الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

يحيى سلام المنذري لشرفات :الانقطاع عن النشر لا يعني انقطاعا عن الكتابة .. ومستقبل القصة واضح


حاورته: هدى الجهورية

يحيى سلام المنذري.. واحد من القاصين العمانيين الذين برزوا في حقبة التسعينيات، أو ما اصطلح عليه بجيل التسعينيات، الذين جاؤوا فوضعوا شكلا جديدا في الكتابة القصصية بالسلطنة. تخرج في كلية العلوم تخصص إحصاء بجامعة السلطان قابوس، وكان في عام 1993م قد أصدر مجموعته الأولى: نافذتان لذلك البحر أتبعها بعد ذلك بمجموعة قصصية حملت عنوان رماد اللوحة، ثم بمجموعته الصادرة عام 2003 ضمن سلسلة كتاب نزوى والتي حملت عنوان بيت وحيد في الصحراء.. يعد يحيى بن سلام المنذري واحدا من القاصين البارزين في الساحة القصصية، وقد شارك بفاعلية في مسابقات محلية أحرزت من خلالها نصوصه المراكز المتقدمة، ثم شارك كمحكم في بعض المسابقات التي يأتي الملتقى الأدبي في مقدمتها، حيث كانت مشاركته الأخيرة في الملتقى الخامس عشر بالبريمي..أرادت شرفات في هذا العدد أن تقترب منه، ومن عوالمه القصصية..
آخر كتاب صدر لك كان عام 2003، وبعدها انقطعت من النشر .. لماذا كل هذا الانقطاع عن عملية النشر؟
عندما أبحث عن إجابة لمثل هذا السؤال أجد نفسي تائها، أو بالأحرى لا أجيد تحديد سبب إنقطاعي عن نشر كتاب، فهل هي الوظيفة البعيدة عن الكتابة؟ هل هي إلتزامات عائلية وإجتماعية والتي لا تنتهي؟ هل هي عملية تأن ودراسة بطيئة للكتب الثلاث المنشورة؟ أم ماذا؟ ولكن دعيني أقول بأن السبب الرئيسي هو التشتت بين كتابة القصة القصيرة -وهي أقرب إلي- وبين مجال عملي ودراستي للماجستير في علوم الإحصاء حيث الأرقام والبيانات والفرضيات الإحصائية، فالدراسة هنا أخذت الكثير من وقتي رغم أنني كنت أكتب بعض المشاهد بينما كنت في إستراليا ، إضافة إلى هذا السبب هو عدم تنظيم الوقت، فأنا أعاني من هذه المشكلة وأشعر بأنه رغم الوقت والجهد المبذول في العمل والدراسة والتي إنتهيت منها في نهاية عام 2006 إلا أنه كان بالإمكان وبتنظيم ولو قليل للوقت أن أكتب، أنا الآن أشعر بأنني أهدرت الكثير من الوقت.. نعم الكثير من الوقت.. وعلى فكرة أنا كثيرا ما أحاسب نفسي على ذلك، ولكنني في الوقت نفسه أتهاون، وبعض الأحيان أقدم وعدا قاطعا، وأقول من الغد سأنظم وقتي جيدا، وسأحدد وقتا كبيرا للقراءة ووقت للكتابة، ووقت للكسل.
الانقطاع يخيفنا كقراء.. ربما لوجود كتاب قصة تعرفهم أنت جيدا انقطعوا بشكل نهائي عن الكتابة ... ما رأيك؟
بالنسبة لي أنا يخيفني إنقطاعي، لكن الآخرين ربما سأقلق قليلا لانقطاعهم عن كتابة القصة القصيرة لأنني أعرف بانهم اتجهوا إلى إهتمامات أخرى كالمجالات الأكاديمية والفكرية، ومجالات الدراسات والبحوث وهي حقول مهمة جدا جدا ونحن بحاجة إلى مفكرين وباحثين. لكن المخيف في الأمر فعلا هو الانقطاع نهائيا عن الكتابة والقراءة والثقافة بشكل عام، حينها يرجع الكاتب إلى مجموعة الهامش ويكون حاله كحال الآخرين الذين يسعون فقط إلى الزواج، والعمل والجلوس في البيت وانتظار الراتب أو التقاعد وأنا لا أريد أن أكون كهؤلاء.
هل الانقطاع عن النشر .. هل يعني الانقطاع عن الكتابة أيضا ؟ خصوصا وأننا سمعنا أنك تحضر لكتابة رواية... أين وصلت الآن في كتابتها.. وهل نتوقع نشرها قريبا؟
أنا!! من قال هذا؟ أنا لم أقل بأنني أكتب رواية .. أنا قلت بأنني أعمل على تحضير مجموعة قصصية جديدة، ولكنني بطيء بعض الشيء في تصليح، أو تعديل محتواها من قصص، فأنا من النوع الصعب في نشر قصة لست مقتنعا بنشرها، وربما هذا سبب آخر لتأخري في النشر، فأنا لا أرغب في النشر من أجل النشر وفقط أو نشر أي شيء، ولكن وكما قلت في لقاءات سابقة بأنني أتمنى كتابة رواية واعتبر كتابتها مجال صعب للغاية، تحتاج إلى ذهن صاف، ووقت كبير، الرواية عالم كبير وصعب، وليس كل من كتب رواية نجح في كتابتها.
هل اتجاه كتاب القصة إلى الرواية هو هجر نهائي، أم يمكن مزاولة القصة والرواية جنباً إلى جنب.. كما أشار الكاتب محمود الرحبي في حوار سابق إلى ذلك؟ أم أن مستقبل القصة غامض إلى الآن في عمان؟
