السبت، 21 فبراير 2015

الكاتب العُماني يحيى المنذري: ننتظر إنشاء المجمع الثقافي بقيادة مبدعين

http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/cfa8eaaa-ad49-4b74-a51d-6bf95ecf1a0f


مسقط -"الخليج":
تمتد تجربة الكاتب والقاص يحيى المنذري لأكثر من عشرين عاماً قدّم خلالها أربع مجموعات قصصية فقط بدأها ب"نافذتان لذلك البحر" في العام 1993 وكان حينها في سنته الدراسية قبل الأخيرة في الجامعة، لتأتي أعماله الأدبية بعدها متباعدة وقليلة، المجموعات القصصية الأخرى للمنذري هي "رماد اللوحة" التي صدرت عن دار المدى في دمشق عام ،1999 ثم مجموعة "بيت وحيد في الصحراء" وصدرت عام 2003 . ثم مجموعة "الطيور الزجاجية" التي صدرت عن دار نينوى في سوريا في العام 2010 . ورغم تباعد إصداراته إلا أن المنذري حاضر في الأمسيات والملتقيات والندوات العلمية والأدبية داخل وخارج سلطنة عمان . وله العديد من القصص والمقالات المنشورة في صحف محلية وعربية ودوريات ثقافية .
* بدأ يحيى المنذري الكتابة قبل أكثر من 20 عاماً، هل حقق ما كان يصبو إليه، ولماذا يأخذ وقتاً طويلاً بين الإصدار والآخر "المجموعة الأولى عام 1993 والثانية بعدها بست سنوات"؟
-هناك أسباب كثيرة لذلك، أهمها الحرص على أن يكون الإصدار متميزا من ناحية الأفكار والأسلوب، وأنا هنا لا أدعي بأن إصداراتي متميزة، ولكنني أحرص على تميزها بقدر الإمكان، لا يوجد لدي ذلك الاقتناع السريع بالقصة بعد كتابتها فلا بد أن تمر بمراحل عدة لتجد طريقها إلى النشر، فأحرص كثيرا على إعادة كتابتها أكثر من مرة وتنقيحها ومراجعتها من ناحية اللغة، وأتركها فترة من الزمن ثم أرجع إليها، وقد أكتشف بأنها بحاجة إلى مزيد من التنقيح وربما إضافة أو شطب مشاهد وأحداث، ولذا تتأخر كثيرا هذه القصة حتى ترى النور، بينما هناك كتّاب يخوضون مغامرة النشر السريع ونجد لديهم غزارة في النشر . 
أنت عاشق للفن التشكيلي وهو حاضر في كتاباتك، إلى أي مدى يستسلم يحيى المنذري أمام تحقيق ما يحب، وهل ترى أن توظيفك للفن التشكيلي في لوحات مكتوبة قد حقق بعضا من طموحاتك أو أحلامك لنقل .
في حالة الفن أعتبر الاستسلام موتاً، فالإنسان طالما لديه حياة وعقل ناشط وإحساس فلن يستسلم في تحقيق ما يصبو إليه . الفن التشكيلي هو جزء من الأدب والفنون الأخرى، ويشكل معها لوحة إنسانية تدعو إلى التعلم والاستمتاع والرقي بالأخلاق . النظر والتأمل في لوحة كقراءة القصة وتأمل فكرتها وأحداثها، الألوان خلقت في الطبيعة وتتجلى في السرد بأنواعه وفي الشعر والموسيقى . وتوظيفي للفن التشكيلي في القصة القصيرة جاء في سياقه الطبيعي نتيجة التعامل مع الفن والأدب .
* كيف يرى يحيى المنذري واقع الكتابة والكتّاب اليوم في سلطنة عمان؟
-هناك تطور ملحوظ في نشر الأعمال السردية والشعرية في سلطنة عُمان، وفي الآونة الأخيرة بدأت الرواية تأخذ دور الطليعة في النشر إلى جانب القصة القصيرة والشعر اللذين تراجعا قليلاً . وهناك بعض كتّاب القصة والشعر تحولوا إلى كتابة الرواية، وهناك روايات تستحق الإشادة ولكن عددها قليل لا يتعدى عدد أصابع اليد . ولكنني أتوقع أن هذا الكم من الإصدارات سيتوج بروايات جادة وعميقة، وسيتوج بروائيين لا يقلون أهمية عن كتّاب كبار ومعروفين . ومن وجهة نظري فزيادة عدد إصدارات الرواية ليست فقط في سلطنة عُمان بل على المستوى العربي الذي يتسابق فيه الكتاب من أجل التميز والإبداع، وربما كان للمسابقات الكبيرة في مجال الرواية دور في التحول إلى السرد . وهناك أيضا أعمال متميزة في مجال الترجمة ولكنها قليلة، وأتوقع أن تزداد في الأعوام المقبلة وخاصة إذا ما تم التفكير في إنشاء جهة تعنى بالترجمة في السلطنة .
ولكن مع الأسف الشديد لا يزال مستوى نشر الدراسات والبحوث ضعيفاً جدا، فالبلد بحاجة إلى هذا النوع من الإصدارات في المجالات النقدية والفكرية والعلمية والعلوم الإنسانية، فهناك قضايا وظواهر كثيرة تستحق الدراسة والبحث . وهناك ندرة في الإصدارات السياسية والإقتصادية والمسرح والموسيقى والفن التشكيلي . وفي اعتقادي عند إنشاء المجمع الثقافي المنتظر في سلطنة عمان، سيكون له دور مهم وفاعل في تسريع الحراك الثقافي العماني، ولن يقوم هذا المجمع بالدور المنتظر منه إلا حينما يديره مثقفون أكفاء، ويُدعم معنوياً ومادياً .
* إلى أي مدى يحمي المجتمع العُماني الإبداع ويحرص على توفير مساحة من الحرية للكتّاب العُمانيين، خاصة وأن المجتمع مازال يحاكم بطريقة غريبة بعض الكتّاب على أفكارهم ولا ننسى مؤخراً ما حصل مع الكاتبة بدرية الاسماعيلية ومجموعتها ملح؟ ما رأيك؟
-المجتمع العُماني مثل المجتمعات العربية الأخرى، يحتوي على عقول تختلف في مستوى ثقافتها وتفكيرها، فهناك طبقة مثقفة ومتعلمة وقارئة ونظرتها متحررة تجاه الإبداع في مختلف مجالات الأدب والفكر الديني والمجالات العلمية والاقتصادية والسياسة، ولديها ذوق وحس فني، ولديها توق عميق إلى المعرفة، وتطمح إلى التميز، وهذه الطبقة هي التي يعول عليها المجتمع لينمو ويتطور ويتميز، فطالما وجد عقل يفكر ويبتكر ويبحث ويكتشف وجدت السعادة . وفي الجانب الآخر توجد طبقة ضيقة التفكير ولديها طبيعة إساءة الظن بالآخر، وتسيء فهم الإبداع، ورغم حصيلتها من العلم إلا أنها ترفض التفكير، ولا تريد استعمال العقل بطريقة إيجابية وفعالة، هذه المجموعة هي التي تجر المجتمع إلى الوراء وتحاول تقييده وربما دفنه في الفكر الظلامي الدامس .
* هل تعتقد أنه مازال للأدب دور أو حضور فاعل اليوم، خاصة في ظل الأزمات التي تعيشها بعض بلداننا العربية؟
-الأزمات هي التي تولد الإبداع والأدب لا يقل أهمية عن حقول المعرفة الأخرى، والتاريخ يشهد على ذلك، فمثلا الرواية والقصة والشعر شكلت ملاحم معرفية وفنية، ومنابع للخيال والابتكار، وأسهمت في تنمية الوعي المجتمعي والثقافي والناجح هو من يستطيع اجتياز الأزمات بالصبر والتفكير والعمل الجاد .
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/cfa8eaaa-ad49-4b74-a51d-6bf95ecf1a0f#sthash.qQqVB9kB.dpuf

الاثنين، 12 يناير 2015

قصة قصيرة " جدران ومرايا "


يحيى سلام المنذري

في الصباح الباكر من يوم الجمعة فتحت الباب الزجاجي لمحل حلاقة الشعر ودخلت. كانت رائحة بخور العود الهندي الرخيص تملأ المكان، رمقت خيط الدخان يتلوى من خشبة نحيلة احترق نصفها وتناثر رمادها، أصبحت هذه الرائحة تصيبني بالقرف إلا أنني كالعادة أتجاهلها، كان هناك الكثير من الزبائن ينتظرون دورهم، الجدران مغطاة بالمرايا الزجاجية والأرضية مغطاة بالشعر. رميت جسدي على أحد كراسي الانتظار في مكان يبدو من الوهلة الأولى أنه هادئ، لم يكن هناك صوت ينبعث من التلفاز، وهذا شيء مريح لكي أتمكن من قراءة الكتاب الذي جلبته معي وحتى أستحوذ على قدر كاف من التركيز أثناء انتظار دوري.
فتحت كتابي وبدأت أقرأ، بينما جميع المنتظرين يمارسون عادة النظر إلى الحلاق حينما يقص شعر الزبون، وآخرون يتثاءبون أو يطالعون بعض الصحف أو المجلات الملونة القديمة المرمية بدون ترتيب على الطاولة الزجاجية أمام الكراسي العتيقة، كان على يميني شاب بملابس النوم ينظر إلى هاتفه النقال ويضحك، بينما على يساري رجل كان ينظر إلى السقف طوال الوقت وكأنما يبحث عن شيء مجهول ولكنه سرعان ما تلقى دعوة من الحلاق وذهب إلى كرسي الحلاقة، ظل مقعده شاغرا لمدة وجيزة حتى جاء رجل ذو لحية بيضاء وجلس بجانبي، اندهشت من وجود "المصر" على رأسه في يوم الجمعة. فجأة أشعل الحلاق تلفازه وانبعثت منه حوارات هندية صاخبة يتخللها في بعض الاحيان أغان وموسيقى، تجاهلت كل ذلك لأن موضوع الكتاب استحوذ على اهتمامي، كنت أقرأ في الصفحة اليمنى من الكتاب أما الغلاف الأخير فكان يواجه الرجل صاحب المصر، لاحظت بأنه أخذ يقرأ ما كتب على الغلاف الأخير، تعمدت الإطالة في القراءة وأعدت قراءة بعض الفقرات لأعطي الرجل فرصة لمشاركتي قراءة الغلاف الأخير الذي يعرض ملخصا عاما وقصيرا عن موضوع الكتاب، وطبعا أنا لم أقرأه بعد لأنني قد تعودت أن أترك قراءته بعد أن أنهي قراءة كل الكتاب.
قرأت تلك الصفحة مرتين حتى ينتهي الرجل من قراءة الغلاف، وبعدها انتقلت إلى قراءة الصفحة اليسرى وبذلك تم إخفاء الغلاف الأخير تحت يدي اليسرى، وهكذا قطعت على صاحبي متعة تلصصه بدون أن أعرف طبعا إن كان قد انتهى منه أم لا، بادرتني رغبة لقراءة ما كتب على الغلاف الأخير، لكنني أجلت الموضوع حتى لا يشعر الرجل بأنني كشفت سره في التلصص على كتابي، كنت أشعر به ينتظرني أن أنتهي من الصفحة اليسرى من الكتاب، لأنه تارة ينظر إلى الحلاق والزبائن ثم يرجع برأسه ناحية كتابي ليجد بأن الغلاف الأخير ما زال مختبئا. يبدو بأن موضوع الكتاب المدون في الغلاف جذبه وأثار اهتمامه. قررت أن أسرع في قراءة تلك الصفحة حتى أكتشف ماذا سيحدث حينما ينتهي من قراءة الغلاف، هل سيفتح بابا للنقاش حول الموضوع؟ هل سيسألني عن الكتاب والكاتب؟ هل سيسألني عن اسمي وعن اهتماماتي؟ ربما هو شخص لديه اهتمامات مشابهة. أنهيت الصفحة وقلبتها وبدأت في الصفحة التالية وبذلك هيأت الغلاف الأخير وعرضته متعمدا عليه وهذه المرة هيأته بطريقة أوضح ورفعته إلى أعلى، وكأنني أقف الآن أمامه وأقول له هيا إليك الفرصة الآن للقراءة وعليك أن تستغلها. وكما توقعت فإن الرجل غاص في المعلومات المكتوبة وهذا بالطبع دليل على أنه لم ينته من قراءته في المرة الأولى، على الفور توقعت بأنه سيسألني عن الكتاب أو سيطلب مني رقم هاتفي ليستعير مني الكتاب.
كانت الأغاني الهندية تزداد صخبا، وخشبة العود النحيلة لم يبق منها سوى جزء ضئيل. ثم قررت بأن أنهي قراءتي للكتاب عند ذاك الحد حتى أتيح له فرصة للكلام. وحينما أغلقت الكتاب، فاجأني بحديثه وقال بإبتسامة ماكرة: “هذا الحلاق هو الوحيد الذي يفتح باكرا في يوم الجمعة” رددت عليه بابتسامة وقلت له: “نعم..هو كذلك”. وبعد صمت وبدون أن يشير إلى الكتاب قال بسخرية: “يقولون حضارة.. واليوم سمعت بأن الحكومة قررت منع الذهاب إلى مكان العزاء وقت الدوام الرسمي”. فكرت في الشطر الأول من كلامه وكان يتعلق بموضوع الكتاب الذي أقرؤه، ولكن الشطر الثاني لا يمت بصلة الى موضوع الكتاب رغم أنه قام بربط الحضارة بالخبر الذي سمعه. قلت له: “هل هذا صحيح؟ غريب”. رد بحماس: “نعم صحيح لقد تيقنت من الخبر”. عند هذه النقطة أشار الحلاق إلي بأن دوري قد حان، استأذنته وظننت بأنه سيطلب مني الكتاب حتى يأتي دوره هو الآخر، لكنه لم يفعل ذلك، فاستأذنته وأخذت كتابي معي وتوجهت إلى كرسي الحلاقة، تركته مع المنتظرين يحدقون في الحيطان والحلاق وهو يقص الشعر، وكنت متشوقا حتى أنتهي وأخرج لأقرأ غلاف الكتاب وما كتب عليه، ولكنني كنت مستاء لأنه لم يطلب مني الكتاب لتصفحه حتى لدقيقة واحدة فقط.

