الأربعاء، 3 أغسطس 2011

يحيى المنذري: قصة قصيرة قد تفعل فعل الإبداع والمتعة والجمال أكثر من خمس روايات !

حوار نشر في ملحق نون-تاريخ 01 أغسطس 2011


عبر أربع مجاميع قصصية ، وكتابة تتجاوز العشرين عاما استطاع يحيى سلام المنذري أن يسجل حضوره البارز في المشهد القصصي العماني .. صدرت مجموعته القصصية “نافذتان لذلك البحر ” عام 1993 حينما كان لا يزال طالبا بجامعة السلطان قابوس .. ثم أصدر بعدها “رماد اللوحة” ( دار المدى دمشق .. 1999 ) و”بيت وحيد في الصحراء” ضمن سلسلة كتاب مجلة نزوى مسقط 2003.. هذا الحوار يأتي بمناسبة آخر اصدارات المنذري وهي مجموعته القصصية “الطيور الزجاجية” ( دمشق 2011 ) التي احتفى بها النادي الثقافي مؤخرا .. سنلحظ من هذا الحوار أن المنذري متقشف في إجاباته ، ربما لأنه يؤمن أن النص وحده هو الدليل على الكاتب :

“· “تشيُّؤ الإنسان هو لعنةُ الحضارة” ، هذِه الفِكرة انطلقت منها معظم نُصوص مجموعتك الأخيرة “الطُّيور الزُّجاجيّة” ..في زمنٍ مُتسارِع تغرّب فيها الإنسان عن ذاتِه برأيِك كيف يُمكن للأدب أن يرُد الإنسان لإنسانيّته ؟

لا أعرف إن كانت وجهة نظرك صحيحة بشأن وجود فكرة تشيؤ الإنسان في معظم نصوص المجموعة، إلا أنني أحترم هذا التفسير وأجد بأن النصوص قابلة لتأويلات مختلفة، وهذا يعني وإن كانت موجودة فإنني لم أتقصد طرحها. أما بشأن السؤال فهل تقصدين الإنسان كمتلقي للأدب وأن للأدب دور في أنسنة الإنسان؟ أم أن الإنسان كمحور أو كموضوع في الأدب؟

في حالة المقصد الأول، فمن وجهة نظري، الأدب أحد العوامل التي تنظم وترتب فكر ورؤية الإنسان تجاه حياته وإنسانيته، بحيث يشعل لديه ضوء ولو بسيط من الوعي والمعرفة بالأمور المخفية في هذه الحياة، فالأدب بما فيه من إبداع وخيال ورؤى وفلسفة وعرض سلوكيات وأفكار وخواطر الناس بشتى الطرق، كل ذلك من شأنه حقن الإنسان المتلقي بجرعات من حب الحياة والناس والخير.

أما المقصد الثاني، فالإنسان عندما يتعامل معه الأدب كمادة أو كمحور..فإن ذلك يعكس تارة صورته الحقيقية في الحياة سواء كان لجوانبه الإنسانية أو الحيوانية أو اي صفة أخرى له..وتارة أخرى صورة متخيلة..أو حلم يتكون ويظل في الورق.

•“بالطّبعِ ذلِكَ ما يودُّ يحيى اضاءته لنا ، وقولِه أن التفتوا إلى أعماقِكم تجدوا حقّا ما هو مُخيف ومُقزِّز” …هذا ما قالهُ سماء عيسى في قراءتِه لمجموعتِك ..أيكونُ إنسان هذا العصر ” طيرٌ من زُجاج” حقّا…؟
أتفق مع عبارة ومقصد الشاعر سماء عيسى، وهذا يقودنا إلى استكمال الفكرة لسؤالك الأول، حيث بإمكان الأدب الكشف عن خبايا الإنسان إن هو تحقق عن المدفون في أعماقه ويبدأ في الالتفات لخيره وشره، ويبدأ في التفكير والتأمل في نفسه، وهكذا، أما عن الطير الزجاجي فهو ربما يكون رمزا للإنسان الذي ما أن ينطلق كالطير بدون قيود بسبب ما يملكه من سلطة أو نفوذ حتى يؤذي من حوله ..وفي نفس الوقت هو زجاجي الصفات كأن يكون هشا وقابلا للكسر ومكشوف النوايا.. إلا أنه يطير ويخترق الحياة. بالمناسبة هذا أحد تفاسيري.