سؤال الهجرة هذا ربما يجيب عليه من كتب القصة، ثم تركها وكتب روايات وظل يكتب روايات ونسي كتابة القصة، وهذا يعتمد على الكاتب نفسه إن رأى بأن عالم الرواية سيكون أقرب إلى نفسه من كتابة القصة القصيرة، فليكتب روايات ويترك كتابة القصة، ولكن أيضا لا ضير أن يكتب القصة ثم يكتب رواية ثم يعود لكتابة القصة، فلا نستطيع أن نضع معايير لهذا الموضوع، فنحن نعرف بأن يوسف أدريس كاتب قصة من الدرجة الأولى لكنه كتب بعض الروايات، وله بعض المسرحيات، وهناك أيضا غسان كنفاني الذي كتب قصص أكثر من كتابته للرواية، بينما لم أقرأ رواية لكتاب القصة المعروفين مثل زكريا تامر أو إبراهيم صموئيل أو حتى بورخيس، وهناك الشاعر سيف الرحبي لديه إلتباسات قصصية كما أطلق عليها، وكأنما كانت تلك الإلتباسات بوح وتعبير ممزوج بالحكاية والشعر. وفي الخلاصة أقول بأن الموضوع لا يشكل لي قلقا أبدا. أما بالنسبة لغموض مستقبل القصة في عمان فأنا لا أشعر بأن هناك غموض بل الرؤية واضحة فهناك كتاب جيدين وهناك إصدارات كثيرة، ومستوى القصة عند بعض الكتاب من ناحية الجودة يتصاعد من عام لعام، وفي الوقت نفسه لا مانع أن يتجه بعض هؤلاء الكتاب إلى كتابة الرواية إن هم وجدوا بأن مساحة الرواية تمدهم بالتوسع في الشخوص والاحداث وغيرها.
أنت من المقلين في عملية النشر في الدوريات والملاحق الثقافية.. لماذا؟
لأنني وكما ذكرت سابقا مقل في الكتابة.
• القارئ لمجموعتك «بيت وحيد في الصحراء» يشعر وكأن العمل عبارة عن مجموعتين ... لماذا لم تفرد لـ «زارعو غابة الاسمنت» مجموعة خاصة بها؟
بعد أن انتهيت من كتابة هذا الجزء وهي القصص المتصلة والمنفصلة والتي عنونتها بزارعو غابة الاسمنت لم يتبادر إلى ذهني في ذلك الوقت أن أجعلها مجموعة منفصلة، نعم ربما كنت استطيع فكان بإمكاني تأجيل نشر الكتاب والتوسع أيضا في قصص الجزء الأول لكنني هكذا إرتايت في ذلك الوقت أن أنشرها هكذا ، وقد تلقيت الكثير مثل هذه الملاحظة، وهذا السؤال، ولكن هكذا نشرت تلك النصوص.
القارئ لنصوص المنذري يشعر بحضور التشكيل فيها، ولديك نصوص مثل «اللوحة» «رماد اللوحة» ... فما هي علاقتك بالفن التشكيلي؟
أنت ذكرتيني بالصديق القاص سليمان المعمري فقد كان يسألني نفس السؤال في اللقاءات الاذاعية التي أجراها معي، وأنا قلت له واقول لك الآن ربما لأنني كنت أتمنى أن أكون رساما، وفشلي في أن أكون كذلك ربما كان له تأثيره في كتابتي للقصة فجاءت على ذلك النحو، وخاصة قصة رماد اللوحة وشخصية سلمان الرسام.
• كيف استفاد نصك القصصي من عوالم اللوحة، وهل تؤمن بتداخل الفنون ؟
طبعا هناك تداخل بين الفنون، وهو شيء جميل وممتع، أما الاستفادة من عوالم اللوحة أو الرسم في نص قصصي يعتمد على موضوع القصة فمثلا إبتدأت قصة «اللوحة» والمنشورة في مجموعة «نافذتان لذلك البحر» بوصف اللوحة المعلقة على جدران المعرض، وبعدها إنطلقت القصة في أحداثها وتبين أن السارد كان يتأمل اللوحة بألوانها وأحداثها، كانت بالنسبة له كحدث يمده بتنبؤات كابوسية، هنا موضوع القصة إذن هو المرسوم في اللوحة وتأملات السارد له، وكقارئ لهذا النص أرى أن التشكيل حاضر فيها بقوة، إلى جانب اللغة الشعرية ، وفي الجانب الآخر قصة «رماد اللوحة» في المجموعة الثانية تتحدث عن معاناة شاب لديه موهبة الرسم يتعرض لضغوط اجتماعية سببت له آلاما نفسية وجسدية فيقرر أن يرسم كل الشر الذي تعرض له في لوحة ثم يحرقها وهذا طبعا كعزاء ومتنفس وإنتقام بطريقة الضعيف المغلوب على أمره، هنا الموضوع يختلف عن القصة الأولى لكنه لا يبتعد عن التشكيل وعن الشعر، وهناك فنان عماني رسم لوحة بعد أن قرأ هذا النص، فالقصة أوحت له بلوحة، ربما يكون قد تماهى معها كون موضوعها كان قريبا إليه، من هنا تأتي أهمية تداخل الفنون، فأنا أستمتع بقراءة رواية تجمع بين الشعر والمسرح والرسم أو قراءة قصيدة طافحة بالقصص كالقصائد القصصية الجميلة للشاعر أمل دنقل، وهناك تجارب في مزج الفن والشعر مثل الكتاب الذي ضم رسومات وقصائد متداخلة للفنان ضياء العزاوي، والشاعر محمد بنيس، وطبعا لاننسى تجربة حديثة من عمان وهي تجربة « أول الاحتراق .. آخر الدخان» لعلي الصوافي وبدور الريامي حيث تم من خلالها مزج الشعر بالرسم بالسينما.
قصتك حبّات البرتقال المنتقاة بدقة، صادفت نجاحا أكثر من قصصك الأخرى، فقد حولت إلى تمثيلية إذاعية من قبل مؤسسة برامج الخليج الإذاعية، كما حولت أيضا إلى تمثيلية في إذاعة سلطنة عمان، كما حملت أيضا عنوان كتاب مختارات قصصية مترجمة إلى اللغة الإنجليزية من الخليج «برتقالات تحت الشمس»، وكان هنالك مشروع للمصور بدر النعماني لتحويلها إلى فيلم سينمائي قصير.. ما سر هذه القصة ، بالرغم من أنها كتبت في فترة باكرة من دخولك عالم الكتابة؟