من مجموعة الطيور الزجاجية 2011

قصة "الطاحن الأول"





السبت، 3 نوفمبر 2012

الطفولة القلقة والصِّبا المضطرب ..في مجموعة «الطيور الزجاجية» للقاص يحيى سلام المنذري


سالم آل تويّه



«ليس هناك من عمل للتحرر الفردي أروع من جلوسي وراء آلة كاتبة لابتداع العالم»

غابرييل غارسيا ماركيز



منذ أصدر القاص العُماني يحيى سلام المنذري مجموعته القصصية الأولى "نافذتان لذلك البحر" عام 1993 والطفولة والصبا هما محور أغلب قصصه. الطفولة والصبا هنا مرحلتان عمريتان أثيرتان تنالان نصيبًا أوفر من السرد، وتطرحان أسئلة شتى تتعدَّى الحكاية التي يوليها يحيى اهتمامًا يُميِّزه عن كتاب القصة الآخرين في عُمان لتبني عالمًا قوامه واقع الشخصيات وأحلامها وأفكارُها الكامنةُ في الأعماق، الأفكار الظاهرةُ أمام القارئ عبر سلوك تُبرزِه تجارب الفقد والحرمان النفسي والمادي حتى بالنسبة إلى الشخصيات الأكبر سنًّا في قصصه، الشخصيات التي بلغت مرحلة الشباب أو تجاوزتها، وهي شخصيات محبطة مكسورة نتيجة أوضاعها الحياتية والاقتصادية، من فرط حزنها تنفجر أحيانًا حزنًا أو فرحًا على نحو غريبٍ يبعثه استغراقها في الألم.

تقسيم المجموعة القصصية إلى أجزاء وعناوين تحوي عناوين أخرى طريقة درج عليها يحيى سلام المنذري في مجموعاته القصصية الأربع. لعل هذا التقسيم نابع من فكرة الزمن نفسها ومراحل حياة الإنسان الثلاث (تُقسَّم إلى خمس مراحل أيضًا) دون إخضاعها للترتيب والعدد الصارمين كما هما في الواقع، وكأن الزمن في هذه القصص ينتظم في السلك الغامض نفسه مستلهمًا خفاياه ذات العلاقة الأوثق بالوأد والانقطاع والألم والمصير اليائس أكثر من خضوعه للتراتبية المعهودة المتصاعدة من الميلاد حتى الموت. في "الطيور الزجاجية" يأتي التقسيم على النحو الآتي: الجزء الأول: خمس قصص عالمها الطفولة والصبا. الجزء الثاني والثالث: قصص عالمها الرجولة والشهوة والشباب، وتختلط المراحل العمرية في بعض قصص هذين الجزءين –وإن بقيت الشخصيات المحورية تنأى عن عالم الطفولة وتقترب منه- لتشترك معًا في أرق نفسي يصبح خصيصة تميز عوالم قصص يحيى سلام المنذري ومنطلَقًا ومنتهى.

طفولة خائفة في قصص «الطيور الزجاجية»، طفولة هلِعة، والخوف مقبل من عالم الكبار، من المدرسة والمعلم والمجتمع وأسباب الحياة وأقدارها المحزنة. يدوم الخوف بل إنه يتأبَّد، لأن القصة تنتهي هناك في تلك اللحظات المزمنة المجلودة بوعي المعلم وصراخه وحزامه، اللحظات التي –في أغلب الأحيان، برغم انتهائها- تبدو بلا نهاية، كما هو الحال في قصة "خوف العصافير الصغيرة". إن الراوي نفسه في هذه القصة متلبَّس بخوف التلاميذ الصغار، بأرواحهم المرعوبة؛ إنه –هو الآخر- طفل حتى في لغة سرده المتلعثمة أحيانًا بسبب غطرسة المعلم! العنوان "خوف العصافير الصغيرة" يتناص وعنوان المجموعة "الطيور الزجاجية"، لكننا هنا سنشير إلى التشبيه البليغ الذي يجعل الأطفال عصافير دون واسطة لغوية، فالعنوان يوحي بأن محور أحداث القصة هو (العصافير)، ولا يتبين أن المقصود هم الأطفال إلا بعد الشروع في قراءة المتن. المعلم كريه، مبغوض، لأنه مصدر الألم والرعب، وحتى بعد أن يغادر التلاميذ الصف الدراسي يستمر أثر أذى المعلم في نفوسهم: «تصبح أمنيتهم الوحيدة هي أن لا يأتي الغد. وبعدها تطير العصافير إلى أعشاشها منفطرة القلوب»(ص 33).

وجه الشبه البليغ بين الأطفال والعصافير واضح: البراءة، ويُوصله الراوي حدَّ التطابق بحذفه أداة التشبيه. العصافير تُذعَر وتُصادَر حُرِّيتها بحبسها داخل قفص، وجدران الفصل الدراسي تصير معادلًا موضوعيًّا للقفص. السكين مبعث خوف العصافير، وصراخ المعلم يصبح سكينًا أيضًا تذبح ضحك الأطفال وتقمع مرحهم. العصافير تمارس مرحها المعتاد بالطيران والزقزقة دون وعي أي عوامل تقتضي منها العكس، فهذه طبيعتها، وهذه لغتها أصلًا، لكن الحبس والسكين يمنعانها من عيش عالمها الحر، وطبيعة الأطفال شبيهة بطبيعة الطيور. هذا ما يبنيه سرد القصة ويُرسِّخه في وعي القارئ. المعلم يقوم بدور شرير عبر سلوك يهدم ويخرب ويرعب ويعمل ضد الطبيعة، وما دام الأطفال يشبهون الطيور في رقتهم وصخبهم وبراءتهم –حسبما يراهم السارد- فإن المعلم يشبه الأسد في شراسته وبعثه الرعب في القلوب. المعلم في هذه القصة عامل نفسي مستبد. وظيفة التعليم تخرج من إطارها المعتاد لتحتل وعي التلاميذ الأطفال بالعنف والتخويف ومقت الدراسة: «وبعد أن يعلن لهم بكل صراخه بأن الغد هو مخصص لتسميع جدول الضرب تصبح أمنيتهم الوحيدة هي أن لا يأتي الغد»(ص 33).

حسب السياق يتبين أن تشبيه السارد الأطفال بالطيور والمعلم بالأسد نابع من المعلم أساسًا الذي يفتك بطمأنينتهم صارخًا: «يا بهائم.. حفظتم جدول الضرب؟.. كما قلت.. الذي لم يحفظ سيأكله هذا الحزام»(ص 34). "بهائم" المنطوقة من قبل المعلم تجعل أفكار التلاميذ والسارد تتوارد باللغة نفسها، أي لتصفه بمرادِف لصيق بلغته أو شديد القرب منها. وإذا أمعنا في القراءة سنلاحظ تأثير لغة المعلم المستبدة العنيفة الشاتمة الشامتة في متن السرد بإخافته السارد وإرباك شخصيته. يمكن الإشارة هنا إلى مستويين: فني فاعل في إدارة السرد وبنائه، وآخر يوهن لغة السارد ويصيبها بالإعياء. إن محاولة كسر نمط الرعب والحيلولة دون امتداده لا يلبث أن يواجهها المعلم بتأكيد غطرسته. المحاولة تلقائية يقوم بها أحد الأطفال/ العصافير إثر تهديد المعلم الآنف ذكره، فكلهم يصمتون خائفين «عدا عصفور واحد كان يجلس في آخر الصف فاجأ الجميع بضحكة غريبة. اندهش لها الأسد وصوب له نظرات حادة كالسكين حتى قطعت ضحكته البريئة»(ص 34). لا يتوقف الأمر هنا. بل إن الضحكة المذبوحة بسكين نظرات المعلم تجعله يُغادِر إنسانيته في عيون الأطفال –وفي عيني السارد الطفل أيضًا- ويصير حيوانًا: «بدأت العصافير المرتعشة تتابع يدي الأسد ذواتي المخالب والعروق النافرة، يدان تتحركان وتمسكان المعدن الذهبي للحزام الأسود»(ص 34).

يشدد السارد على النتيجة النهائية وهي تنهب قلوب الأطفال: الخوف: «ازداد خوفهم مع كل دقيقة تزيد في أعمارهم»(ص 34). الخوف يقض مضجع العصافير، يفصلها عن واقعها ليصنع لها واقعًا آخر أثره بالغ وممتد سرعان ما يؤكده السارد «انتهت لعبة المرح وازداد خوفهم. ازداد وما زال يزداد حتى هذا اليوم»(ص 34)، أي أن الخوف لم ينته، رافق الأطفال حتى "اليوم". "اليوم" هنا زمن مستمر لصيق بكل أزمنة الأطفال اللاحقة حتى الممات. إن السارد لا يكتفي بذكر الخوف أو الإشارة إليه فقط، وإنما يؤكد أثره المهيمن والمتصاعد أيضًا: "ما زال يزداد". عندما يكبر الأطفال يكبرون خائفين. الطفولة مرحلة تنوء بأثقال ينوء بها كاهلها وكاهل العمر الآتي كله، فهي أثقال لا تتبدَّد، بل تتسم بالتمدد وثقل الوطأة.