•“للمدينةِ” في أغلبِ الكِتابات العُمانيّة صورةُ “سافِرة” لكأنّها الإغواءُ الحقيقيُّ .. أهي مدينةٌ تُشعُّ “زُجاجا” فتُحوِّلُ إنسانيّة من يأتيها إلى زُجاج ، أم أنّ قاصِديها “طيورٌ زُجاجيّةٌ” بالأصلِ…؟
للزجاج أهمية ودور كبير في حياة الإنسان وله استخدامات كثيرة، كما أن له صفات عديدة ومنها قابليته للكسر والتحطيم وهذا يعتمد على مدى قوته وصلابته، وعند حدوث كسر ما يتحول إلى شيء مؤذ، وعندما تتحول الطيور إلى زجاج أو التفسير الآخر وهو الإنسان من يتحول إلى طير زجاجي ..بالتالي هو من يقضي على المدينة المبنية معظمها من زجاج..فيحدث التكسير الرمزي.

•“يوم واحِد يتلألأ في عينيّ” ، و ” من جِدارٍ أبيضٍ إلى جِدارٍ أسود”.. يُعدّانِ من نُصوصِ التّجرُبة ، إذ كتبتها إثر حادِثٍ وضعكَ بين الحياةِ والموت ،فإلى أيِّ مدىً يُمكنُ للتّجرُبةِ الواقعيّة ولادة نصٍّ جيِّدٍ..؟
هذا أيضا من تفسيرات قراءة الشاعر سماء عيسى ، لكن في الحقيقة النص الأول (يوم واحد يتلألأ في عيني) هو الذي له علاقة بتجربة حادثة السقوط ، أما النص الثاني فليس له علاقة وقد كتبته منذ فترة طويلة قبل الحادثة، والتجربة الواقعية للكاتب لها إرتباط قوي بولادة نص إذا ما أتقن كتابته، ومعظم الكتابات الجيدة كانت نتاج تجارب عايشها الكتاب، وتنعكس في كتاباتهم بطرق مباشرة وغير مباشرة، وفي إعتقادي تكون أكثر صدقا من الكتابات التي لم يعايشها الكاتب.

•“فمهُ المليء بالشّعر يمنعهُ من الصُّراخ ” جُملة مُقتبسة من أولى قِصص المجموعة، و ” في وكرِ الحلّاقين يصطدِمُ بالرّقابةِ الصّارِمةِ والمتطفِّلين” جُملة من آخر نصٍّ في المجموعة …ربط بينهما خالِد الحريب في قِراءتِهِ لمجموعتِك إذ يقول : ” لتُصبِح المِسافة بين فمهِ في بدايةِ النّصِّ وما بداخِلِ جمجمتِهِ في نهايةِ النّصِّ هي الشُّغل الشّاغِل ليحيى سلام المنذري” ..يتفنّن النُّقاد والقُرّاء المُتمكِّنون في تحليلِ النُّصوصِ وإعادةِ تركيبها ، إلى درجة في بعضِ الأحيان لا يقصدها الكاتِب نفسه..في رأيك إلى أي مدى تجد في القِراءات مُلامسة شفيفة لمجموعاتِك ، واِقترابا كنتَ تقصدهُ حقّا غير ما أضفاهُ وحي كاتِب القِراءات وثقافتِه؟
أنا أفضل دائما القراءة المخالفة عما كنت أقصده، لأنني أشعر بأن النص قابل لعدة تفاسير، أي أنه نص غير جامد وغير مباشر، بل يمد المتلقي بأفكار مختلفة ويجعله يتأمل ويفسر، وهذا بالمناسبة شيء ممتع سواء للقاريء أو حتى للكاتب حينما تصله الآراء أو القراءات لنصوصه. وكما تفضلت وأشرت إلى أن النقاد والقراء المتمكنون هم من يقدر على عملية تحليل النص وإعادة تركيبه، وبالنسبة للقراءات التي جرت لمجموعاتي القصصية خلال السنوات الماضية فمعظمها كانت قراءات جديدة للنصوص وبعضها لامس ما كنت أقصده.