هل لهذه القصة سر؟ ربما ؟ ولكن أستطيع القول بأنها قصة نشرت في كتاب «نافذتان لذلك البحر» الذي صدر عام 1993 ، وكتبتها بعد أن رأيت رجلا أعرج يعبر الشارع، فور رؤيتي له أصابتني رعشة، وظل مشهده يطاردني حتى امسكت ورقة وكتبت حكاية ذلك الرجل من مخيلتي ، فأنا لا أعرف الرجل شخصيا، ولم أره بعد ذلك ابدا ، لكنني كتبت عنه ، المشهد كان له تاثيره علي ، كان حارقا وكان طافحا بالأسئلة والاحتمالات، كيف سيصل إلى آخر الشارع؟ هل سيصل؟ هل له أولاد؟ من هو يا ترى؟ كيف أصيب ؟ أو ربما ولد هكذا؟ كيف للشارع والشمس والسيارات أن يكونوا مصدر ازعاج وألم؟ هكذا جاءت القصة من مشهد سريع مرّ عليّ لكن تأثيره كان قويا إلى قصة قصيرة، وكان تدفق أحداثها حينما كتبتها غريبا، جاءت هكذا مرة واحدة، بمعنى آخر هي من القصص التي كتبتها في جلسة واحدة وبعدها بالطبع بدأت أعمل على إعادة بعض الصياغات، إذن ربما كانت تقنية السينما حاضرة بدون وعي مني، هكذا سمعت ملاحظات الأصدقاء والنقاد، وأنا الآن أنظر لها بالنظرة نفسها، إسلوب كتابتها يعتمد على تقطيع سينمائي، وحدثها إنساني وفكرتها ربما قد تكون غير مألوفة ونهايتها حسب آراء القراء كانت صادمة ومحزنة وغير متوقعة.. وبالنسبة إلى تحولها إلى تمثيلية إذاعية من قبل مؤسسة برامج الخليج الإذاعية فأنا غير راض أبدا عن إخراجها بتلك الطريقة، فقد أعطيت لسينارست لم يتفاعل معها بصدق بل عمل على تشويهها، كما أنه أو أنهم لم يطلعوني على السيناريو، فقط بعد فترة سمعت التمثيلية، وكانت جريمة بحق القصة.
• هل ترى أن قصة البرتقال هي أجمل قصصك بالفعل، أم أنها الشجرة التي أخفت الغابة؟
أنا ليست لدي القدرة على الحكم على أنها أجمل قصة كتبتها أم لا، الذي يحكم هم القراء شرط أن يكونوا قد قرأوا جميع ما كتبت، ولكن أستطيع القول بأنها من القصص القريبة إليّ.. ما رأيك أنت هل هي أجمل قصصي؟
لا يمكن أن أجزم بذلك، ثمة نصوص أخرى أعجبتني أيضا... لكن دعني أسألك: كيف تنظر إلى الجيل القصصي الذي ظهر متزامنا معك: محمود الرحبي، يونس الأخزمي، ومحمد البلوشي، وسالم آل توية... وغيرهم ربما؟
في رأيي أن هذا الجيل هو الذي أسس القصة الحديثة في عمان، بمعنى آخر ابتعد عن الإسلوب الكلاسيكي المباشر والمتبع في كتابة القصة، واختط لنفسه اسلوبا مغايرا وكان جادا وعميقا في طرح كتابته، فمحمود الرحبي كاتب قصة مرهف الحس، وصادق نجح في أن يخط له مسارا واضحا ومتقنا في مجال القصة القصيرة، ويونس الأخزمي له نفس طويل في الكتابة تجلى في أربع مجموعات قصصية لكن الوظيفة تبتلعه بضراوة، بينما محمد البلوشي صاحب المجموعة الوحيدة والمتميزة (مريم) إبتعد عن القصة فورا بعد إصداره لها وإتجه إلى الإبداع في المجال الأكاديمي والعلمي، لكنني اشعر بأنه سوف يعود لكتابة القصة، فأنا أتذكر بعد فترة من إصداره لمجموعة مريم قلت له من يكتب هذه القصص لن يتوقف عن الكتابة، لكنه توقف .. وربما سيعود، أما سالم آل توية فيمتلك حالة خاصة في الكتابة، وهو بطيء في النشر مثلي تماما، ولسالم مشروعه الجاد والمتميز في القصة كما أن مشروعه المهم جدا في مجال حقوق الانسان أخذه بعيدا وقريبا عن القصة.. لأنه حسب رأي مجموعة حد الشوف إمتداد لمشروعه ذاك. وهناك أيضا القاص والإعلامي محمد اليحيائي له إسلوبه الخاص، والممتع والباحث خالد العزري الذي أصدر مجموعة واحدة ثم إنشغل بالدراسة، والبحث وبالكتابات الفكرية، طبعا هناك آخرون واعتبرهم امتدادا لهذا الجيل وهم متميزون كسليمان المعمري وعبدالعزيز الفارسي وحسين العبري وعلي الصوافي وناصر المنجي وأحمد محمد الرحبي وبشرى خلفان وغيرهم.
كيف تنظر إلى الجيل اللاحق من الشباب الذي نشط في كتابة النص الآن، خصوصا، وأنك كنت قبل فترة بسيطة تُحكم القصص في الملتقى الأخير في البريمي؟
إستمتعت بقراءة الكثير من القصص التي نشرت حديثا، وأصحابها من ذوي المواهب التي تفصح عن تفرد، وتميز مثل هدى الجهورية، وسلطان العزري، ووليد النبهاني، ورحمة المغيزوية وغيرهم. ولكن أيضا هناك كتابات متسرعة تنشر في كتب بين فترة وأخرى، ومن ضمن الأسباب في رأي هو طباعة الكتب مجانا في عام الثقافة بمسقط فبعض الكتاب أخذوا يتسارعون في الاستحواذ على الفرصة المتاحة وطباعة مخطوطاتهم بدون مراجعة طالما بأن الطباعة مجانا إلى جانب الحصول على عائد مادي.
ما هي علاقتك باللغة في النص في مجموعاتك الأولى ؟ وأين هي اللغة عن مجموعتك الأخيرة.... هل هجرتها ؟؟ ولماذا ... ألم تعد لائقة بالنص ؟