سارد قصة "خوف العصافير الصغيرة" يسرد من زمن بعيد عن الطفولة، من المستقبل يعود، من الكبر إلى الطفولة متقهقرًا بروح يُلوِّعها استمرار الأثر. البراءة والمعرفة وجهان للحكاية نفسها، حكاية الماضي المستمر، الماضي الأبدي، حكاية المعلم المستبد والأطفال الذين كبروا لكنهم ما زالوا هناك لا يغادرون الزمن المر المحفور في الروح: «كانوا بحاجة إلى التنفس لكنهم لم يستطيعوا.. كانوا بحاجة إلى شيء لينسوا ولو للحظة هذا الخوف المنتشر هنا الذي لا يعرفون متى سيبتعد عنهم ويجعلهم يهنؤون براحة المعرفة»(ص 35). لا نعرف هوية السارد، لكننا نشعر بالقدر غير القليل من عدم الارتياح الذي يكنه للمعلم؛ «وكأن المعلم طلب منهم الاستعداد للحرب»(ص 33)؛ هكذا يبدأ السارد القصة. مبالغة السارد تُنير ظلمة المتن الحكائي وتجعله نتيجة منطقية لشخصية المعلم؛ كان الأطفال «بحاجة إلى التنفس لكنهم لم يستطيعوا»(ص 35)، فتهديد المعلم وشخصيته المرعبة يكتمان أنفاس طلبته، إنه، بمعنى آخر، نقيض الحياة، بل مُنتزِعُها، حابسُ الهواء، زارعُ الخوف في الأعماق الدفينة. كل هذا يخلق طفولة خائفة بدورها تؤسس شخصيات قلقة مريضة خائفة يستولي عليها التَّبلُّد، أحيانًا، والاضطراب، ويرافقها الترقب ونوبات الأرق والتفكير الممض على نحو متصاعد متواتر لا يستغرق الزمن الحاضر وحده فقط بل حتى الآتي.

قصة "طائرة تبدد لون السماء" شخصيتاها المحوريتان الولد حمود وأمه. أكثر من قصة في هذه القصة. يعنينا هنا الولد حمود والانتظار. الانتظار انتظاران، انتظار مؤقت وانتظار دائم. انتظار حقيقي وانتظار زائف. الانتظار المؤقت الحقيقي الذي يستغرق زمن القصة الفعلي هو انتظار "الموكب"، أما الانتظار الدائم الزائف فهو انتظار الأب المسافر إلى الهند. ولعل وصف انتظار الأب بـ"الدائم" و"الزائف" و"المتوهَّم" يستقر في وعي القارئ الذي يعلم –بواسطة السارد والأم- بما لا يعلمه الولد حمود، ويتعزَّز –الوصف- انطلاقًا من كون الاتصال بين الطرفين (الابن والأم من جهة والأب من جهة أخرى) مقطوعًا، فما سيحدث مرهون بالمستقبل الغامض، أي أن الأب قد يعود وقد لا يعود، لكنه في جميع الأحوال سيعود بالنسبة إلى الابن حمود، فالتخوف من عدم عودته يشغل الأم وحدها، «وقد أوهمت حمود بأن أباه سافر إلى الهند في رحلة عمل وسيعود، وحمود ما يزال ينتظر عودة أبيه من البلاد البعيدة التي لا يعرف عنها شيئًا سوى الحلويات ذات نكهة النارجيل التي تذوقها حينما رجع خاله راشد ذات يوم من الهند»(ص 10) مصدر اضطراب الطفولة هنا هو غياب الأب، لكن لنقف قليلًا عند عنوان القصة. لون السماء أزرق صافٍ تُبدِّده الطائرة؛ هذا ما يخبرنا به العنوان. إن اضطراب أعماق الشخصيات في قصص مجموعة "الطيور الزجاجية" ينشأ من عوامل مباشرة وأخرى غير مباشرة، وكل منها قد يؤدي إلى الأخرى. وكما هو واضح في عنوان هذه القصة "طائرة تبدد لون السماء" يحدث انزياحٌ من السبب المباشر إلى الصورة البليغة المُوجِزة. إن شخصية السارد حاضرة بقوة في جميع القصص، سارد يتوارى ويظهر بأسلوبه الخاص الذي يحاول استخلاص روح المضمون وبواعثه، أي الطفولة أو الصبا أو مسؤوليات الحياة المعقدة والاضطراب والقلق والترقب. من هنا فإن أغلب عناوين القصص – بما في ذلك عنوان المجموعة نفسه - يتسم بالقلق أيضًا ويحمل روح الطفولة، فـ"الطيور الزجاجية" عنوان يوحي أول ما يوحي بلعبة –مثلًا- كما قد يوحي بتعمد إقصاء البراءة ومحوها، وهو تأويل تتيحه مصائر شخصيات قصص المجموعة إذا ما نظرنا إلى مؤدَّى الأحوال ومراميها البعيدة. في الوقت نفسه فإن عنوانًا مثل "طائرة تُبدِّد لون السماء" يبدو للوهلة الأولى خارج السياق تمامًا في قصة تتعلق أحداثها بشخصيتيها المحوريتين: الطفل حمود وأمه، فالطائرة صورة عارضة لا يستغرق ظهورها وقتًا طويلًا. يحدث هذا في معمعة "الموكب" التي لم يفهم حمود شيئًا خلالها. "الموكب" أحد عوامل التعكير والتكدير والقلق المضاف إلى القلق الأصل –إن صح القول- الناشئ عن غياب الأب. الطائرة دخيلٌ غير محبوب بالنسبة إلى حمود. قلنا إن الأمر يستغرق وقتًا قصيرًا لكنه من وجهة نظر السارد أبعد غورًا من تلك اللحظات القليلة. الأمر الموصوف بالعارض والمصادفة يصير أساسًا. يبدو أن أثر ظهور الطائرة بالرغم من سرعته يبقى حبيس وعي الطفل حمود الباطن لينزع إلى سدِّ الأفق الأزرق الصافي ويستثير مكامن إحساسه بالغربة والقلق وفقدان الأب.

لنلق نظرة على ما حدث لـحمود: «حاول أن يقف ويمشي مرة أخرى باتجاه الشارع، لكنه تعثر بحجر وسقط، فشاهد السماء زرقاء صافية، وقبل أن يستمتع بالمشهد ظهرت طائرة مروحية اخترقت صفاءها، فتبدَّد لونها واستحال إلى رماد.»(ص 13). التعثر والسقوط يرفعان رأس حمود نحو السماء ليرى الطائرة. لحظات لا تنتهي بانتهاء حدوثها، ويمكننا القول إنها تُخلِّف أثرًا سيِّئًا في نفس حمود، ولهذا أصبحت عنوان القصة. على نحو من الأنحاء يدرك حمود القلق الذي تبعثه فيه رؤية الطائرة: «نهض حمود من سقطته ليسمع صوت أمه تنادي عليه، شاهدها واقفة بجانب الترمس وأدوات العصير، كانت مثل حمامة تدعوه لتحمله على جناحيها وتطير به إلى البيت.»(ص 13)؛ لنلاحظ المقابلة التلقائية اللاواعية التي يصنعها شعور الطفل ويصوغها الراوي: الطائرة والأم، الطائرة والحمامة، العام والخاص، الخارج والداخل، الرسمي والحميمي، البهرج والجوهري، الخوف والأمان. حمود طفل ليس كبقية الأطفال. طفل يميل إلى العزلة، الأم والبيت وانتظار الأب عوامل سعادته بينما الخارج والناس والطائرة التي بقَّعت زرقة السماء بلونها الرمادي عوامل قلقه. وهكذا لا نتفاجأ حين نستشعر ارتياحًا خفيًّا يكبر داخله حالما يشرع في الابتعاد عن الموكب: «لم يلتفت خلفه ليُشاهد ماذا سيحدث بعد مرور الموكب وما إذا كان الناس سيظلون هناك في انتظار شيء آخر أم سيعودون إلى بيوتهم سعداء، كل الذي يعرفه الآن بأنه موجود مع أمه بأمان»(ص 13).

إذا كانت العصافير رمزًا للأمان والبراءة في قصة "خوف العصافير الصغيرة" فإنها، في قصة "الطيور الزجاجية" –التي حملت المجموعة عنوانها- سبب للقلق والغضب والاستياء. مازن الصبي المراهق الآخذ في اكتشاف جسده وغرائب ما يقع له وحوله في المرحلة الوسيطة بين مفارقته الطفولة وولوجه مرحلة الصبا يُصاب بالضيق ويغرق في كابوس أسود. عبر ستة عناوين داخلية يسرد الراوي مفارقات عديدة يخوضها "مازن" توضح مظاهر الحياة الغريبة التي تُشارك في صنع شخصيته. وإن بدا أن هذه الشخصية تتسم بقدر من الحيلة والتماسك إلا أنها لا تنجو بصاحبها في نهاية المطاف من افتراس الأفكار وأسباب القلق باجتماعها عليه دفعة واحدة. مكمن قلق الشخصيات في مجموعة "الطيور الزجاجية" دائمًا نفسي يخضع لسلوك خارجي يزعزع الثقة ويحبط ويؤلب الأفكار والهواجس على التلاعب بالأعماق الهشة والنيل منها على نحو متصاعد يصير عاديًّا أحيانًا، بمعنى أن وتيرته معتادة بالنسبة إلى الشخصية على الرغم من كونها أذى نفسيًّا.

أحيانًا يكون حدث القصة غريبًا، كما في "الطيور الزجاجية"، وأحيانًا يكون بسيطًا، كما في قصة "إنقاذ"، حيث، أيضًا، يتداخل حدثٌ وحدثٌ يسبب أحدهما اختلال اتزان الشخصية ومحو فرحها في لحظة وكأنه لم يكن. الحدث هنا يكتفي بتقديم نفسه بتواضع دون اعتناء باللغة إلا بقدر ما تسرد وتقدم المعلومات، لغة بسيطة، قنوع إلى أبعد مدى، تفتقد ألق السارد المعتاد في قصص يحيى سلام المنذري. القلق النفسي، العامل المشترك في قصص المجموعة وأغلب قصص المنذري، يحتل مساحات زمنية طاغية مقارنة بأوقات سكينة الشخصيات وسلوكها المطمئن. لا يُقدِّم السارد أعمارًا محددة للشخصيات –كما أسلفنا- لكن الطفولة والصبا تكادان تمثلان ظاهرة في قصص يحيى سلام المنذري. وإذا أمعنا النظر فإن زمن السرد ومناخه يتقهقران نحو سنوات تكاد تندثر ويحل مكانها زمن ومناخ جديدان ينتصران لقيم أحدث تزيد وطأتها على الشخصيات وتفاقم قلقها.

