المتلقي قد لا يتوقعه الكاتب، هذه القصة الكونية المكتوبة بحرفنة عام 1992 والمنشورة ضمن مجموعته الأولى «نافذتان لذلك البحر» لقيت من الانتشار والصدى ما جعلها من أجمل القصص التى كتبت في تاريخ القصة العمانية.
كتبها القاص بعد رؤيته لرجل أعرج يعبر الشارع،المشهد كان له تأثيره الى درجة أنه حوله الى قصة قصيرة بتقنية الرصد السينمائي.القصة/ المشهد لا يتعدى الخمس دقائق، ما أعطى تكثيفا متمكنا وانسيابية زمنية ماهرة بين الماضي والحاضر والمستقبل.
النص تناول مأزق الرجل الأعرج الذي يحاول عبور الشارع نحو منزله في يوم حار برفقة حبات البرتقال، التي اشتراها للتو وانتقاها بعناية لابنائه، لكن حركة السيارات لا تهدأ ولا أحد مستعد للوقوف من أجل رجل متعب من حرارة الشمس، وراغب في الوصول الى منزله بسلام. انتظاره القسري يحيلة لذكريات بعيدة واصابة قديمة في حادث تحول الى عرج.
«الشمس تغرز أشعتها في رأسه ورقبته، عرقه يسيل، عيناه تحرقانه، يداري لهيب الشمس بوضع كف يده على جبينه، وصارت يده مظلة عاجزة بينما الرصيف حارق حزين».
كمتلقية لهذا النص الذي ابهرني منذ القراءة الأولى- وجدت حضورا لقسوة حضارة الاسمنت وعزلة الفرد في عالم مادي، وطرح اشكالية الانسان البسيط الذي يحاول باجتهاده الوصول لهدفه أو حلمه- خصوصا أن البرتقال عند بعض الحضارات رمز للسعادة- ورغم ما في الطريق من معوقات وقسوة ينتظر وعينه على المستقبل حيث الرصيف الآخر والخطوة التالية.
الانتظار هنا حالة استنزاف متواصلة وما أن تحين اللحظة المنتظرة ويندفع البطل لعبوره المرتقب للخروج من عنق زجاجة الحيرة، حتى يكتشف نسيانه لكيس البرتقال أو سعادته على الرصيف الحارق. السعادة التي أمضى وقتا في انتقاء تفاصيلها كي يقدمها لنفسه ولامتداده من الابناء دفعها ثمنا للوصول، الرحلة القاسية كانت جزءا من الصورة الكبيرة لحيواتنا، وما الرصيف والشمس والأطفال و السيارات المسرعة وحبات البرتقال الشهية سوى تفاصيل أيامنا بشكل أو بآخر.
العنوان جذاب و يحث الخطى للوصول لما وراءه، شخصية البطل مكافحة وبسيطة، نجح الكاتب في استثارة تعاطف المتلقي دون أن يكون للبطل كاريزما خاصة. واللغة تخلصت من الفائض ولم تعمد للشعرية المفرطة، استخدمها القاص بذكاء فعبرت عن الجو النفسي للبطل وما يحيط به في زمن مختزل.
للقاص ثلاث مجموعات قصصية لكن ظلت هذه القصة هي الأشهر والأكثر تداولا رغم أنها من بداياته ولا أعرف ان كان ذلك من حسن حظ الكاتب أم العكس؟!




ملاحظة: نشرت القراءة في جريدة الراي الكويتية ، يوم الأربعاء، بتاريخ 07يوليو2011،العدد11692

الثلاثاء، 5 يوليو 2011

عبور الجدران ..قراءة انطباعية في "طيور" يحيى المنذري "الزجاجية"