•بعضُ الكُتّابِ يُجفِّف اللُّغة إلى حدّها الأدنى ، وفي الوقتِ ذاتِه فإنّه يكثِّفها بأقلِّ الكلماتِ وأبلغِها ، وهو بذلِك يمنحُ القارئ أُفقا أوسع لصُنعِ حكاياه الخاصّة داخِل تِلك النُّصوص ، كما أنّهُ بتلك الطّريقةِ يُحافظُ على الرّمزِ الشّفيفِ الأبعد والأعمق من كلِّ الكلمات…وأنتَ في بعضِ عناوينِ نصوصِك ، وبعضُ الجُملِ اختزلت الكثير..هل تظُن أنّ الكاتِب يعمد بالفِعل لذلِك .. أم أنّ الأمر محضّ وحي..؟..ومن خِلالِ اطّلاعِك على إنتاجاتِ العُمانيين هل ثمّة من قاربَ تِلك الصُّورة أكثر من غيرِه…؟
كل ذلك يأتي بعد تجارب عديدة من كتابة النصوص..من كتاب يحرصون على تطوير أدواتهم وأساليبهم في الكتابة، إضافة إلى تطوير اللغة بكل ما تحتويه من معاني وكلمات وإستعارات ورموز وغيرها.

هو أمر في غاية الصعوبة أعني التحكم في اللغة وأساليب كتابتها المتعددة، والكاتب الذي يستطيع الاختزال والتكثيف في اللغة ينجح في استخدامها وهي أول أداة من أدوات الكتابة.. لأن هناك الحكاية والشخوص والأماكن والخيال وإلى آخر العناصر المكونة للقصة. وأنتِ على علم ربما بأن معظم كتاب العمانيين خلال التسعينيات تبنوا اللغة الشعرية في كتابة نصوصهم وفي معظم الأحوال كانت تسيطر على الحكاية والحدث، فاللغة إما أن تكون عامل جذب وتشويق أو تكون عامل منفر. وهناك الكثير من الكتاب العمانيين يتقنون وبذكاء توظيف اللغة بشكل جميل ورائع، والعكس أيضا موجود فنجد كتاب يقدمون لغة منفرة وفي بعض الأحيان تكون ركيكة وغير مترابطة، ومع الأسف أيضا هي منشورة في كتب.

•مجموعاتك القصصيّة حظيت باهتمام الكثير من النُّقّاد والقُرّاء المتمكِّنين..من خِلالِ مُتابعتِك للمشهدِ الثّقافي العُماني هل ترى حركة نقدية جادّة تُعلي من شأنِ الأدبِ بعيدا عن المُجاملاتِ الشّخصيّة …؟
أرجع إلى أحد الأسئلة السابقة والتي تتعلق بموضوع الناقد أو القاريء أو أي مبدع حينما يقدم قراءة تحليلية لنص ما أو يقوم بإعادة تركيب النص، وأنا في رأيي أن هذا مهم جدا ولا يحدث إلا لنص مبدع، ويحدث من شخص معجب بالنص ووجده مادة شيقة وجميلة ومهمة للتحليل والقراءة. والقراءات النقدية أو التحليلية إن صحت التسمية يجب أن تكون مبدعة ولا تقل أهمية عن النص المقروء، بحيث تقدم المعرفة والمتعة والتشويق، ومع الأسف هذا نادر الحدوث في المشهد الثقافي في عمان..معظم القراءات إما تنصب في المجاملات والتهويمات والتقيد بقوالب جاهزة في النقد أو أن تكون صارمة وجارحة.

•في القلعةِ الثّانية “دراسة نقديّة في القصّةِ العُمانيّة القصيرة” ، للدُّكتور ضياء خضير ، يقول في موضوعِهِ “يحيى سلام المنذري : عُزلةُ الذّاتِ والعُقدِ الموروثةِ من عالمِ الطُّفولة” : “… الشرط الأولي الموجود في هذا النوع من الحكي هو انتساب الأشياء واللغة إلى التمثيل. وهو تمثيل وظيفته الأساسية تقريب الأشياء من الكلمات، ثم الانتقال من الأشياء إلى الكلمات وحدها… …وهو ما يشير إلى استمرار قصور الوعي وتبعية الموضوع للذات.”
لو أخذنا المُقتبس أعلاه بعموميّتهِ ،وعند مُتابعة بعض قِصصِك نرى بالفِعل في بعضِها سيطرة عالم الطُّفولة ، الأطفال ، الدّم ، القلق عليها …هل يُشكِّل الحنين للطّفولة ، والعودة لبساطةِ الحياةِ من جِهة ، والقلق من نحرِ البراءةِ ، والوحشيّة من جِهة أُخرى ..هاجِسا مُلحّا ليحيى المنذري يُجبرهُ على الكِتابةِ وعدمِ الانفلاتِ من مداراتِ تِلك الهواجِس..؟

لا أعتقد بوجود كاتب لم يتأثر بعوالم طفولته، لأنها هي مؤسس حياته كلها.. وكلامك صحيح وتفسيرك مهم، فأنا فعلا طفولتي تسيطر علي وعلى كتابتي ، وتعبيرك بأن هناك “قلق من نحر البراءة” تعبير في محله، فالطفولة هي البراءة، والطفولة رحلت فماذا بقى؟ ولكن لا أرى أي عيب في موضوع وجود الذات في الكتابة ..لأنني ألاحظ هذه النغمة تتكرر عند البعض وكأنها نقيصة أو تهمة..وكيف ينفصل الكاتب عن ذاته..كل الأمر يتعلق بكيفية توظيف الكاتب لها بأسلوب أو آخر.