غياب الآباء على ذلك النحو الحزين، ملابس الأم التقليدية، الحواري والدروب الترابية القديمة... كل هذا وإن بقي موجودًا إلا أن نظرة مدققة تثبت أنه يعود إلى سنوات خلت. ليس القصد هنا أن زمن القصة يؤثر سلبًا في وهجها أو قراءتها، إنما –ولا بد من الالتفات إلى هذا- يعني أن الكاتب نفسه يُفارق مرحلته العمرية الحالية آناء الكتابة ليعود إلى فترة طفولته هو وصباه هو على وجه التحديد!. ويجب الانتباه هنا ووعي أن الشخصيات ليست كاتبها على الإطلاق على الرغم من كل ما قد يُحمِّلها الكاتب إياه، واعيًا أو غير واعٍ، من شخصيته. ليس هذا انتقاصًا من قيمة قصص يحيى سلام المنذري –خصوصًا أن هذه الملاحظة تثير شجونًا نقدية وعاطفية في الآن نفسه- بل محاولة للاقتراب من أفضية هذه القصص. إن قراءة سِيَر كتَّاب العالم تثبت أن الأمر حتمي لا يدعو إلى الاستهجان أو الانتقاص.

لعل أحد التأويلات الممكنة هو التشبث بالحياة بمقاومة تقدم الزمن ورفض الانصياع له عبر الشغف بمراحل بعينها من مراحله مهما كان وقعها، فهي تمثل ألقًا خفيًّا يترسب في الأعماق ويزدهر بالتذكار، أو بالأحرى بالاستعادة التي تقوم بها الكتابة لتنتشلها من الأعماق السحيقة وتجعلها، بمعنًى من المعاني، واقعًا معاشًا في المتن السردي، ففي هذه الأثناء ينفصل الكاتب عن الحاضر القائم ويُحِلُّ مكانه الماضي، ليُلغي الحاضر ويُنشئ مكانه واقعًا ما عاد ماضيًا وإنما هو وحده المضارع المستمر، وهكذا فإن القارئ المتفاعل والنص بالضرورة يدخل زمن القصة، زمن الطفولة والصبا، ويعيشه الآن.

إن الإمكانية الأمهر في السرد هي قدرته على بناء عالم تتبدَّى فيه الحقائق والأوهام على نحو خالق مبدع يتطلَّب بشدة كاتبًا يسبر أعماق شخصياته بدراية تجعلها حقيقية فاعلة تخاطب حواسَّ القارئ بإلحاح محبوب وشادٍّ وضليع حدَّ انتفاء الفرق بين الواقع والخيال. السارد لا يتلبس أرواح شخصياته فحسب، بل يكونها كما هي، يكون هو الطفل والشاب والعجوز والنجار والبائع والحلاق والذكر والأنثى والبريء والمجرم... إلخ، لأن ذلك العالم لن يجدر باكتساب هذه الصفة إلا بمشقة يخبرها الكاتب المتوحد بعالمه ذاك. لذلك عندما نقول إن يحيى سلام المنذري الكاتب المبدع ينفصل عن زمنه الراهن ليعود سنوات إلى الوراء ويصير (وهذا فعل تحوُّل من حال إلى حال) هو نفسه ذاك الطفل أو الصبي فإن الأمر ينطوي على معنى أبعد غورًا من أي تأويل سطحي يتبادر إلى الذهن ولا يرى فيه إلا إلصاق يحيى بتلك الشخصية أو هذه ممن يعتورها الاضطراب النفسي ويرسم القلق والخوف ملامحها. إن هذا الأمر يحتاج إلى كتابة أبعد مدى من هذه العجالة.

قد تكون هذه مناسبة للتذكير بالكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا الفائز بجائزة نوبل في الأدب عام 2010م، فقد عرف عنه ولعه بالكتابة عن فترة الصبا وأيام المدرسة. ويمكننا هنا ذكر اثنين من أعماله المهمة في هذا السياق هما مجموعته القصصية الوحيدة "الرؤساء" (1958) وروايته "الجراء" (1966)، وفيهما تحتشد شخصيات الصبيان وطلاب المدرسة بما يرافق هذه المرحلة من اكتشاف الذات نفسيًّا وجسديًّا وبداية سلوك المسالك التي تحدد المصائر لاحقًا. ولا شك أن أكثر من إشارة لأعمال يوسا، وكذلك بعض أحاديثه، يؤكدان نشوء كتابته من ذكرياته الشخصية وبعض القصص الحقيقية الواقعة في بلاده. هذا ما يقوم به أساتذة السرد الكبار، وبالتالي لن يكون الأمر استثناء بالنسبة لسائر الكتاب الآخرين.

كثيرًا ما يكون الآخر في قصص يحيى سلام المنذري مصدر قلق وخوف وعُقدة نفسيَّة. في قصة "ليلة الخنجر" يذهب الصبي ناصر وأمه لحضور عرس أحد أقاربهما. عندما تسأل الأم ابنها عن استعداده للذهاب يجيبها بسؤال: «نعم أمي .. أنا مستعد. لكن من الذي سيحضر هناك؟»(ص 29)؛ سؤال ينم عن قلق لا يزال متواريًا، أي أنه يبدو استفهاميًّا بحتًا أول وهلة، لكن، حين الاستمرار في قراءة القصة، يكشف وَهَنَ طمأنينة "ناصر" واستئناسه بالآخرين. إنه –مثل أغلب شخصيات يحيى سلام المنذري- متقوقع، مستوحد، يرى نفسه محميًّا داخل البيت، فاقدًا الراحة خارجه، برغم أن الأمر يرتبط بمناسبة اجتماعية تستغرق ساعات محدودة، لذلك بعدما تجيبه أمه بأن كثيرين سيحضرون أغلبهم من أقاربه «شعر ناصر بحزن يسري في قلبه ولا يعرف السبب» (ص 29). لماذا شعر ناصر بالحزن؟ وإن لم يعرف السبب إلا أنه، أكيد، سيكون خارج البيت، بعيدًا عن أمه، أي خارج نطاق الحماية المعهود، وسط آخرين لا تبعث رؤيتهم السعادة فيه، ليس بسببهم هم بالذات فكونهم "آخرين" سبب كاف جدًّا للشعور بالحزن. الحزن رفيق مزمن لأغلب شخصيات يحيى سلام المنذري، حتى الصغار لا يسلمون منه، كما نرى الآن بالنسبة إلى ناصر.

في قصة "طائرة تبدد لون السماء" يخبرنا الراوي بسبب غياب والد حمود، لكن في قصة "ليلة الخنجر" لا يُعلِّل الراوي غياب والد ناصر، إلا أن المعلومات الظاهرة والمنطوية في مسار السرد والأحداث تؤكد أن الوالد متوفى منذ أوانٍ بعيد، وبالأصح منذ فترة كافية لأن ينساه ناصر. لعل الدليل الدامغ على ترجيح صحة هذا التأويل هو ما يحدث لناصر حال وصوله ووالدته بيت العرس: «شاهد على أحد الجدران لوحة بها خنجر وأخرى بداخلها سيف فضي فشعر بخوف.»(ص 29). بالنسبة إلى طفل عُماني يمكن استساغة هذا الخوف، هنا، كون الولد ناصر يعيش وأمه فقط، فالأب غائب غيابًا تامًّا، حتى إن الراوي لا يأتي على ذكره أبدًا، فهو غير موجود أساسًا، ولأنه مات منذ سنوات طويلة (بالتأكيد سنوات تعادل سنوات عمرناصر غير المحددة في نص القصة) فلا شيء يستدعي تذكره. وبناءً على هذا الافتراض نستطيع فهم خوف ناصر من رؤية الخنجر والسيف.

وربما للسبب نفسه يصبح ناصر شخصية كثيرة الشرود والتوحد والهواجس الداخلية. كل شيء يبعث القلق فيه؛ إنه شخصية مشتتة منكفئة على نفسها تسهل دواعي اضطرابها وسيطرة الأفكار السالبة عليها، فهو وحيد أمه، عالمه الآمن الأم والبيت وعداهما يصير خطرًا محدقًا به. في العرس «التقى هناك ببعض أقربائه الذين كانوا من عمره، وتذكر بأن حاجزًا كبيرًا زرع بينهم رغم مشاركته اللعب والضحك والجري معهم.»(ص 29). هل هناك نوع من الفصام في شخصية ناصر؟. ماذا يعني السارد بـ«تذكر أن هناك حاجزًا كبيرًا زرع بينهم»؟. "تذكر" تعني استحضر ما كان موجودًا سابقًا فما الذي تذكره تحديدًا؟ متى انبنى هذا الحاجز بينه وبين الآخرين؟. يقدم النص ما يتجاوز جملته المباشرة ويعني أكثر وأبعد، ولذلك أشرنا قبل قليل إلى أن شخصية الصبي ناصر كثيرة الشرود، على الرغم من أن الراوي لم يخبرنا بذلك مباشرة. التأويل هنا ليس مقحمًا، فمهمتنا، كوننا قراء فاعلين، وعي ما تحت السطح وبين السطور، فكل كتابة إبداعية متميزة تتضمن قدرًا غير قليل من المحو، كل كتابة مبدعة تهزأ من القراءة الخاملة.

ما زلنا هناك، في قصة "ليلة الخنجر". أهي الخنجر سبب "تذكر" ناصر الحاجز الكبير بينه وبين الآخرين الحاضرين في العرس؟ يُوهِم الراوي قارئه بأن الفكرة المركزية في هذه القصة هي دشداشة ناصر القصيرة، ثم يبين السرد أن الصبي ينسى قلقه في البيت ليقوم على أنقاضه قلق آخر تسببه رؤية لوحة السيف والخنجر في واجهة بيت العرس، ثم البخور وخنجر العريس.

لا يُوضِّح الراوي سبب شعور ناصر بالغربة ("لماذا أنا غريب وسط أقربائي؟" ص 30)، لكن السياق يظهر استعداد الصبي التلقائي للتقوقع والانجرار خلف الأوهام والأخيلة، فما يراه في العرس (خنجر، دخان بخور، ازدحام..) يصبح روابط للتمادي في استدعاء صور مخيفة (تصاعد دخان البخور –مثلًا- يرسم صورة مارد).