سليمان المعمري


ليس الجدار هو الثيمة أو الكلمة الوحيدة التي لها حضور طاغ في معظم تجربة يحيى سلام المنذري ، فثمة أيضا الطيور والأطفال والسرير ، والشارع ، والباب واللوحة ، بالإضافة طبعا إلى ذلك الإنسان البسيط المهمش الباحث عن كوة نور في نفق الحياة المظلم .. غير أنه يمكن الاستناد عليه – أي على الجدار - بامتياز في مقاربة تجربة المنذري القصصية، ما دامت الجدران هي أول أشكال تنظيم الإنسان لحياته بعيدا عن قوانين الطبيعة ، حسب الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون ، وما دامت الحياة كلها هي المسافة التي يقطعها المرء بين جدارين أحدهما أبيض والآخر أسود كما يخبرنا يحيى ضمنياً من خلال عنوان إحدى قصص مجموعته الأخيرة .. ولذا فان هذه الورقة ستحاول جاهدة ما استطاعت تأمل جدران كتابة يحيى الشكلية والمضمونية من خلال تركيزها على "الطيور الزجاجية" وتعريجها الخجول على مجموعات يحيى الأخرى ، طارحة عددا من الأسئلة من قبيل : ما هي العوالم التي تلح على كتابة المنذري ؟ وما هي المضامين التي تتكرر لديه من مجموعة لأخرى ؟ والى أي مدى أثر عشقه للفن التشكيلي في كتابته القصصية ؟ وأسئلة أخرى يولدها التوغل في ثيمة الجدار ..

بدأ يحيى المنذري كتابة القصة منذ أكثر من عشرين عاما .. وإذا ما تخيلنا اليوم أن ثمة جداراً تعلق عليه صور الأسماء البارزة في المشهد القصصي العماني فإنها ليست مجازفة القول انه يصعب تخيّل هذا الجدار بلا صورة ليحيى ، بشاربه الخفيف الأليف ونظارته ذات العينين البيضاوين ، بطيوره الزجاجية المتراقصة حول رؤوس أبطاله ، ونافذتيه المطلتين على ذلك البحر البعيد ، بحبات برتقاله المنتقاة بدقة وزارعي غابته الأسمنتية الذين يطفئون حنينهم بالصور ، بـ"ضجيج بيته الكبير" الذي كاد أن يرمي به وحيدا بين أربعة جدران ضيقة لها حراسٌ يقدمون العدس.. ومنذ مجموعته الأولى "نافذتان لذلك البحر " ( مسقط ، 1993 ) ومرورا بـ"رماد اللوحة" ( دمشق .. 1999 ) و"بيت وحيد في الصحراء" (مسقط 2003 ) وليس انتهاء بـ"الطيور الزجاجية" ( دمشق 2011 ) والمنذري يسير بخطى بطيئة بعض الشيء ولكن واثقة في طريق القصة الشائك والطويل.

دعونا إذن نلج إلى بيت يحيى القصصي ، نتأمل جدرانه ، ونحصي غرفه ، ونتلصص على ساكنيه ، مرددين مع أنطوان سانت أكزوبيري : "إن أعجب ما في منزل ليس في أنه يؤويك أو يدفئك، أو في أنك تملك منه الجدران، ولكن في هذا الذي يضعه فينا من مؤن العذوبة"





تجليات الجدار :

أول سطر في "الطيور الزجاجية" يتحدث عن "جدران خشبية هادئة لأن الطقس لا يعكر صفوها بالرياح" ، وفتى "يحلم بركوب أرجوحة في حديقة خضراء طقسها بارد ومليء بالرذاذ" لكننا سرعان ما سنكتشف أنه ليس سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة ، فهذا الفتى في قصة "طائرة تبدد لون السماء" سيخرج بعد قليل مع أمه ليس لركوب أرجوحة ولا للتمرغ في خضرة حديقة بل لانتظار موكب لن يأتي ، تماما كانتظار الأب الذي غاب منذ سنوات ، لا بأس إذن من أن يخفف هذا المنتظِر من عطش المنتظرين الآخرين مقابل حفنة من المال يساعد بها أمه ، هؤلاء الذين شكلوا جداراً يمنعه من الرؤية " أخذ يبحث عن منفذ لرؤية الموكب ، كان الناس مثل أحجار رصت على الشارع" (ص10) .. هذه الثلاثية ( الفتى والأم والجدار الخشبي) ستتكرر بعد قليل في قصة أخرى هي "إنقاذ" ، ولعلها ليست مصادفة أيضا حضور الجدران الخشبية منذ السطر الأول في القصة .. ثمة امرأة تتعرض للأذى من زوجها السكير .. امرأة حبيسة الجدران التي يغلقها عليها هذا الزوج المتوحش بقفل أسود كبير .. غير أن الفتى، وبتحريض من أمه المتعاطفة مع هذه المرأة، سيوسع الجدار الخشبي ركلا ويحدث به تصدعاً وصولا إلى صنع فتحة كافية لمرور المرأة التي "كانت مثل حمامة جريحة وضعيفة ووحيدة تنتظر فتح باب القفص، حمامة لها ريش ملون ، لها عينان دامعتان " .. يحق لها الآن وقد تنسمت أنفاس الحرية أن تكفكف دموعها وتردد مع كافافي : " وما دامت لدي أشياء كثيرة أقوم بها في الخارج / فلِمَ لم أحاذر حين أخذوا يبنون حولي الجدران ؟! ".. ويحق لنا أن نعود إلى الوراء قليلا ونتذكر قصة "المروحة البشرية" ضمن مجموعة "زارعي غابة الاسمنت" التي شاء المنذري أن يضمنها داخل كتاب واحد مع مجموعة "بيت وحيد في الصحراء" حيث "يتدفق الضوء من ثقب صغير في الجدار الخشبي" ويتأمل الهندي ذرات الغبار المصطفة في بطن الضوء مكونة عصا ذهبية .