هل تقصدين اللغة الشعرية؟
نعم قصدت حضور اللغة في مجموعاتك..كان متدرجا، فكنت تنتقل من اللغة الباذخة إلى اللغة البسيطة فالأبسط... كما حدث مع جيل كامل من كتاب القصة.. أرجو أن تخبرنا أكثر عن علاقتك باللغة، ومن ثم انفلاتك منها ؟
لا أعرف إن كان تعبير لغة باذخة او بسيطة في محلها، لكنني سأوضح هذه النقطة، كان الهم السائد في الكتابة القصصية ذلك الوقت كتابة قصة حديثة ومغايرة، وهذا ما كان يحدث أيضا في بعض الدول العربية كالبحرين والمغرب والجزائر فهناك مثلا أمين صالح، ورشيد أبو جدرة، وفاضل العزاوي، وسليم بركات وغيرهم، هناك أصوات وكتابات تحتفي باللغة لدرجة أنها تصل إلى النحت فيها، وعندها تخرج القصة من أركانها وتصل إلى النص المفتوح، وكان التعامل مع هذا النوع من اللغة بالنسبة لي مغامرة.. مغامرة من النوع اللذيذ، وأنا كنت حذرا في ذلك فاللغة في المجموعة الأولى لم تسيطر على الأحداث، ولم تغيب الشخوص، والفكرة كانت حاضرة بقوة والدليل على ذلك قصة حبات البرتقال، وقصة الرجل صاحب الصرة وقصص أخرى..وكانت الأجواء الغرائبية والكابوسية حاضرة بقوة في معظم القصص، وأذكر بأن الشاعر يوسف أبو لوز كتب قراءة حول هذه المجموعة بعنوان «كاتب يطعم نفسه مذاق المغامرة» وقد ركز فيها على ثيمة عمر الكاتب، وكيف أنه يكتب كتابات تفوق سنه وتجربته، وطبعا ذاك هو رأيه، ولكنني بعد ذلك رأيت بأن الشعرية لا تتولد فقط من اللغة، ولكن من الأحداث.. بمعنى آخر أن الحدث يمكن أن يكون شاعريا ولهذا بدأت في تجريب أسلوب آخر في الكتابة، وهكذا تغير أيضا في المجموعة الثالثة، إذن المسألة هي تجريب تقنيات مختلفة في الكتابة، واللغة إلى جانب الفكرة هما أساس بناء القصة.
آخر نص نشر لك في عدد نزوى حمل عنوان «ثلاث رقصات» بدا وكأنه مشاهد بصرية التقطت في مكان آخر... هل أثمر سفرك إلى استراليا إلى إنتاج نصوص جديدة؟
كان من الطبيعي أن يكون ذلك البلد البعيد، والمتقدم بمسافات عن بلدان أخرى وأن يكون بثقافته المتنوعه وثرائها تأثير علي، وقد كتبت مشاهد أثناء تواجدي وبعد عودتي ولكنها تظل كتابة هادئة وبطيئة إلى حد ما، وستتجلى ربما في نص طويل أومجموعة قصص لا أعرف متى سأنتهي منه، فأنا أحاول أن أنجح في تنظيم وقتي.
هل لك أن تحدثنا عن قصة محاكمة إحدى قصصك في المجموعة الأخيرة، وما أثر ذلك عليك، وعلى مشروع الكتابة؟
ما الذي ذكرك بالمحاكمة الآن؟ أنا لم أتحدث عن هذه الحكاية من قبل إلا في حدود ضيقة وبين الأصدقاء وعموما هي حدثت وأنتهى الأمر ولم تؤثر علي سوى بالقلق بشأن الدراسة في ذلك الوقت، وهذا الحدث محزن بالفعل وتجربة بلا مذاق، وانتهت أقصد الشكوى والمحكمة والمحامي وربما سأسردها في وقت ما وفي مناسبة أخرى، لكنها ليس لها تاثير سلبي على مشروع الكتابة.
ما أهمية وجود مدونة لأي كاتب؟ وماذا تنشر عادة في مدونتك الشخصية ؟ وهل تغنيك عن النشر الورقي؟
فكرة إنشاء مدونة كانت تلح عليّ منذ فترة طويلة لكي أنشر فيها جميع كتاباتي القصصية، حتى اكتشفت موقع بلوج سبوت التابع لجوجل لإنشاء المدونات بالمجان فأعددت مدونتي الخاصة لأنشر فيها كل ما أكتب، وما أنشره في الصحف والمجلات، وهي لا تقتصر على نص قصصي أو مقال بل حتى أنشر بعض الأعمال الفنية والحوارات أو المقالات المهمة لآخرين أعجبت بها وأحب مشاركة الآخرين في قراءتها والإطلاع عليها. المدونة في اعتقادي تعتبر وسيلة أخرى ومهمة للكاتب إلى جانب الصحف والمجلات حتى تصل إلى أكبر قدر ممكن من القراء، وهي لا تغني عن النشر الورقي ، وميزة المدونة بأنه لا يوجد عليها رقيب، وتكون من مسؤولية المدون نفسه، تعتبر توثيق إلكتروني لكل الكتابات ومتوفر لدى جميع المهتمين من مستخدمي الإنترنت.
ذات مرة تساءلت في أحد المقالات التي نشرت لك في شرفات: «هل للكاتب العماني قيمة في بلده؟ وما هي نظرة المجتمع تجاهه؟»، ونحن نسألك: هل عثرت على إجابة لهذا السؤال؟
باختصار كلما ازداد تقدير البلد والمجتمع لإبداع الكاتب تزداد قيمته، وبالتالي يزداد إنتاجه، وبالتالي أيضا ترتفع قيمة البلد.
• بماذا يحلم يحيى المنذري الآن ؟
أتمنى أن أعيش في هدوء وسلام مع جميع الأخيار من الناس في ظل قوانين وحقوق واضحة، وأتمنى أن لا ينقطع عطائي في مجال الكتابة أيا كان نوعها، كما أتمنى وجود حرية تعبير أوسع ووجود احترام وتبجيل وتكريم لجميع المبدعين في مختلف المجالات.