أشرنا آنفًا إلى أن قلق ناصر من رؤية الآخرين قد يكون نابعًا من أنه يعيش مع أمه فقط، إذ لا وجود لأبيه في القصة. ما زلنا نرجح أن يكون أبوه متوفًى، ونضيف: إن استغرابه عند رؤية الخنجر والأسئلة التي عصفت به بشأنها تعود إلى السبب نفسه أيضًا. ومن هنا نستدل على عدم رؤية ناصر الخنجر سابقًا أو عدم اقترابه منها على النحو الذي حدث في بيت العرس. يحدث هذا على الرغم، أيضًا، من أن الصبي تذكر أنه التقى بـ"العريس" "في مجلس بيت جده"، الأمر الذي يجبرنا على التساؤل عن سر خوفه من الخنجر في بيئة تُعَدُّ فيها مظهرًا تقليديًّا معتادًا في مناسبات الرجال. أيعقل عدم معرفة ناصر الخنجر من قبل؟. لا يقدم الراوي أي معلومات استرجاعية، مثلًا، توضح ارتباط مشكلة ناصر بحادثة سابقة، وهذا أمر يجبرنا ثانية على الاعتقاد بأن المشكلة نشأت في العرس فقط. هل للأمر علاقة بالمدينة والغياب التام للأب؟ فما دمنا نقرأ ما بين السطور وما تلمح إليه الأحداث ويمكن فهمه عبر المناخ العام، على هذا الأساس يمكننا ربط سلوك شخصية ناصر بطبيعة الحياة في المدينة والعزلة التي تفرضها على من يعيشون فيها، إذ تكاد العلاقات الاجتماعية تكون معدومة إلا لمن يتعارفون من قبل. قد يكون هذا أحد أسباب استغراق ناصر في القلق والخوف والنفور المرضي من الآخرين وتصاعده حتى بلوغه انعدام تقدير الذات والشعور بالنبذ. يؤكد سلوكه أنه صبي منعزل لا يعرف أكثر من البيت والأم، وحين يفارقه الخوف من الخنجر ويستبد به الفضول يرتكب أفعالًا نزقة تُفاقِم اضطرابه وحزنه. إن فعله يتجاوز نزق الصبا المعتاد، فالصبية الآخرون لا تصدر منهم أفعال كأفعاله، ويندفع نتيجة عدم اعتياده الحياة الاجتماعية السوية إلى الطيش وإثارة حفيظة الآخرين بتهوره: «وشعر ناصرحينها برغبة في أن يعرف ماذا يوجد في ذلك الخنجر فقرر أن ينتهز الفرصة ويستله من مكانه، وفعلًا وبدون أن يعمل حسابًا لشيء وبنزق طفولي حاول أن يسحب رأس الخنجر لكنه وجد مقاومة من العريس إذ أمسك بيديه وعصرهما بقوة صارخًا في وجهه أن يتأدب ويبتعد عنه.»(ص 31). هذه خلاصة قلق ناصر طيلة حفلة العرس: محاولة للسيطرة على الخوف بجرأة الفضول يسكتها تأنيب "العريس"، ثم تأنيب آخر من امرأتين. القلق والاضطراب يكبران داخله، حتى إن مصادر خوفه تتراجع وتنسحق وتصير هي الأخرى مصادر للتأنيب والسخرية والحزن وزعزعة الثقة في النفس: «بينما شاهد المارد يخرج من الغرفة ضاحكًا ومكركرًا.»(ص 31). يحتشد الخارج للنيل منه. كل من حوله يصبح عامل تحطيم نفسي لأن سلوكه اللاواعي عرَّضه لسلسلة تأنيب وتهشيم وإحباط متتابعة أفقدته الاتزان والمقاومة وأخمدت جذوة الفرح التي لم يكد يقترب منها في ليلة العرس تلك حتى استحالت أشد ضراوة من قبل: «بينما إحدى المرأتين أمرت جميع الأولاد بالخروج ولكن قبل ذلك تناولت زجاجة عطر وأخذت ترش في ملابس الجميع ولكنها لم تقترب من ناصر ولم تعطره كالبقية، حينها شعر بأنه كائن منبوذ وأنه يكره الخناجر والسيوف، كما يكره الدخان الذي يتحول إلى مارد ضاحك وغريب الأطوار»(ص 31).

شخصيات يحيى سلام المنذري –حسبما رأينا بعضها- محبطة، مكسورة، هلِعة، حزينة، تعاني أوضاعًا مادية مزرية، يؤسس القلق والاضطراب طفولتها وصباها لينموا في دمها وتكبر بهما. بين تارة وأخرى، في قصص عديدة، تسلك الشخصيات مسالكها بناء على "شر البلية ما يضحك"، إذ يصيب سوء الحظ صاحبه بخفة –وربما استخفاف- تُعلي نبرة سخرية يضمرها السرد ولا يلبث أن يسم بها أغلب القصص، محوِّلًا إياها، أحيانًا، واقعًا معتادًا تجري الأحداث في إطاره.

الحزن ميزة أغلب الشخصيات إذن، ليس هذا فحسب، بل إنه يصبح ميزة الفضاء الذي يحتويها أيضًا. في قصة "البيوت الحزينة" نقرأ كابوسًا واقعيًّا ونراه رأي العين وهو يحصد الأرواح ويُفرِغ البيوت من ساكنيها. في هذه القصة يحضر الموت بصيغ عديدة يستدعيها السارد بحس المفارقة والتكرار العبثي الذي يسفر عن الموت في حوادث السيارات، موت يفضي إلى هزيمة كل الأسلحة ويوجج الغموض والارتباك والغضب ولا يصل سوى إلى نتيجة واحدة: الحزن والفجيعة العصيين على الفهم الواضح. البيوت تحزن على من غادرها ومات ولن يعود إلى أحضانها ثانية. ينبش الموت الذكريات البعيدة ليتذكرها من بقي على قيد الحياة، لكن، كأنما الأمر ينطوي على تحدٍّ لاإنسانيٍّ سافر، لا تكف حوادث السيارات عن حصد المزيد من الأرواح. هناك طفولة وصبا يمزقهما الحزن دون تفسير، وهنا من يشب عن الطوق ويصعد سلم العمر دون أن يتمكن من السيطرة على أي وعي أو فهم لدرجة السلم الأعلى المثلمة فجأة، أو يستطيع التشبث بطمأنينة أو راحة. الحياة كلها سلسلة مراحل يحقن الآخرون والأحداث أوردتها بمحلول الحزن والقلق والاضطراب والأرق.

الطفولة والصبا مرحلتان تتداخلان كثيرًا في مسار شخصيات قصص يحيى سلام المنذري. يروي الكبار القصة أحيانًا لكنهم لا يستطيعون الابتعاد كثيرًا عن إحدى المرحلتين، أو كلتيهما في أثناء تداخلهما وصعوبة فصل إحداهما عن الأخرى. لنتذكر قصتي "زكريا" و"حبات البرتقال المنتقاة بدقة" من أولى مجموعات المنذري "نافذتان لذلك البحر" –على سبيل المثال-، ففي الأولى حزن شفيف منقوع بالفقر وشر البلية المضحك، وفي الثانية أب وأطفال ينتظرونه ورصيف حارق ما زال يشعل القلق والهواجس حتى هذه اللحظة.

إلى أين ستذهب الشخصيات عن طفولتها وصباها؟

في قصة "يوم واحد يتلألأ في عينيّ" تسقط الشخصية المحورية في القصة سقطة مدوية على الأرض تكاد تكون سببًا لموتها. ولأنها سقطة ليست كغيرها وتصيب الرأس خصوصًا فإنها تعبر بالشخصية برزخًا بين الحياة والموت، وكأنها تتردَّد في ترجيح أحدهما والإفضاء إلى أمر حاسم في أي حال، منتصرة في نهاية أمرها المرعب الغامض إلى أحد السرين من جديد: الحياة!. لأن السقطة كانت على ذلك النحو المتماهي في الأسرار والأسئلة يعود الراوي (الكبير) إلى طفولته: «سألني ذات مرة أحدهم: "كيف كانت طفولتك؟" أجبته: "لم أكن طفلًا ذات يوم" فاعتبر إجابتي استفزازًا له وتحديًا.. تناول حجرًا وشجَّ رأسي به وهرب. لم أعبأ بالدم الذي تدفق بغزارة.. لأنه تدفق قبل ذلك مرتين في المكان نفسه.. هكذا على مدار العمر يتدفق كالنافورة ويبلل ملابسي بلزوجته الحارة. بعد أن هرب ذلك الشخص هربت أنا من دمي.. ولم يكن أول هروب.. ولا أريد أن أحصي أيام هروبي.. أسأل كيف وقعت في تلك الحفر النتنة؟»(ص 79، 80).

 
الطفولة والصبا باب الحياة المفضي إلى درب الحزن والقلق المزمن الذي مهما تعددت مَفارِقُه يتناسل من تلقاء نفسه ويسم الشخوص بسيمائه؛ هذا هو درب قصص يحيى سلام المنذري. حواجز لا تنفك تقف في وجوه الشخصيات، أطفالًا وصبية ويافعين وشبانًا وكبارًا في السن. يكفي هنا تذكر عناوين بعض القصص وربطها بتأويل معنى الزجاج والمرايا/ الألم/ الممنوع/ العقبة/ الانعكاس/ الجوهر/ الحقيقة/ الزيف/ الهشاشة: «من جدار أبيض إلى جدار أسود"، "جدران ومرايا"، "الطيور الزجاجية"، "الباب الزجاجي"، "القطط الزجاجية».

في قصة "من جدار أبيض إلى جدار أسود" تنبني تقنية السرد على درجة حرارة السارد المريض، وبمهارة مُحْكَمَةٍ ينتقل السرد من الواقعي إلى الخيالي والعكس دون تكلف تبعًا لحمى المريض واستفحالها بسبب الانتظار الإجباري وتصاعد سخونتها حتى تسليمها إياه إلى الهذيان. في هذه القصة تُنار بعض عتمات القصص الأخرى. في هذه القصة قصص أخرى أيضًا وليس قصة السارد فقط، السارد المثقف الغضوب الثائر المضطهد الموظف العائد إلى مرحلة الطفولة أيضًا. روح مأساوية عبثية تنطلق من الواقع المنهِك لتنفصل عنه وتلجأ إلى الخيال صانعة واقعها الخاص متماهية فيه على نحو غير مقحم تختفي فيه الحدود ودون شعور يصبح القارئ بدوره في قلبه النابض بالغرابة واللامعقول (أيهما اللامعقول: الواقع أم الخيال؟). ولنمعن النظر في ما يقوله السارد (الكبير) هنا ونتذكر الأطفال الآخرين في قصص المجموعة الأخرى. في قصة "ليلة الخنجر" –مثلًا- يسرد السارد ما يقع لـناصر وشعوره بالنبذ والحزن، أما في هذه القصة فالسارد (كبير السن) يسرد في "مشهد (5)" مشهدًا لطفل في ردهة انتظار بمستشفى. السارد منغمس في ملاحظة الآخرين ووصف أفعالهم ونقدها، وفي الوقت نفسه يسرد ما يتعلق به هو شخصيًّا كونه الشخصية المحورية في القصة، مراوحًا بالتتابع بين العام والخاص. يقول السارد: «الطفل القلق يخرج من جيب دشداشته الصغير منديلًا ورقيًّا مشرذمًا.. يأخذ منه قطعة صغيرة.. يدببها بعناية.. ثم يدخلها في أنفه وينظف.. وبعد أن ينتهي يرمي بها على الأرض.. ثم يقطع أخرى.. وهكذا. لا بد وأن أباه يفعل الشيء نفسه في البيت.»(ص 86، 87). تحت تأثير الحمى يسرد السارد مشهد الطفل وما يقوم به، مستنتجًا، وبانتقاد ضمني، أن الطفل يقلد والده، فهو يدين فعل الطفل ملقيًا التبعة على والده. بعد ذلك مباشرة يبدو أن حرارة حمى السارد ترتفع فينتقل مباشرة من الواقع الذي يشاهده أمامه إلى الخيال الذي تستحثه الحمى، دون شك، وتجعله واقعًا مرئيًّا في خضمِّها يستشعره القارئ، أيضًا، ويراه، ولا يبدي استغرابًا من سرعة الانتقال بين العالمين، لأن ما يحدث هو إحلال كلي تلقائي يخلقه الاستغراق خلقًا لا يصمد الشك أمامه ولا يُذكَر أساسًا، وكأن الأمر تتمة لما سبقه وليس استطرادًا وانتقالًا.