يتساءَل بعض النُّقّاد لم يدور الأدب العُماني في فلكِ الذّاتيّةِ والسّوداويّة..إذ يروا أنّ أغلبهُ ذو توجُّهِ رومانسي لُغةً وموضوعا من خِلالِ الانجرارِ للطُّفولةِ..الماضي..القرية .. الذّات ، فيما يُلحُّ عليّ تساؤلٌ آخر لمَ لا يُوجِدُ القاص حُلولا سرديّة في خضمِّ سردِهِ للقِصص ، إذ أنّه غالِبا ما يكتُبُ المُشكلات وينقُلها بطريقةٍ إبداعيّة تنمُّ عن فِكرٍ يُمكن لهُ أن يوجِد عِلاجا وإن كان خارِج سياقِ المألوف.. لمَ يعمدُ القاص “غالِبا” للنّهايات المألوفةِ .. أو يوقِفُ السّرد بتقنيّة حُسن التّخلُّص كـ ” أفقتُ من النّومِ” ، “لم يكُن إلّا كابوسا”…أو “..ومضى..”..؟
نعود إلى تعميم النقاد ومحاربتهم للذاتية في الكتابة..وأقول مرة أخرى مهما حاول الكاتب أن ينفصل عن ذاته أو عن طفولته فإنه لا يستطيع ، وحتى وإن حاول طرح كتابات بعيدة عن ذاته نجدها مختبئة بشكل ما في الشخصيات التي خلقها ويحركها كيفما يرى ويقتنع. أما السوداوية فهي ليست موجودة في الكتابات العمانية فقط فنجدها في معظم الكتابات العربية وتختلف طرق عرضها..وربما هي موجودة بشكل عام عند العرب بسبب أوضاعهم الإجتماعية والسياسية والاقتصادية المتشابهة. أما بشأن الشق الثاني من السؤال، فإن الكاتب الذي يسعى دائما إلى تطوير أدواته الكتابية نجده يطرح الحلول السردية (حسب تعبيرك)..ويسعى إلى التجريب المستمر ويهتم بغير المألوف ، ومن جهة الأدب فلا نريد حصره في تقديم مشكلات ونقلها بطريقة إبداعية فالأدب ليس مهمته عرض المشكلات ..الأدب وسيلة تعبير فنية قوية لها فعل السحر في الإنسان تنتشله من جهل الأدب وترسله إلى قمره المشع.. تكشف له عن خبايا وأسرار الحياة ..تنير له دروب جديدة ولا تنسيه دروبه القديمه. وفي نفس الوقت لا أريد أن أحول الأدب إلى “روشتة” علاج..لأن الأدب ليس منهجا تربويا أو طريقة أبوية لإعطاء النصائح والإرشادات. أما بالنسبة للنهايات المألوفة التي يعمد لها القاص فهناك العديد من الكتابات العمانية تخلصت منها..وطالما تبنى القاص التجريب والمغامرة الكتابية نجده يبتعد عن النهايات المألوفة..يبتعد عنها..بعيدا..

•يحدُث أن يتم تسليط الضّوء على نصٍ ما ، فيبرُز دون غيرِهِ ..أغلب الحوارات الّتي أُجريت معك كان التّركيز على هذا النّص كبيرا جدّا ، وفي إحداها سُئِلتَ عن “حبّاتُ البُرتقالِ المنتقاةِ بدقّةٍ” وسرِّ الاهتمام بِه من قِبل المُهتمِّين ، فكان جوابُك فيما معناهُ أنّك لا تُدرِك لم حاز هو دون غيرِه بذلِك الاهتمام .. في رأيِكَ هل يؤثِّر ذلِك على عِلاقة الكاتِب بنصِّه.. هل يُقرِّب رأيٌّ أو اهتمام نصٌّ_ في نظرِ كاتِبه بسيط _لنفسِ الكاتِب ، أو هل يستطيع رأيٌّ ما فِعل العكس..؟
هذا لا يؤثر أبدا على علاقتي بالنص.. وقصة حبات البرتقال كانت ضمن مجموعتي الأولى ..ودعيني أقول ضمن أوائل مغامراتي الجميلة في الكتابة والنشر.. وكنت أعتبر هذه القصة في ذاك الوقت من القصص البسيطة مقارنة بقصص أخرى -في نفس المجموعة- موغلة في الفنتازيا والخيال، ولكنها فاجأتني بشيء آخر ..والآن أجدها من أفضل قصص المجموعة، ولكن .. ومن خلال تجربتي في الكتابة..حينما أنشر قصة ورغم قناعتي بنشرها إلا انني أظل قلقا من ردة فعل القراء..وقد لا أتنبأ بشكل صحيح بما تفعله في نفوسهم بعد أن يقرأوها..وعموما آراء القراء متباينة ووجهات نظرهم مختلفة..فالقصة التي تبدو جيدة من وجهة نظر أحدهم قد لا تكون بنفس الرأي من آخرين.