الجمعة، 14 أغسطس 2009

نافذتان

يحيى سلام المنذري


كان الطقس في البلورة باردا والحياة هادئة ، وعبر نافذته البعيدة يشاهد الأشجار والرذاذ والشارع الطويل باصوات سياراته المسرعة وبأرصفته التي تحضن بدفء أقدام المارة. مشهد "مالبورني" لا يتغير. نفس المشهد كل يوم. لكن نافذته لا تنسى أن تضيف مشاهد أخرى تتغير من وقت لآخر ، كمشهد الفتاة التي تحضن صديقها من الخلف وهما يمشيان بسعادة باتجاه السيارة ، تنتقل الى جانبه وتشبك يدها في يده ، وحينما يصلان السيارة تلهبه بقبلات على خده وتحضنه بحرارة، كان شعرها الاشقر يتطاير مع الهواء ليرسم حرية الحب.
وبعد هذا المشهد يأتي مشهد قديم من خلال نافذة أخرى لكنها بعيدة ، عن فتاة تعيش بين الجبال ، وبخوف تحاول اقتناص فرصة لقاء من تحب ، تعرف بأنها ستدخل مغامرة في كهوف مرعبة ، تقود سيارتها بحذر ونظراتها تتشبث في المرآة الصغيرة التي أمامها لتتأكد بأن أحدا لا يطاردها. تذهب بعيدا خلف بناية مهجورة وتوقف سيارتها هناك بجانب سيارته ، تنزل من سيارتها وقلبها يكاد يطير ، تركب بجانبه في سيارته التي تنطلق بسرعة خوفا من الأعين، يذهبان بصحبة المتعة والقلق إلى مكان مهجور وبعيد.
هل هما لصان يسرقان الحب من حياتهما؟ ذلك الحب المضمخ بالخوف والألم.




الجمعة، 7 أغسطس 2009

مقال جميل للدكتور سليمان العسكري عن نجيب محفوظ نشر في مجلة العربي - العدد 529 ديسمبر 2002