لنعد قراءة الجملة الأخيرة الآن ونكمل: «لا بد وأن أباه يفعل الشيء نفسه في البيت. تحرك الطفل وطار من النافذة ناحية غابة أشجار.. أخذ يقطف أوراقًا خضراء وينظف بها آذان الناس. أردت أن أناول الطفل منديلًا ورقيًّا نظيفًا وجديدًا.»( ص 87). هكذا نلاحظ عودة السارد ثانية إلى الواقع بالتلقائية نفسها دون أي فصل بين صورة الغابة والأشجار والأوراق التي يقطفها الطفل وينظف بها آذان الناس وصورة الطفل والمناديل الورقية في المستشفى. هذا فعل الحمى. إن الإبداع هنا هو جعل المشهدين مشهدًا واحدًا مستمرًّا. صحيح أن هناك استحالة من مشهد إلى آخر لكنها تحدث بسلاسة تمحو عنها صفة التحول وتكسبها صفة الوحدة والتتابع والتلقائية.

مرة أخرى، ولتبيان غرض اقتباسنا الأساس، لنعد لإكمال المشهد من حيث بترناه: «أردت أن أناول الطفل منديلًا ورقيًّا نظيفًا وجديدًا.. لكنني ضحكت لأنني حتمًا سوف أفتح للطفل جرحًا لن ينساه مدى حياته.. سوف يتذكر حينما يكبر أن شخصًا استهزأ بفعلة قام بها وهو طفل. لن أفعل ذلك.. دعه يفعل ما يحلو له. أسأل: لماذا عاد من الغابة؟»(ص 87).

http://www.alkalimah.net/article.aspx?aid=4893

الخميس، 27 سبتمبر 2012

"طيور" يحيى المنذري "الزجاجية" ..في مواجهة الجدران والمرايا



محمد بن سيف الرحبي



يقسم القاص العماني يحيى سلام المنذري مجموعته القصصية الصادرة عن دار نينوى والمعنونة بـ"الطيور الزجاجية" إلى ثلاثة أقسام طارحا فكرة أن المجموعة مكونة من ثلاث مجموعات لكل منها قصصها الخمس التي تدور في فلك ما، أراده الكاتب وفق رؤيته، لكن الشخصيات تتشابه، مروقا من فم المجتمع (الصغير) ببساطة اللغة التي تتشكل بالحوار حينا عامية محلية، وأحيانا بلغة عربية، فصحى ومرة يسقط في فخ الجمع بينهما ضمن نفس الحوار.

في الجزء الأول من الإصدار الذي يأتي في نحو مائة صفحة يندس العنوان الرئيسي الذي تتخذه المجموعة "الطيور الزجاجية" كثاني النصوص فيها، والبداية من طائرة تبدد لون السماء، وبعدها إنقاذ وليلة الخنجر وخوف العصافير الصغيرة، وفي الجزء الثاني لا يحيد عن مفردة الزجاجية مبتدئا بسر الورقة، ثم الباب الزجاجي والقطط الزجاجية عبورا بالساق والبيوت الحزينة.

والجزء الثالث يتضمن عناوين يوم واحد يتلألأ في عيني، من جدار أبيض إلى جدار أسود، جدران ومرايا، وكر الحلاقين، الممثل، في إشارات للحالة الزجاجية التي عليها الشخوص أو ما يواجههم لا تكاد تخلو منها قصة، مشتركة مع الجدران المتكدسة في غالبية نصوص المجموعة، ويرتب القاص أوراقه لتكون أشبه برسم لوحات كثيمة يعتمد عليها في سائر مجموعاته القصصية السابقة.

في قصة "الطيور الزجاجية" يعود المنذري إلى تقسيم النص أيضا، ووضعه كلوحة مكونة من ستة أجزاء، أو مشهد من ست لوحات يشكلها بصريا، نرى في أولها "نقطة سوداء صغيرة" ثم "كرات زجاجية" و"بنت بليس" وهي لفظة محلية دالة على الاحتلام في النوم كدلالة على سن البلوغ، لتأتي اللوحة الرابعة راسمة على مشهد ذبح جدي، ورغم أنها قصة منفصلة من حيث بنائها الفني وحالة التوتر النفسي للشخوص، البطل ومواجهته لسكين الرجل الذي استقدمه والده لذبح الجدي، وأسئلته المطروحة على علاقة السكين بضحاياها.

في المقطع الخامس المندرج تحت هذا العنوان تلوح قصة أخرى يختزلها المنذري فلا يترك لها الاستقلال عن نص "الطيور الزجاجية" فتتابع حكايات مازن سابرا عمقا آخر في المجتمع، وحالات انحراف تترصد المراهقين.

يمزج المنذري بين الواقع واللاواقع، كما يلاحظ في قصة الطيور الزجاجية، حيث البطل الذي "أصبح كائنا خرافيا بدائيا يخرج من البيت ليمضي في شارع أسود" والطيور الزجاجية المتراقصة حول رأسه "تنقر ذاكرته تاركة فيها ثقوبا تخر منها رعشات حزن"ص15، حيث الرجل ذي السن الذهبية يقدم عرضه لمازن، عشرة ريالات وزجاجة يريد منه ملئها بفائضه من الحيوانات المنوية، وهناك صاحبه الذي أعطاه صاحب السن الذهبية خمسين ريالا مقابل فانلته التي قضى الشرط بينهما أن يرتديها شهرا كاملا.

في قصة "يوم واحد يتلألأ في عيني" يجاهد البطل منع الطائر الأسطوري من الوصول إليه "لينقر الجزء الخاص بالتفكير" في رأسه "محاولا تفتيته قطعة قطعة ليصبح لاشيء"، مقاربا الحلمي بالواقعي، كأنه يريد تقديم الواقع عبر الحلم، الخيال الدافق الذي ينسحب لصالح حديث الكاتب/ ذاته، الذات التي يتقمصها لتمرير أفكاره عن الحياة والعائلة، والتقريرية المباشرة المؤثرة على حيوية النص رغم البدايات المحاولة للعبور نحو منطقة الحلم والمخيال البعيد، لكنه يعود للواقع حيث "الآن لا يجب الاعتماد على راتب الحكومة"، و"انني أنتمي لتلك الشريحة من الموظفين أصحاب النوايا الحسنة والمباديء والمثابرة والطموح، ليس مكاننا هنا بين هذه الذئاب التي تعلن الحرب لأجل مصالحها، وأهدافها هي بطونها والصراع حول الكراسي"ص76، 77.

المنذري متمسك بأدواته التشكيلية، إذا لم يرسم المشهد فإنه يبرز فيه كرسام، حيث غواية القص، ففي نص "يوم واحد يتلألأ في عيني" يتساءل لماذا لم يرسم السدرة، مسترجعا لوحته التي لم تكتمل، متتبعا مشاهد الصور (الصور الملونة التي تجمع اخوته واخواته) ودخوله في "عالم سينمائي"يصبح ملاذا لتقديم المزيد من اللوحات الفنية، كأنه العالم الذي يبحث الكاتب عنه ليحلق فيه فيجد الطائر الذي نقر بقوة رأسه محدثا فيه فوهة كبيرة سقط منها كل شيء.

في قصصه تبدو الشخصيات صغيرة، أطفال أو فتيان يحلمون أن يكبروا، في خوف العصافير الصغيرة يخشى الأطفال معلمهم وجدول الضرب المقترن بالضرب، مازج المنذري بين رعب العصافير من الأفعى وخوف الطلبة من المعلم، لكنه طريق المعرفة، كما يحدد القاص وهو يجعله الدرب الموصل الذي يجعل العصافير تهنأ "براحة المعرفة"ص35.

أغلب شخصيات المنذري حالمة، لكنها سلبية إذ تعاني من الواقع حولها، تدور في حلقة الجدران والمرايا، تنظر للزجاج كحلم أو شظايا، في القصة الأولى حمود، الحالم بركوب أرجوحة في حديقة خضراء، الشخصية التي تعاني من فقد الأب الذي رحل ولم يعد، "ربما خطفته حورية جميلة وعاش معها على ضفاف الشواطيء الهندية"ص11، يبيع الشربت "الفيمتو" لمنتظري مرور الموكب.

ترتكز النصوص على قلق الأسئلة والمنولوج الداخلي للشخصيات، حمود يتساءل هل يعود الناس إلى بيوتهم سعداء بعد مشاهدتهم للموكب، حيث وقفوا ساعات رغم شدة الحر؟، وهناك مازن الذي يشهد عملية ذبح الجدي، وأسئلته أيضا عن حالة الضحية وهو يمد عينيه إلى السكين والجزار.

والرجل "الذي بدون اسم".. الكائن البسيط يبحث عن "سر الورقة" حيث يشعر أنها طاقة القدر التي انفتحت له ساعة حظ، الإنسان المهزوم حين يرى في "الشيك" الممنوح له من الرجل الرأسمالي بوابة تحقيق الأحلام، "بالون ينفجر ويمطره بالنقود".. لكن البالون ممتلئ بالهواء، والنقود لا تغطي أجرة سيارة التاكسي المتنقل بين بنك وبنك بحثا عن أيها يدس القبعة السحرية المحققة للأحلام، ويبدو كأنه ذات الرجل (في النص التالي) وهو يسير إلى رأسمالي آخر، مكتبه وراء باب زجاجي، لكن المدير العام مشغول عن ذلك الكائن البائس، وسيدخل في اجتماع طويل كي لا يراه، مع ربط بين شدة عطشه والماء الذي "تشفطه" المنسقة أمامه، بين الحاجة والتشبع، رائحته المنفرة وملابسه البالية، ورائحتها كأنثى وأناقتها المتباينة مع ذلك الجالس على مقعد جلدي ينتظر دون أمل في انتهاء انتظاره .. أمام الأبواب الزجاجية.

ذات الرجل الذي لم يسمّه الكاتب يبدو في نسخة أخرى في قصة القطط الزجاجية، لكنه هذه المرة جامعي ممتلك لأوراق قد تفتح له الأبواب الزجاجية من أجل ولوج الحياة بطريقة مشرفة، لكن الطوابق كثيرة أمامه، وأوراقه منسية في بقعة ما، وعيون القطط تلاحقه، إنما "اكتشف أنه ضعيف .. ضعيف لدرجة أن الأشياء البغيضة تغلبه بسهولة".

ينوّع يحيى المنذري مرة أخرى في نص بعنوان الساق، فيضع ست لوحات أخرى بدون ترقيم هذه المرة، نص طويل آثر أن يقسمه إلى المشاهد الستة، منصور وهو يغالب ساقه اليمنى التي تعاني من لعنة يبحث عن سرها، "تنتصب إلى الأمام بدون إرادته ثم ترتد مرة أخرى فتصفع الأرض بقوة"، فيأمر زوجته أن تربطها إلى السرير، وفي نهاية المشهد يصل إلى قسم الأعصاب والجراحة بالمستشفى "يسقط نفسه في مشاعره المتناقضة المشدودة بسبب الألم ويتمتم أمنيته: ليت الصباح لا يأتي"ص62.

من عمق التصوير والبحث عن ماورائيات المعاني يختم الجزء الثاني بالبيوت الحزينة، استعادة لفكرة الجدران الباكية من داخلها، يقدم مشاهد متتابعة لا تخلو من الضعف حيث حوادث السير تأخذ ضحاياها من بيننا، أقارب وأصدقاء، بما يؤثر على جمالية القصّ وخروجه إلى سرد حالات إنسانية ترحل عن دنيانا، تتابع أصوات الأخبار عن أموات يرحلون بسبب حوادث السير، تاركين البطل/ الشخصية المحورية "يشاهد بيوتا حزينة تعبر أمامه، وللبيوت أعين تنزف دموعا" محاولا إخراج الصور من مباشرتها إلى خاتمة شعرية تعيد إليها بعض ألقها "ثم تتحول البيوت إلى فقاعات وتتلاشى وتظل الشوارع تتلوى وحدها بدون أحد"ص67.