بيد أن الجدران ليست خشبية وحسب ، لذا فان الثلاثية سالفة الذكر ستتحول إلى ( الفتى والأم والجدار الأسمنتي ) في قصة ثالثة من "الطيور الزجاجية" هي "ليلة الخنجر".. تحمل الأم ولدها الصغير ناصر إلى عرس ما في بيت إسمنتي كبير أصفرِ اللون ، وما إن تشد الأم ابنها إلى داخل البيت حتى يشاهد على الجدار لوحة بها خنجر وأخرى بداخلها سيف فضي فيشعر بالخوف .. أهو خوف من الخنجر والسيف أم من الجدار ؟! .. شخصيا سأرجح الثانية ، وسأعضد هذا الرأي بالتقاء ناصر هناك ببعض أقاربه الذين كانوا من عمره ، وتذكُّره بأن حاجزاً / جداراً كبيرا زُرِع بينهم رغم مشاركته لهم اللعب والضحك والجري . ثم انه يتعمد الهروب من هذا الواقع الذي يخيفه فيغمض عينيه ويتخيل خناجر تتطاير وتنغرز في الجدران .. تسكره نشوة الانتصار على هذه الجدران في الخيال فيقرر تنفيذها في الواقع .. يسحب خنجر العريس الذي يبدي مقاومة شديدة ويمسك بيدي ناصر ويعصرهما بقوة صارخاً في وجهه أن تأدبْ ، وإذا ما أضفنا أنه تلقى تأنيبا وصراخا من المرأتين اللتين كانتا في غرفة العريس ، وذهولا واستغرابا من بقية الأولاد نخلص إلى أن مزيدا من الجدران ارتفعت في وجهه وانتصرت عليه ، مثلما ترتفع في وجوهنا نحن قراءَ "الطيور الزجاجية" ، فإضافةً إلى الجدران الخشبية والإسمنتية تشمخ كذلك جدران زجاجية تقف – رغم هشاشة الزجاج - بيننا وبين سعادتنا .. ففي قصة "سر الورقة" يفرح البطل الفقير الأمي بالشيك الذي قدمه له أحد الأثرياء ، ما يعني أن حياة البطل ستتغير بلا شك إلى الأفضل، ولكن موظف البنك القابع خلف جدار زجاجي يصدمه في البداية أن "هذا الشيك لازم يصرف من بنك آخر ، تجده في الخوير" ، ثم ستصدمه موظفة أخرى في بنك آخر ومن خلف نفس الجدار الزجاجي بأن قيمة الشيك لا تتعدى العشرة ريالات ! .. ثمة جدار يقف عقبة في طريق الحلم هنا ، ولكن المفارقة أن الجدار هو أيضا الحلم .. فهذا الرجل البسيط يضع ضمن مخططاته بعد أن يستلم المبلغ الذي ظنه كبيرا أن يصلح سور بيته ، أن يقيم جداراً يستره ويحميه وأهله من اللصوص والمتطفلين .. بيد أن هذا الجدار الأسمنتي لن يقوم الآن بسبب الجدار الزجاجي ! .