محفوظ.. القيمة.. والقيم

سليمان إبراهيم العسكري



يخبرنا تاريخ الحضارة الإنسانية: أن التطور الحقيقي للأمم لم يصنعه جنرالات وقادة الحروب, بل صنعه ويصنعه المبدعون من أبنائها, كتّابا وفنانين وعلماء ومخترعين ومبتكرين. وفي هذا الشهر تحل ذكرى الميلاد الثانية والتسعون لقمة من قمم المبدعين العرب, نحتفل به لا لمجرد الاحتفاء بهذه القمة, بل تكريساً لقيم رائعة وفريدة في زماننا العربي, تألقت في مسيرة حياة صاحبها الإنسان.. نجيب محفوظ.
صار عمله - الكتابة - جزءا من إيقاعه الحيوي اليومي.. يُسعده.. ويسعد به الآخرون
تواضعه وبساطته طريقة عبقرية لتحرير النفس مما هو عابر وتافه للتفرغ لما هو أعمق وأبقى
لقد أردت تأصيل مفهوم القيمة وأنا أنوي الحديث عن نجيب محفوظ لمناسبة ذكرى ميلاده الثانية والتسعين, فوجدت غابة مشتبكة الأغصان في (إشكالية القيمة) في المباحث الفلسفية, وذكرني ذلك بأن نجيب محفوظ هو تلميذ للفلسفة. ومن الطريف أنه عند التحاقه بكلية الآداب, وأثناء الاختبار الذي كان يجرى للمتقدمين بعد اختيارهم للفرع الذي يريدون التخصص فيه, فوجئ نجيب محفوظ أن الممتحن هو طه حسين, وسأله طه حسين: (لماذا اخترت قسم الفلسفة?). أجابه نجيب بأنه يرغب في معرفة سر الكون وأسرار الوجود. أصغى عميد الأدب العربي جيدا لطالب الآداب المستجد حينذاك, ثم قال ساخراً: (أنت جدير بالفلسفة فعلاً لأنك تقول كلاماً غير مفهوم).
كانت تلك دعابة من عميد الأدب العربي لطالب شاب يلتحق بأحد أقسام الكلية التي يشغل قمة عمادتها, لكن الدعابة كانت تتضمن إشارة نقدية يقع فيها بعض المتفلسفين عندما (يُعتمون المضيء ويُشكلون الواضح). ولعلها كانت إيماءة من عميد الأدب العربي للطالب نجيب محفوظ حتى يوغل في الأمر بلين ولا يستبق المعرفة بغير معرفة.
وهي إيماءة تطفو على سطح ذكريات نجيب محفوظ, وتقترب منّا ونحن نشرع في الحديث عن هذا الرجل (القيمة) بأجلى معاني هذه الكلمة, وبأعمق مفاهيمها الفلسفية أيضا.
والقيمة تعتبر اصطلاحا فلسفيا حديثا اتخذ من الفكر المعاصر كدلالة متخصصة تعبر عن ميدان محدد هو (فلسفة القيم). وتعود ملامح بحث إشكالية القيمة في البدء إلى الفيلسوف (كانت) - أو (كانط) - وإن كان الفيلسوف (نيتشه) هو الذي دشن طريق فلسفة القيمة وفض ملغزاتها.
ومن أوضح ما وجدنا في (فلسفة) القيمة القول بأن القيمة عندما ترتبط بصفة الشخصية تضفي مقامها على الشخص فترفعه وترتفع به من التميز العام عن بقية الناس إلى العبقرية وغيرها من حالات كسر القيمة المألوف والشائع والمتواضع عليه بوصفها حدودا قصوى في سلم التميز القيمي.
هذا حديث يقترب كثيرا مما أود قوله عن نجيب محفوظ كقيمة في حياتنا العربية, لا الثقافية وحسب, بل الإنسانية في عمومها. لكن هناك أطرا تعبيرية قد تكون متاحة أكثر وقريبة المنال, وربما أكثر بلاغة.
في اللغة العربية اشتقت كلمة (القيمة) من فعل (قام) فكأنها نهوض ينقل موضوع هذه القيمة إلى حالة الاستقامة والاستواء, وهي كفعل يتمتع بقوة تحملها الصحة والفعالية والتأثير. وعلى ألسنة الناس عندما يقال إن (الرجل قيمة) فإن المعنى تتسع جوانبه ليكون القصد هو علو مقام الشخص وفاعليته بين الناس.
ونجيب محفوظ بهذا المعنى - كان ولايزال - قيمة رفيعة, بكل هذه المعاني المتاحة, وبعيدة المنال على السواء. وليس مجال هذه المداخلة في تحية كاتبنا الكبير هنا أن نتوقف عند قيمته الأدبية الرفيعة والتي هي بلا شك ذات مستوى عالمي في علوها قبل حصوله على جائزة نوبل وبعد حصوله عليها. فللتقييم والنقد الأدبيين أهلهما ومكانهما, لكنني أود التوقف هنا أمام قيمته كظاهرة إنسانية مبدعة في مجتمعنا العربي المعاصر, كإنسان حقيقي يحترم وجوده في رحلة الحياة على الأرض ليعطي أفضل ما عنده, فيبلغ بهذا العطاء الذروة, ذروة الإبداع في مجاله الأدبي, وذروة الرقي في تفاعله ككائن اجتماعي مع محيطه.
وما كان نجيب محفوظ أن يبلغ هذه (القيمة) إلا عبر مجموعة من القيم اصطفاها لنفسه ودربها عليها حتى أصبحت دالة على وجوده.
وهي دلالة ينبغي أن نكرّس الانتباه لمفرداتها, لأنها جديرة بأن تكون نموذجا يحتذى للأداء الذي تفتقد مجتمعاتنا العربية الكثير من جوانبه, سواء على مستوى العامة أو النخبة من أبناء مجتمعنا. ولا أزعم أنني سأحيط بكل هذه المفردات القيمية والسلوكية لأديبنا (القيمة), لكنني أطمح إلى التوقف عند أبرزها.
العمل.. العمل.. العمل
يقول نجيب محفوظ في الإجابة عن سؤال يتضمن بعضا من المديح: (والله ما شعرت بها - العبقرية - لا في أول عمري ولا في آخر عمري, إنما شعرت بأني رجل مجتهد ومثابر وشغال ومحب لعملي وأعشقه, هذا ما أستطيع أن أحدثك عنه كأشياء ملموسة موضوعية, فأنا أحب العمل أكثر من حبي لثمرته, ويعني إن جاء لي بالمجد والفلوس.. أحبه, وإن جاء لي بالفقر أحبه, وإن لم يأت بشيء حتى الفقر, أيضا أحبه).
لم يكن هذا الحديث لنجيب محفوظ مجرد إجابة - لزوم ما يلزم - عن سؤال وجه إليه, ولم يكن ادعاء للتواضع, فالرجل لا شك في تواضعه المشبع بالكبرياء الجميل, والذي يستحق مداخلة متفردة, بل كان حديث صدق يشهد عليه أداء مرصود ومشهود استمر - فيما يعلم الجميع - لأكثر من سبعة عقود, ولايزال.
فهو الذي وُلد في حي الجمالية بمنطقة القاهرة الفاطمية في 11 ديسمبر 1911م وبدأ الكتابة في الصحف المصرية منذ سنة 1928م, وصدرت له أول مجموعة قصصية هي (همس الجنون) عام 1928م, ثم أبدع أولى رواياته (عبث الأقدار) عام 1935, ولم تكتب عنه إشارة نقدية واحدة حتى جاء المقال النقدي الأول في العام 1944م وكان شديد الحماس لفنه الروائي, كتبه الناقد الأدبي - آنذاك - الأستاذ سيد قطب ونشر في مجلة (الرسالة) المصرية, ومما جاء في مقال سيد قطب عن رواية نجيب محفوظ (كفاح طيبة): (لو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه القصة في يد كل فتى وفتاة, ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان, ولأقمت لصاحبها - الذي لا أعرفه - حفلة من حفلات التكريم)
إذن, ظل نجيب محفوظ يكتب - يعمل - لأكثر من ستة عشر عاما دون أن يجد من يلتفت إلى قيمة عمله, ومع ذلك لم ييأس, أو يتذمر أو يتوقف, كالكثيرين غيره, فقد كان العمل الأدبي مشروع حياته, بل حياته كلها, أحب عمله, فأحبه عمله, وصعدا معا سلم الإجادة والارتقاء والتكريم حتى كانت الذروة - في عرف كثير من الناس وفي عُرف العالم لكنه لا أظن في عرفه هو - يوم الخميس 13 أكتوبر 1988م وهو (اليوم الذي أعلنت الأكاديمية السويدية في الساعة الثانية بعد الظهر بتوقيت القاهرة اختيار نجيب محفوظ من بين مائة وخمسين مرشحا لمنحه جائزة نوبل في الآداب).
ولم يتوقف نجيب محفوظ عن دأبه في إرواء شجرة العمل, بل استمر, واستمر حتى بعد الاعتداء الآثم (محاولة اغتياله) الذي وقع عليه في أكتوبر عام 1994م وتسبب في إعطاب يده اليمنى التي يكتب بها, لم يكف نجيب محفوظ عن عشق عمله (الكتابة) فلم يتوان في تدريب يده على العودة إلى الكتابة. ومن اللمحات الجميلة الخاصة به والمؤثرة وبالغة الدلالة, تلك اللمحة التي حكى عنها أكثر من كاتب من أصدقاء نجيب محفوظ عن فرحته الشديدة بأنه عاد يكتب بيده دون أن (ينزل عن السطر).
والآن وهو يدلف إلى عامه الثاني والتسعين من عمره لايزال يكتب وتنشر له قصص قصيرة بديعة بعنوان (أحلام فترة النقاهة) التي يستقي مادتها من أحلامه الشخصية, وقد علق في تصريح أخير ضمن حديث لجريدة (نيويورك تايمز) الأمريكية: (إن الكاتب لا بد أن يجلس يوميا للكتابة حتى وإن كتب أي شيء).
لقد صار عمله - الكتابة - جزءا من إيقاعه اليومي, الذي يسعده هو نفسه فيسعد به الآخرون, وكان حبه ذاك للعمل لصيقاً بمفردة أخرى قرينة لإنجاح هذا الحب.