وفي قصة "من جدار أبيض إلى جدار أسود" يدس أفكاره الشخصية على لسان أبطاله، في المشهد رقم 3 يقول: "ألا يكفي المصر (وهو العمامة) طوال الصباح يمارس دولا الثعبان يلتف حول الرأس ويعصره كليمونة"، وفي المشهد رقم 5 يقول عن الصحف: "نوع من الجرائد التي تصدر يوما لتوسخ عقول قارئيها" ص86.

تسيطر فكرة الجدران على غالبية النصوص، بالتوازي حينا وبالتقاطع أحيانا مع المرايا والزجاج، يبدأ الجزء الأولى للمجموعة بالجدران الخشبية لبيت حمود، وتواصل في النص الرابع بالجدران الخشبية لبيت أيمن وهو يزيح الجدار الفاصل بينهم وبيت الرجل السكير لإنقاذ زوجته التي ضربها،وفي ليلة الخنجر يرى ناصر لوحة للخنجر معلقة على جدار بيت العريس.

وعبر عنوان مباشر تأتي الجدران كفاعلة في نص "من جدار أبيض إلى جدار أسود" مستفيدة من تباين اللونين لرسم تقاطيع الحياة وتفاعلاتها في 17 مشهد بدت كنصوص قصصية قصيرة جدا، لتزداد كثافة في خمسة مشاهد قبل أخيرة (مشاهد من 12 -16) متحولة إلى سطرين فقط، وتعود في الأخير إلى ثلاثة أسطر في المشهد الأخير، مع اتكائه على غرائبية فنية، متكئا فيها على أفكار الرسام الأسباني سلفادور دالي والمخرج السينمائي الإيطالي فيدريكو فيلليني ذاكرا إياهما بالاسم.

فكرة الجدران والمرايا تطل بشكل مباشر في قصة تحمل المفردتين معا، لكن البناء الفني لم يكن سوى التقاطة مباشرة لجزء من يوميات رجل، يذهب إلى محل الحلاقة، ويفعل مثلما يفعل غيره، وكأن النص التالي تتمة تكمل ما فات القاص في السابق، فقصة "وكر الحلاقين"، وصولا إلى آخر قصص المجموعة "الممثل" التي تعرض يوميات أخرى مجتزئة من الواقع العادي واللامدهش، رجل يقرأ رواية ويشاهد التلفزيون حيث الممثل الذي كتب خمسين صفحة ولم يجد القصة بعد، ويبدو أن المنذري اضاع القصة في دهشتها، مكتفيا بدور التشكيلي الذي يرسم الواقع مثلما تفعل آلة التصوير، فتأتي الصورة من الواقع لكنها مفتقدة للدهشة اللاعبة على حبل الخيال.. والمشي فوق جسوره.