وإذا كان الجدار حلماً في "سر الورقة" فانه سيتحول بقدرة كاتب إلى سد في وجه الحلم في قصة "الباب الزجاجي" ، ففي أثناء انتظار البطل الفقير المعدم الباحث عن عمل لسقوط جدار الانشغال الذي يفصله عن مقابلة المدير العام ليفاتحه بطلب وظيفة ، جلس على المقعد الجلدي أمام السكرتيرة ، "وانشغل في التحديق في المكان ، ثم أخذ يسترق النظرات ناحية وجه المرأة الذي اعتبره عذبا ، والقطة الغريبة التي تلعق عنقها ، كاد يجرؤ على الحلم بالنوم معها ، لكنه تردد ، فقد تذكر مشاكله التي تسد مداخل أحلامه بجدران قوية " .. الجدران تمنع الإنسان من مجرد الحلم هنا .. ولن تكتفي بهذا بل ستمنعه في قصة أخرى من مجرد الكلام ، "فهو يعرف أن الأصوات تتسرب من خلال الجدران بسهولة ، تنتشر مع الهواء وتغوص في الآذان كأسهم مليئة بالأخبار ، لذلك فالمدينة تكاد تخلو من الأسرار ، إلا تلك الأسرار التي تقال بالإشارات " ، ولكن حتى هذه يمكن التلصص عليها بطريقة بطل جحيم هنري باربوس : النظر من خلال ثقب جدار ، هكذا يفكر بطل قصة "الساق" الذي تمردت عليه ساقه ، وهكذا تفعل زوجة السكير البائسة في قصة "إنقاذ" ، فالجدار يغدو هنا معادلاً للحرية والانعتاق ، من خلال تلك الفتحة السرية التي كانت نافذة المرأة إلى العالم الخارجي تبث منها شكواها وحزنها لأم الفتى ، ولولا ذلك الثقب في الجدار ما علم أحد شيئا عن معاناة تلك المرأة ، وما تم إنقاذها .. فما أجمل الجدران التي تساعدنا على رؤية الآخر والتفاعل معه !.. لا أجمل ولا أنبل منها إلا تلك التي ترينا أنفسنا ، تلك التي تقوم مقام المرايا في تقديمنا كما نحن بلا أية رتوش أو محاولات تجميل .. ألهذا إذن يضع الحلاقون مرايا زجاجية على الجدران أمام زبائنهم ؟!.. لم تقل قصة "جدران ومرايا" هذا مباشرة ، ولكن كان لافتا حديث بطلها أثناء اعتلائه الكرسي لأداء دوره في الحلاقة بعد انتظارٍ قضاه في قراءة كتاب ، كان لافتا حديثه عن زميله الذي لم يطلب الكتاب ليقضي به ما تبقى له من وقت الانتظار " تركتُه مع المنتظرين يحدقون في الحيطان" .. الحيطان هنا أهم ، فنحن لسنا بحاجة لكتاب لننظر إلى أنفسنا بعمق .. وعندما نتأمل ذواتنا فان أسئلة كثيرة تنطرح في داخلنا دون أن تنتظر الإجابة .. تماما كما تفعل الكتابة الإبداعية بشكل عام .. وكتابة المنذري بوجه خاص ..