احترام أمانة الوقت
لقد قدم نجيب محفوظ للأدب العربي الحديث أكثر من 35 رواية ونحو 15 مجموعة قصصية وعددا من سيناريوهات الأفلام العربية الجميلة, وعددا أكبر من مقالات الرأي, وما يصعب احصاؤه من الأحاديث المضيئة لبعض جوانب إبداعه وآرائه في شتى المجالات التي تعنيه وتعني الناس. ولم ينقطع في ذلك كله - وحتى اليوم - عن الوجود بين الناس خاصة الأصدقاء والأدباء. ومازالت ندواته عامرة على ضفاف النيل وبين جوانح القاهرة. وهذا كله شيء كثير لا يمكن تفسيره وتبريره بطول عمر الرجل الكبير, لكن التفسير والتبرير والتقدير الأعمق هو لعنصر احترام الوقت, احتراما يوشك برغم قياسه بساعات البشر أن يكون احتراما روحيا خالصا كأمانة أودعها الله بين يدي الإنسان.
يقول نجيب محفوظ عن نفسه: (نعم أنا منظم, والسبب في ذلك بسيط, إذ عشت عمري كموظف, وأديب, ولو لم أكن موظفا لما كنت اتخذت النظام بعين الاعتبار, كنت فعلت ما أشاء وفي أي ساعة أشاء, لكنني في هذه الحالة كان علي أن أستيقظ في ساعة معينة, ويبقى لي من اليوم ساعات معينة, فإن لم أنظم هذا اليوم فسأفقد السيطرة عليه, لقد عودت نفسي على ساعات معينة للكتابة, وفي البداية كانت روحي تستجيب أحيانا وأحيانا لا, لكنني مع الزمن اعتدت ذلك... إنني أكتب عادة مع الغروب, ولا أذكر أنني كتبت أكثر من ثلاث ساعات, وفي المتوسط لمدة ساعتين. أشرب في اليوم الواحدة خمسة فناجين قهوة وأسهر حتى الثانية عشرة ليلا, وأكتفي بخمس ساعات نوم).
بالطبع ليست الوظيفة وحدها هي سبب تنظيم نجيب محفوظ لوقته الثمين, فكم من الموظفين يحترفون إهدار وقتهم ووقت الناس في عالمنا العربي حتى أصبحت ظاهرة إضاعة الوقت والإهمال في إنجاز العمل سمة بارزة من سمات التخلف العربي. ليست الوظيفة, لكنه الموظف النادر المبدع بعيد النظر والمخلص للمشروع الذي كرّس له حياته, نجيب محفوظ الذي حول نقمة الوظيفة إلى نعمة, وهو درس بليغ ليس في مجال تنظيم الإبداع وعمل المبدعين وحدهم, بل في كل مجالات حياتنا التي هددها ويهددها عبث الاستهانة بالوقت, الوقت الذي لا يعني دقة المواعيد فقط, بل الأمانة في دقة الأداء أيضاً, وهو ما قدمه - ولايزال - نجيب محفوظ الذي أتمنى أن نضبط مواعيدنا على دقة ساعته الإنسانية الفريدة, والمؤمنة بأن الوقت بين أيدينا أمانة كأثمن الأمانات.


الحرية عبر البساطة...
يقول نجيب محفوظ: (اتصلت علاقتي بالأستاذ يحيى حقي, أديبا بأديب, بل إلى ما هو أعمق من ذلك على المستوى الإنساني, وإن كنت كموظف ملتزم أقوم لتحيته إذا أقبل, وإن كان هو قد أنكر ذلك السلوك مني باعتباري أديباً كبيراً كما كان يقول, ولكنني كموظف أعطي الوظيفة حقها, فهو مديري, يعني مديري رغم الصداقة والعلاقة الإنسانية, لكنه حين يأتي لابد من الوقوف تحية له, لا أعرف غير ذلك سلوكا من موظف نحو رئيسه حتى لو كانت صداقتي به تبرر لي أن أعامله بغير ذلك, لكنني كنت أقوم له كنوع من التحية وأدب الوظيفة).
هذا الحديث لنجيب محفوظ عن يحيى حقي إذا ما أُخذ بعين السطحية والغرور قد يُستنكر, لكن الغوص فيه قليلا - على خلفية ما نعرفه عن أن نجيب محفوظ لم يفرط في كرامته يوما, ولم تنقصه الشجاعة أبدا في التعبير عن رأي يعتقده, بل في أداء واجب تحيطه الخطورة مثلما حدث عندما أصرّ على زيارة الأستاذ سيد قطب في أعقاب خروجه من سجنه الأول, يدفعنا لليقين في أن تواضع نجيب محفوظ لم يكن إلا تجليّا لنفس غنية وروح نظيفة على المستوى المعنوي, أما على المستوى العملي المادي, فقد كان هذا التواضع طريقة إنسانية فريدة في تفسير تواضع نجيب محفوظ وهو تفسير عبقري في عمقه,. يقول عنه يحيى حقي: (ليس في نجيب محفوظ ذرة واحدة من طبائع الموظفين, ليس في حياته كلها سعي وراء درجة أو علاوة أو افتتان ببريق السلطة أو أبهة المنصب, ولا تستغرب إذا قلت لك إنه - مع ذلك - موظف مثالي, لم يحدث له أن تأخر عن الوصول إلى مكتبه دقيقة واحدة بعد دقة الساعة معلنة الثامنة صباحا, كان هذا رأيه حتى وهو يشغل المنصب الرفيع كمدير لمؤسسة دعم السينما. إنه يفعل ذلك لأنه حريص على أداء واجبه وأن يكون قدوة لغيره, بل - وهذه هي الحقيقة - إنه يبعد عن نفسه وجع الدماغ ليفرغ لفنه).
هذا التواضع الهادف لتحرير الذات وادخار الطاقة للجهد الأهم, العمل, والعشق - الكتابة - أكمله نجيب محفوظ بمفردة أخرى لازمة ومهمة ومكملة لهذا السعي النبيل لتحرير الذات, وهي البعد عن المظاهر والتنائي عما لا يفيد إفادة توازي الجهد المبذول, فنجيب لا يرتدي ربطة عنق ويهدي ما يهدى إليه منها لأحبائه, وهو لم يمتلك سيارة في حياته ويسكن في شقة بالإيجار في الطابق الأول من عمارة بشارع النيل, وعدا ندواته الشخصية الحرّة مع أصدقائه لم يعرف عنه أنه حضر ندوة أو مؤتمراً أدبيا أو مهرجاناً أو لبى دعوة لمؤتمر أو ندوة خارج مصر ولم يطرق أبواب الصالونات أو المنتديات الأدبية أو السياسية. إنه مدخر عظيم وحكيم يعرف أولوياته في رحلة حياة قصيرة - قصر عمر الإنسان - مهما طالت, وعلى درب الادخار والحكمة هذا تتوالى الخصائص والقيم الإبداعية لنجيب محفوظ.