ملاحظة: نشرت القراءة في مجلة نزوى-العدد 71

الجمعة، 6 أبريل 2012

تجليات الفكاهة في مجموعة "عبدالفتاح المنغلق لا يحب التفاصيل" لسليمان المعمري

يحيى سلام المنذري

"عبدالفتاح المنغلق لا يحب التفاصيل"، هو عنوان المجموعة الذي يفتتح ستارة الفكاهة، ويدخل المسرح سؤالان يرسلان التحية للجمهور: لماذا عبدالفتاح منغلق؟ ولماذا لا يحب التفاصيل؟ ومن ثم يأتي الكاتب ويخط إهداءً ظريفا يقول فيه: "إلى أجمل فكرة، في الحلم جاءت أم في الصحو". وكأنه من خلال هذا الإهداء يعلن للقراء وجود أفكار جميلة وجديدة في ثنايا الكتاب، واحتفاء بذلك فإنه يهدي الكتاب لتلك الأفكار. وقد كان سليمان المعمري -القاص العماني- محقا في ذلك، فعبر ثلاث عشرة قصة قصيرة في هذه المجموعة الشائقة يمدنا بأفكار وأحداث أسعدتنا.
***
تعتبر القصة القصيرة من أجمل وأظرف أنواع السرد في الأدب، فهي رمز للمعرفة والمتعة معا، وهي ضوء يكشف جزءًا مقتطعًا من الحياة. هذا الجزء تشع منه حكاية واحدة أو أكثر، وهذه الحكاية تمثل الواقع والخيال والحلم. وهناك عدة اتجاهات متباينة لمواضيع وأفكار القصة، فمنها ذو طبيعة حزينة، ومنها ذو طبيعة تشاؤمية أو تفاؤلية أو تأملية، وهناك القصة بطبيعة فكاهية تبعث على البهجة والسرور والضحك. ويعتبر الضحك من الأدوية الصحية المهمة التي لا توجد في أية صيدلية، وهو خير دواء للحزن والاكتئاب، ويجلب السعادة والصحة والحب. وقد يكون موجودًا عند مجالسة الأصدقاء الظرفاء أو في رسالة قصيرة يُطيِّرها صديق عبر الهاتف النقال، أو من خلال مشاهدة مسرحية كوميدية أو فيلم كوميدي، أو يوجد في رواية أو قصة ممتعة، وغير ذلك من مصادر ومخازن الضحك والفكاهة. وقال الروائي الشهير كونديرا إن الضحك هو الحياة بعمق.
ومجموعة "عبدالفتاح المنغلق لا يحب التفاصيل" هي المجموعة الثالثة للقاص سليمان المعمري، ومن وجهة نظري تعتبر من ضمن الكتب التي تنشر السعادة والمتعة والمعرفة. وهي من الأعمال التي تمتلك رؤية فلسفية وروحًا ساخرة، وتعتمد على مواقف حكائية ظريفة. وكما هو معلوم فإن حقل الأدب زاخر بروايات وقصص وأشعار مليئة بالفكاهة والسخرية خلقت البهجة والسرور لقرائها. وقد أشار الدكتور شاكر عبدالحميد في كتابه "الفكاهة والضحك" إلى أن الفكاهة والضحك يقويان التعاون الاجتماعي وينشطان العقل والخيال والإبداع، كما أنهما يقاومان الاكتئاب والقلق والغضب الشديد، كما يقويان جهاز المناعة لدى الإنسان، ومن خلال الفكاهة يُنقَد بعضُ المؤسسات الاجتماعية والسياسية وبعضُ الشخصيات والسلوكيات، كما تخفض التوتر أو تقوم ببعض الاصلاحات وتصحيح بعض الأوضاع الخاطئة. كما عرج الكتاب -"الفكاهة والضحك" -على ذكر أمثلة مهمة في تاريخ السرد الكوميدي منها رواية "دون كيخوته" لسرفانتس، ورواية "الرجل الضاحك" ليفكتور هوجو، وكتاب "الضحك والنسيان" لكونديرا، ورواية "اسم الوردة" لأمبرتو إيكو، ورواية "الضحك" لغالب هلسا، ورواية "حجر الضحك" لهدى بركات، ورواية "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" لإميل حبيبي، ورواية " التاريخ السري لنعمان عبدالحافظ" لمحمد مستجاب.
وتتجلى الفكاهة أيضا في الفنون الجميلة وخاصة فن الكاريكاتير الذي يعرض صورًا ورسومات لشخصيات مشوهة قد تثير الضحك وفي نفس الوقت تمدنا برسائل مهمة ومساحات للتأمل، وهذا الفن حسب وصف الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون هو فن المبالغة ولكن المبالغة ليست غايته، فالفنان يرسم شخصيات سياسية ويشوه أشكالها الحقيقية، يمط مثلا رقابها، أو يُطيل أنوفها، ولكنه يوظفها في حكاية داخل مشهد يجعلنا نضحك، فيترك في نفوسنا البهجة والسعادة وفي نفس الوقت الرسالة والمعرفة.
***
بعض قصص عبدالفتاح المنغلق احتوت إسقاطات نقدية غير مباشرة على الواقع، تخللتها تلك الفكاهة اللذيذة، وتلك الفنتازيا المبهجة وذلك الخيال الممتع.. وتميزت بأسلوب ساخر وغير مباشر في قالب قصصي خفيف بلغة سلسة عذبة. كما تطرق الكاتب من خلال القصص إلى الكثير من القضايا الإنسانية. وفي أول قصص المجموعة -وهي قصة "امباااع"- يتحدث عن معاناة عبدالفتاح المنغلق في سبيل الزواج من ابنة شيخ البلد، وذلك عبر أحداث ومفارقات ساخرة ومضحكة تتمثل في شرط الزواج الذي سنه الشيخ حتى يتزوج المنغلق من ابنته، وهو أن يكون قادرا على ذبح شاة، لكن عبدالفتاح المنغلق برهافته وطيبة إنسانيته لا يقدر على ذبح دجاجة، ونجد أن والد عبدالفتاح المنغلق يهدد ابنه بوضوح ويقول: "قلبي ما راضي عليك لين أشوفك تذبح" (ص 10). لكن مع إصرار الشيخ وابنته نفسها وتهافت الخطاب عليها وإصرار والده يرضخ عبدالفتاح وبحزن كبير يُقبِل على عملية الذبح حيث انتهت القصة بالعبارة التالية: "سقطت دمعة من عينه على حافة السكين المشحوذة بعناية. ثغت الشاة" (ص 12).
ولكن كيف أحبت العنود عبدالفتاح المنغلق؟ أحبته قبل ثلاث عشرة سنة حينما أنقذها المنغلق من الغرق في الوادي، والكوميديا تظهر في الطريقة التي قام عبرها المنغلق عن غير قصد بعملية الإنقاذ، ولقبه أصدقاؤه بـ"شجاع غصب"، إذ تشبثت الفتاة بإزاره، ولكنه شدها ليس من أجل إنقاذها وإنما مخافة أن يتعرَّى أمامها، ولمزيد من الفكاهة والتشويق يضيف السارد إلى هذه القصة قائلا: "لا أحد يستطيع تأكيد ما إذا رأت العنود شيئا لا ينبغي أن تراه في تلك المعمعة، لكن المؤكد أنها أُغرمت بالصبي منذ ذلك اليوم" (ص 11).
الفكاهة في هذه القصة تتجلَّى في فكرة الشرط الاجتماعي الغريب وفكرة إنقاذ الفتاة من الغرق في الوادي ولقب "شجاع غصب" بعد تشبثه بمئزره خوفًا من سقوطه بينما الفتاة تمسك به خوفًا من الغرق. من خلال هذه القصة يكشف لنا سليمان المعمري عن عادات اجتماعية غريبة ومضحكة، وهي عادات ربما تكون موجودة في بعض المجتمعات التي أنهكها الجهل والتي تؤمن بأن العنف هو عنوان الشجاعة لدى الرجال، فذبح الشياه والماعز مرتبط لدى هذه المجتمعات بالقوة والشجاعة، والفضيحة قد تصاحب من لا يستطيع الذبح. والشيخ في هذه القصة يقول عن عبدالفتاح المنغلق: "اللي ف حياته ما ذبح هايشة كيف أستأمنه على بنتي؟؟!!" (ص 10).
***
لشخصية عبد الفتاح المنغلق سلوكيات وأفعال وأفكار تختلف من قصة إلى قصة، تارة نجدها هادئة ومستقيمة وتارة مشوهة، وربما كان هدف الكاتب من ذلك هو التضخيم من أجل تسليط الضوء عليها وتكبيرها بمجهر الحكاية والتشويق. وتم وصف عبدالفتاح بصفات ظاهرية وأخرى مخفية. ومن الأمثلة على الصفات الظاهرية السذاجة والخوف والبساطة في العيش والتفكير. وقد تصل هذه الشخصية إلى مستوى الغباء الاجتماعي، ولكنها تتخفَّى وراء صفات كالمكر الفكاهي والانتهازية، وفي بعض المواقف نجد أن لهذه الشخصية تطلعات لإظهار وكشف الواقع وفضح بعض شخصيات المجتمع الجاهلة أو الحاقدة أو الغبية. ونلاحظ في هذه المجموعة أن الكاتب لم يقم بوصف هيئة أو شكل عبدالفتاح، إن كان طويلا أو قصيرًا، وسيمًا أو قبيحًا، نحيلًا أو ممتلئًا، وربما عمد الكاتب إلى ذلك حتى يتمكن من توظيف هذه الشخصية في كل القصص مهما اختلفت أفكارها وسلوكياتها، وكأنه يتقمص شخصيات مختلفة ومتشابهة في المجتمع، وقد كان عبدالفتاح المنغلق ممثلا بارعا في جميع القصص.
***
وتأتي قصة "عطس" لتبرز عنصر السخرية من خلال استغلال الوعكة الصحية التي أصابت عبدالفتاح في التهرب من العمل والوصول إلى الحبيبة، وجاءت شخصيته انتهازية كبيرة ومحتالة وهي تمثل شخصيات كثيرة تعيش في المجتمع. وجاء أسلوب السرد في هذه القصة بسيطًا نضحت منه فلسفة عفوية غير مخطط لها وأحداث صيغت بحَذَق كحال بقية القصص الأخرى، وهناك تسلسل غرائبي في الأحداث واشتغال واضح على تصوير ظريف مثل: "أخرج هاتفه من جيبه وطيَّر زكامه إليها في رسالة مقتضبة" (ص 13). "كان يفصله عن الاصطدام بالسيارة التي أمامه عطسة صغيرة" (ص 14). "استقل سيارة أجرة إلى شقته التي لا يدخلها القمر" (ص 14). "نقد السائق أجرته وودعه بعطسة" (ص 14). والتلاعب بكلمات هذه العبارات الظريفة يُعتبر من علامات القصص وأسلوب صياغة أتقنه سليمان المعمري بجدارة، ولا تخلو قصة من هذه الميزة.
***
وفي قصة "الأبيض والأسود" تكون حكمة المنغلق في الحياة كما يلي: "أن مزرعة الخيال وفيرة المحاصيل، فقط اسقها.." (ص 17)، وعندما سقاها نبتت له قصة هزلية وخيالية محورها اللونان الأبيض والأسود، حيث اختلق المنغلق فتاة وتوجه بها إلى السينما، وبدأ يغوص معها في حكاية أحد الأفلام الهوليودية. وهذه القصة تصف المنغلق بأنه رجل خيالي، ورجل هش من الداخل كنملة، ورجل عاشق ومرهف الحس فمشهد محزن في الفيلم كفيل بجعله يبكي. ومن العبارات التصويرية الظريفة في هذه القصة: "سيكتشف عبدالفتاح أن الملاكم سيتحول إلى شحاذ لا حول له ولا قبضة" (ص 18).
***
ومن القصص الكوميدية بامتياز قصة "الصابونة".. بدأها سليمان المعمري بإجابة عبدالفتاح الغامضة عن سؤال المذيع عن نصيحته لمحبي الكتب، وكانت إجابته "لا يستهينَّن أحدكم بالصابونة" (ص 21). هذه الإجابة فجَّرت بالونة مليئة بالغرابة، وجعلت القارئ يتساءل عن العلاقة بين الكتب والصابونة. وسرعان ما تنساب الكوميديا بسلاسة بين ثنايا حكاية الصابونة، فحبيبة عبدالفتاح المنغلق وبسبب عشقه للكتب قررت أن تهديه في عيد ميلاده كتبًا بعدد سنوات عمره، وقد كتبت له في كل كتاب إهداءً مميزًا، ولكن عبدالفتاح حينما وصل إلى الكتاب السابع والعشرين والأخير تفاجأ بوجود صابونة، فأمطر نفسه بالأسئلة، ولما لم يجد إجابات بحث عنها عند طبيب نفساني، ومن ثم فيلسوف، وبعد ذلك عرَّاف، وفي النهاية لجأ إلى أحد أصدقائه. وطرح عبدالفتاح عليهم قصة الصابونة التي عثر عليها في الكتاب الأخير، فكانت إجاباتهم وتفاسيرهم للقصة مختلفة، وجاءت كل إجابة أكثر ظرفًا من الأخرى.. فالطبيب النفساني قال له: "لعلها أرادت أن تقول لك إن العقل النظيف في الجسم النظيف.. اقرأ واستحم!" (ص 23)، فالإجابة بلا شك هنا مقترنة بالطب النفسي ومحورها العقل، وقد قام الطبيب بتفسيرها على هذا النحو، ونسج علاقة بين العقل والقراءة واستخدام الصابونة لتنظيفه. أما إجابة الفيلسوف فكانت كالتالي: "الكتب تلوث العقول، ومن هنا جاءت الصابونة" (ص 23). وهذه الإجابة تناقض إجابة الطبيب النفساني، فالقراءة هنا هي التي تلوث العقل وتأتي الصابونة لعملية تنظيف ما لوثته الكتب، بينما العرَّاف كان له رأي آخر، فقد كشف عن الأرض ومدى علاقتها بالأدران والصابونة عبر إجابة أكثر غموضًا من السابقتين حيث قال: "إنها النهاية بعد الرقم 27 ستغسل الأرض أدرانها كما تغسل الصابونة الأجساد" (ص 23)، وأخيرا فإن صديقه قال له ساخرًا: "يا غبي.. إنها تتعمد إهانتك.. تقول لك إذا كانت 27 كتابًا غير قادرة على إخبارك أنك قذر ورائحتك نتنة، فوحدها الصابونة القادرة على ذلك" (ص 23). وكانت نهاية هذه القصة الظريفة أن عبدالفتاح عرف بأنه أصبح شخصية مختلفة بعد حصوله على الصابونة.. وأنه "لا يدري حتى اللحظة هل كان قراره صائبًا بفسخ الخطبة!" (ص 23). وبالتالي تكون الصابونة غسلت عبدالفتاح من خطيبته، وربما اعتبر وجود الصابونة بين الكتب إهانة له، ولكنه أيضًا لم يكن متأكدًا أن خطيبته السابقة هي التي وضعتها في الكيس أم أنها سقطت خطأ في الكيس، وفي الوقت نفسه يظهر سؤال مهم لعبدالفتاح وهو: لماذا يا عبدالفتاح لم تسأل خطيبتك عن قصة الصابونة؟
***
قصة "كاريزما".. مقطع من حياة عبدالفتاح المنغلق الذي عندما يصيبه السأم والملل فإنه يذهب إلى أحد المطاعم، لكنه ليس من الذين يتابعون الأخبار ولكنه من "هواة التَّفرُّس في جمال قارئات النشرات.."، هنا ثيمة الفكاهة تسطع في هذه الفكرة، فهو يظن أن المذيعات ينظرن إليه، وعندما سأل النادل البنجالي عن مدى صدق ذلك فإن النادل "ابتسم ابتسامة لا أحد يعلم إلا والدته في دكا أنها لا تخرج من فيه إلا حين يشتم أحدًا في سره". ويظل عبدالفتاح يشاهد المذيعات ويكرر السؤال نفسه للبنجالي الذي "يؤثث الفراغ بالضحكات المكتومة" (ص 30).
***
هناك علاقة قوية بين الضحك والخوف أو القلق، فإذا كان الخوف موجودًا يمكن محاربته بالضحك، وعبدالفتاح المنغلق يظل قلقًا وخائفًا في قصة "إمباااع" من فقدان حبيبته العنود. وفي قصة أخرى تحمل عنوان "المُنبِّه" يخاف من السلطة المتمثلة في شخص المدير العام، وهو المسؤول عن عبدالفتاح في العمل، وكل ذلك بسبب المنبه الذي ينسى أن يرن في السادسة فيستيقظ عبدالفتاح في التاسعة ويتأخر عن العمل، وبالتالي يشتعل المدير العام غضبًا ويقوم بتهديد عبدالفتاح وبث الرُّعب فيه. وتتجلى الفكاهة في فقد عبدالفتاح ثقته بالمُنبِّه، حيث إنه لا يستطيع النوم، وعندما يغفو قليلًا تطارده الكوابيس، فيصحو في كل مرة ليتأكد أن المُنبِّه مضبوط على السادسة، ويشكر الله على أن أعطاه أربع ساعات نوم، ويظل هكذا طوال الليل يغفو قليلًا ويصحو ليتأكد من الساعة، حتى يقوم من الفراش في الساعة الخامسة والنصف صباحًا، أي قبل أن يرن المُنبِّه، ويذهب إلى العمل وهو متأكد أن المُنبِّه سينسى هذه المرَّة أيضًا.
عنصرا الخوف والقلق تم توظيفهما في هذه القصة ليكشفا عن ضعف الآلة (المُنبِّه) ومدى خداعها للإنسان ليقع فريسة في براثن السلطة، فالمُنبِّه يتقصَّد نسيان إيقاظ عبدالفتاح ويدعه نائمًا، وبالتالي يواجه إعصارًا في مكان عمله متمثلًا في المسؤول، ويظل هذا الإنسان البسيط لعبة هشة بين الآلة والسلطة، يفقد النوم ويفقد الكرامة، وبالتالي يتحول إلى كائن قلق.
***
لا بد من الإشارة إلى أن عناوين معظم القصص دلَّت على أفكارها، وبمعنى آخر عنوان القصة كان هو محور الحدث ودليل الفكرة، ومن الأمثلة على ذلك قصة "عطس" تتحدث عن نزلة زكام تُسبِّب العطس للمنغلق وتدور حولها الأحداث، وقصة "الأبيض والأسود" تتحدث عن تفاعل المنغلق وهذين اللونين، والصابونة هي المحور الأساسي في قصة "الصابونة"، وقصة "خطأ فادح" تتحدث عن الأخطاء الفادحة، وقصة "المُنبِّه" محورها المنبه، وقصة "العزاء" تتحدث عن مواقف المنغلق في عزاء لا يعرف فيه أحدًا.
كما أن المعمري زرع في نهاية بعض القصص كبسولة من الدهشة والفكاهة، فمثلًا في قصة "الصابونة" نتفاجأ بأن عبدالفتاح فسخ خطبته بسبب الصابونة. وفي قصة "خطأ فادح" يفصح عبدالفتاح عن حقيقة أتعبته دهرًا من الزمن، وهي أن الحياة برمتها خطأ فادح. وفي قصة "عزاء" نعرف بأن عبدالفتاح دخل العزاء وخرج منه دون أن يعرف من هو الميت!.
المراجع:
- سليمان المعمري، عبدالفتاح المنغلق لا يحب التفاصيل، قصص، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 2005.
- د. شاكر عبدالحميد، الفكاهة والضحك.. رؤية جديدة، سلسلة عالم المعرفة، دولة الكويت، العدد 289 يناير 2003.
- هنري برجسون، الضحك.. بحث في دلالة المضحك، تعريب: سامي الدروبي وعبدالله الدائم، دار العلم للملايين، بيروت- لبنان، الطبعة الثالثة 1983.