كتابة الأسئلة :
لا أبالغ إن قلتُ إن كتابة يحيى هي كتابة الأسئلة بامتياز.. لقد دأب على طرح الأسئلة التي تبدو في ظاهرها بريئة ، ولكنها ليست كذلك في العمق .. إنها أسئلة تحرض على التأمل والتفكر وإعادة النظر في حياتنا برمتها ، أسئلة تعبرنا مخترقة جُدُرَنا الصلدة مثلما فعل بطل قصة "عابر الجدران" لمارسيل ايميه بفعل حبة سحرية عجيبة تتيح له أن يمر من أي جدار بسهولة تنْقُلُه من مكان لآخر.. أسئلة تتطاير – حسب أحد أبطال المنذري – "مثل ريش نُتِفَ من حمامة ضُرِبتْ على رأسها" : ما الموكب ؟! .. لماذا كراسي المستشفى صنعت من الاسمنت ؟ ، هل يعلم الجدي الصغير أن روحه سوف تفارقه بعد لحظات ؟ .. هل مازلت تتمنى امتلاك طاقية الإخفاء ؟ ، هل فعلا أصبحتُ لا شيء ؟ ، هل نجح الطائر الأسطوري في تفتيت عقلي ؟ لماذا ينتابني الآن شعور بالخواء ؟ .. لماذا أنا غريب وسط أقربائي ؟ .. هل سأكبر وسينبت لي مثل هذا الشعر ؟ .. لماذا هو بالذات سقط الطائران على رأسه ؟ .. لماذا كل هذا الألم الآن ؟ .. وغيرها الكثير الكثير من الأسئلة التي تتناثر في ثنايا نصوص "الطيور الزجاجية" الخمسة عشر .. ومن قرأ يحيى المنذري جيدا يدرك أن السؤال مكوِّنٌ رئيس من مكونات كتابته القصصية ، منذ "نافذتان لذلك البحر" التي يسأل فيها : "من أين يبدأ السؤال .. من الولادة أم من آخر رمق يبقى ؟" ومرورا بـ"رماد اللوحة" التي يتساءل فيها : "هل يا ترى حين يجلس الصياد إلى البحر محدقا إلى الغيوم يفكر بمطر من الأسماك ؟" ، وليس انتهاء بـ"بيت وحيد في الصحراء" التي يتعجب في إحدى قصصها : "لماذا لا تهرب الأرانب والطيور مادامت الأقفاص مفتوحة" ؟! .. إن الأسئلة هنا ما هي إلا محاولات لاختراق جدران الظلام الذي يحيط بالكائن ، إشعال فتيل ضوء في متاهة بورخيسية معتمة كلما ظننتَ أنها أفضت بك إلى مكان اكتشفتَ أنها زادتك عزلة عن نفسك وعن العالم .. ومع ذلك فلا مفر لك إلا أن تسأل وتسأل موقناً أن توقفك عن السؤال يعني نهايتك المغلقة مرسومة على جدار اليأس ..


الطبيعة والكلمة :