التسامح دون تنازل
ولعل سلوك نجيب محفوظ في الاتفاق والاختلاف يكون نموذجاً عربياً فريداً - يستحق أن يحتذى - لا يقدر عليه إلا من رحم ربي, ومَن روّض النفس ترويضا رفيع المستوى إلى درجة مذهلة حتى مع الخصوم. ففي أحد مقالاته كتب الناقد رجاء النقاش عام 1969 ما يرد به على سؤال: (هل أصبح نجيب محفوظ عقبة في طريق الرواية العربية?) وأثار المقال حفيظة بعض الروائيين الشبّان وظهرت تعليقات عدة عليه هاجموا فيها رجاء النقاش مما اضطره للرد بقسوة, وبرغم أن الناقد كان ينتصر لنجيب محفوظ إلا أن نجيب نفسه عاتبه بلغة مهذبة رقيقة عندما التقاه فيما بعد قائلا له: (لم أتعوّد أن أقرأ لك كلمات قاسية, ولكن مقالك الأخير كان عنيفاً, وما كنت أود منك أن تقف هذا الموقف).
ظل نجيب محفوظ - عبر حياته الفكرية الطويلة - تجسيداً حيّاً لمبدأ الترحيب بالاختلاف وقبول الرأي الآخر. ومن المرات القليلة التي اضطر للرد فيها على رأي يخالفه كان ذلك مع عباس محمود العقاد, وهذا مما يؤكد شجاعة نجيب محفوظ فيما يعتقد أنه الحق, فهو متسامح النفس ويحترم من يخالفه الرأي, نعم, لكنه لا يتخاذل في الدفاع عما يراه صحيحا. والمتابع لأدب نجيب محفوظ يقف على هذا المبدأ, ويجده واضحاً في كل آرائه الواردة في رواياته, حتى في أحلك فترات الحجر على حرية الرأي والإبداع.
لقد كتب عباس محمود العقاد مقالاً بمجلة (الرسالة) المصرية لصاحبها أحمد حسن الزيات عام 1945 سخّف فيه كتابة القصة واتهم كتّابها بأنهم كسالى. فردّ عليه نجيب محفوظ فيما بعد - بعد أن كان قد حسم أمره ككاتب قصصي - وكان رد نجيب الشاب على العقاد الجبّار - في ذلك الوقت - محكما حتى أن العقاد لم يرد عليه على غير عادته في عدم تفويت فرصة لمختلف معه في الرأي.
ولم يترك هذا الخلاف في نفس نجيب محفوظ الصافية أي شوائب للعداء, إذ ظل يضع العقاد في موضع عال من الحب والتقدير فيقول عنه: (أحببت العقاد حبا يفوق كل وصف) أما العقاد نفسه فكان - على حبه للمعارك الأدبية والفكرية - نموذجاً آخر للترفّع عن الأحقاد في مواجهة الحق والحقيقة. وقد رشح العقاد نجيب محفوظ (الروائي) لجائزة نوبل مؤكدا استحقاقه لها مرتين, الأولى نشرتها الصحف والثانية أذاعها التلفزيون. ففي عدد جريدة الأخبار يوم 31/10/1962م قال العقاد: (الآن يحق لنا أن نقول: إذا كانت المسألة مسألة بحث بعد مجهود, فلماذا يقف هذا البحث دون البلاد العربية من أمم العالمين فلا تهتدي لجنة (لجنة جائزة نوبل) ولا تريد أن تهتدي إلى واحد منهم, وهم على هذه الطبقة غير قليلين. إنني أذكر منهم أربعة) وكان نجيب محفوظ أحد هؤلاء الأربعة الذين قطع العقاد في استحقاقهم لجائزة نوبل. وكرر العقاد ذلك الترشيح في الحديث الذي أذاعه التلفزيون المصري قبل وفاته بوقت قليل.
وبعد ربع قرن من ذلك الترشيح تحققت نبوءة العقاد وفاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل كأول أديب عربي يحظى بها عن استحقاق وجدارة.
إسهام كبير... في الحياة
لقد أسس نجيب محفوظ لأمته العربية مدينة رائدة وعامرة للرواية العربية ذات المستوى العالمي, وهو أمر ملحوظ ومشهود ومرصود من الكافة, أما العمارة التي شيّدها نجيب بموازاة ذلك, وهي جديرة بأن نتمثلها ونزورها قلبيا وروحيا بصفة مستمرة, وجديرة بأن تسكننا ونسكنها, فهي القيم التي أعلاها بسلوكه الفريد العنيد - دون عنف - قيم احترام العمل, والدأب, والمثابرة, وصيانة أمانة الوقت, وإعلاء قيم التسامح وحسن الحوار, والزهد والتواضع والبعد عن المظاهر الفارغة... كل ذلك بروح صافية ونفس راضية ذات دعابة راقية ذكية.
إننا إذ نحتفل ببلوغ نجيب محفوظ عامه الثاني والتسعين من عمره الكريم, نهنئه, ونهنئ أنفسنا كعرب بهذا النموذج العربي الماثل بيننا, ولعلها فرصة نتدبر فيها أداء هذا المثال, لعله يكون اقتراحاً لطريق خروج المواطن العربي الفرد من مأزق التخلف العربي, وبرهانا عمليا على أننا نستطيع ذلك مثلما استطاع نجيب محفوظ... لو شئنا

سليمان إبراهيم العسكري