وما دمنا نتحدث عن الرسم على الجدار فان هذا يحيلنا إلى ثيمة لطالما برزت بوضوح في تجربة يحيى المنذري ألا وهي توظيف التشكيل واللوحة في الكتابة القصصية ، ولعل يحيى الذي صرح ذات يوم بأنه حاول أن يكون فنانا تشكيليا ففشل سيضجر من فرط ما تم التحدث عن هذه الثيمة في كتابته .. وشخصيا ما كنتُ سأتناولها هنا لولا ارتباطها بثيمة هذه الورقة وهي الجدران .. وعلى أية حال سواء نجح المنذري أم فشل في أن يصبح فنانا تشكيليا فان المؤكد أن العديد من نصوصه القصصية ما هي إلا تجسيد لعبارة ميشيل فوكو في "الكلمات والأشياء" من أن الطبيعة والكلمة يستطيعان أن يتقاطعا إلى ما لا نهاية مشكِّلَيْن لمن يعرف القراءة نصّا واحداً .. حرّكت اللوحة التشكيلية الأحداث في "ليلة الخنجر" كما رأينا قبل قليل .. وكان لها دور كذلك في قصة "من جدار أبيض إلى جدار أسود" التي يستحضر فيها المنذري الرسام العالمي سلفادور دالي إلى صالة الانتظار بالمستشفى ، فيرسم هذا الأخير بقطعة فحم في وجوه الجالسين وفي الجدران ، ولعلها نفس قطعة الفحم التي استخدمها سلمان في "رماد اللوحة" عندما كان طفلاً "يرسم على جدران البيوت أشكالاً غريبة جدا ليس لها وجود، أشكالاً يبتكرها وكأنها سوف تتحقق في سنوات قادمة" ، غير أن الملاحظة الجوهرية هنا أنه كلما تقدمت تجربة يحيى المنذري القصصية للأمام كلما تراجع الحضور التشكيلي للخلف ، أو لنقل خفت وبات في خلفية المشهد .. مجموعتاه الأوليان كان يصدّرهما بقصة لا تتعالق مع الفن التشكيلي فحسب ، بل ويدخل في نسيج أحداثها بحيث لا تغدو القصةُ قصةً إن حذفنا ثيمة التشكيل .. قصة "اللوحة" أولى قصص "نافذتان لذلك البحر" تبدأ بتأمل عميق من بطل القصة للوحة غامضة معلقة على جدران معرض، يتأمل غيوما وبرقاً ورياحا ومساحات تحمل ألوانا عدة .. إن هذا التأمل يمد البطل بأحداث مرعبة تحدث لاحقا لتنتهي القصة بهرب البطل خائفا من المعرض "تاركاً اللوحة تفسخ ثوب الأرض المتبقي" .. أما قصة "رماد اللوحة" أولى قصص المجموعة التي تحمل نفس الاسم فتتحدث عن معاناة شاب اسمه سلمان لديه موهبة الرسم منذ صغره يتعرض لضغوط اجتماعية تسبب له آلاما نفسية وجسدية فيقرر أن يرسم كل الشر الذي تعرض له في لوحة ثم يحرقها .. التشكيل هنا – كما في قصة "اللوحة" - مكون رئيس من مكونات القص .. هكذا إذن يبدأ يحيى قَصَّه في مجموعتيه الأوليين بالتشكيل .. أما في الطيور الزجاجية فان التشكيل ليس إلا معضدا للحبكة القصصية تسانده معضدات أخرى يمكن أن تحل محله أن أراد القاص دون أن تتأثر سيرورة القص .. فمن الذي يملك المراهنة أن قصة "من جدار أبيض إلى جدار أسود" ستفشل في إرسال رسالتها بدون سلفادور دالي ؟ .. ومن يجرؤ على الزعم أن "ليلة الخنجر" لن تسير للأمام بدون أن يتوقف ناصر لرؤية لوحة السيف والخنجر ؟!.. إن خفوت المشهد التشكيلي هنا يمكن أن نعزوه إلى تحقق المنذري كقاص تعويضا عن الفنان الفاشل ، لم يعد يشعر بتلك المرارة التي تدفعه لمحاولة التحقق تشكيليا على الورق .. لكن موهبة التشكيلي باقية ، وتطل برأسها في لوحة قصصية هنا أو في وصف هناك ، ولعلني لا أتعسف في التأويل إن قطعتُ بأن وصف يحيى لسلمان طفلا في "رماد اللوحة" ، والذي تتماهى فيه خبرة التشكيل بخبرة القص ، ما هو إلا وصف ليحيى نفسه : " وجد نفسه يحب المرأة والرسم، ودائما ما يشعر بحرارة غريبة تسري في يده تحفزه على أن يمسك القلم ويرسم طيوراً تحلق بعيداً عن الأرض، يرسم نساء جميلات وحدائق زهور وأشكالاً هندسية، كان في طفولته يرسم بقطع الفحم على جدران البيوت أشكالاً غريبة جدا ليس لها وجود، أشكالاً يبتكرها وكأنها سوف تتحقق في سنوات قادمة، بعد ذلك بدأ الرسم على الأوراق، مرة رسم شجرة أوراقها سوداء وثمارها رؤوس دامية، وتبدو الشجرة في اللوحة أكبر من المدينة وغائرة في سماء مليئة بالغربان وطيور أخرى غريبة الأشكال" .. لكن سلمان العاشق للرسم سيكون عُرضة لتوبيخ مسؤوله له الذي مزق اللوحة فوق رأسه وأمره أن يجمع المِزَق كي يرميها في القمامة.. من هنا ينفس سلمان عن غضبه برسم لوحات وحرقها ، أما يحيى فسيؤمن أن الطريق يتحدد بمقدار ما نمشي عليه من خطوات ، وسيختار طريق الكتابة ، حيث يغدو بإمكاننا ابتكار حيوات في الورق لم نعشها في الواقع، نرسم فيها لوحات جميلة ونبتكر شخوصا مدهشة ، ونتحدث بلغة آسرة ، ونطرح أسئلة ممضة ، نمضي مُتَحَدِّين الصعاب ، وعابرين الجدران التي تقف في طريقنا بعزيمة لا تكل ، مستحضرين في قرارتنا أمل دنقل : آه ما أقسى الجدار / عندما ينهض في وجه الشروق / ربما ننفق كل العمر .. كي نثقب ثغرة / ليمر النور للأجيال .. مرة ! /
ربما لو لم يكن هذا الجدار / ما عرفنا قيمة الضوء الطليق !! .