عدنما نتأمّل العوالِم القصصيّة ليحيى المنذري تطلُّ هلينا كلمات : طِفل ، سرير ، طيور ، زُجاج ، باب مُغلق..إنسان مُعدم ..هل تؤمن بمقولة أن الكاتب تلحُّ عليه دائما نفس العوالم فيعيد كتابتها بطرق مختلفة من عمل أدبي الى آخر؟
قصص البشر والكائنات الحية وغير الحية تتشابه من مكان إلى مكان..ومن زمان إلى زمان..قصص غريبة نسمع عنها في عمان وربما نسمع شبيها لها في أمريكا..الإنسان هو الإنسان..يختلف عن غيره بمقدار المعرفة والبيئة التي يعيش فيها ..ولكن تظل سلوكياته متشابهه إلى حد كبير..وصفة الشر مثلا موجودة في كل مكان ..الفقر موجود..القتل موجود..وهكذا فليس من المستبعد قراءة نص لكاتب عماني يقترب من نص لكاتب من إستراليا..ولما لا..؟ هل إبتعدت عن سؤالك؟ عموما.. هل فعلا صحيح ما ذكرتيه من تكرار تلك الكلمات في عوالمي القصصية؟ ..بصراحة أنا لم أنتبه لذلك..وأحتاج أن أستخدم الطرق الإحصائية في ذلك..وإن كان ذلك صحيحا فلا أعتقد أنه يشكل خطرا علي..ولكن الذي لا أرغب فيه هو السقوط في فخ تكرار أسلوب السرد أو الأفكار..وهذا ما أتمنى أن لا يحدث.

•قسمت “بيت وحيد في الصحراء” إلى قسمين مختلفين تماما عن بعضهما البعض بحيث لو أن أيا منهما نُشِر في كتاب مستقل لاعتبر مجموعة بحد ذاتها .. كما أنك قسمتَ “الطيور الزجاجية” إلى ثلاثة أقسام .. لماذا تلجأ لمثل هذه التقسيمات ؟
نعم في مجموعة “بيت وحيد في الصحراء” نستطيع القول بأن القسمين مختلفين وقابلين للنشر في كتابين منفصلين .. وقد حاولت قبل نشر المجموعه أن اجتهد وأوسع القسم الثاني وأنشره منفصلا .. ولكنني فشلت في ذلك ولم استطع فارتأيت نشره مع الجزء الأول في كتاب واحد ، ولكن في المجموعة الأخيرة فإن الثلاثة أقسام كانت متصلة ومنفصلة في آن..يجمعهم رابط ربما يكون مخفي وسري وربما مكشوف..وهذا التقسيم كان تقنية قصدتها..فأنا انتظر أحد القراء أن يقوم بعملية الربط..أو أن يقول مثلا هذه القصص في هذا الكتاب كانت من الممكن أن تكون مشروع رواية .. أو لا يقول ذلك.. ولا يشعر بذلك ..بل يقول قصص منفصلة وليس لها رابط .. ولكن نعم..لاحظت وأيضا من خلال ملاحظات بعض القراء بأن ثلاث من مجموعاتي القصصية تحتوي على أقسام .. أظن عدا مجموعة رماد اللوحة.

•هل أثرت القضية التي رفعت عليك بسبب قصة “بيت وحيد في الصحراء” على رقيبك الداخلي فيما كتبتَه بعدها من قصص ؟
لا طبعا لم تؤثر على كتاباتي اللاحقة..وتلك القضية كانت سوء فهم من العائلة التي ظنت أنها المقصودة في النص..وهذا غير صحيح..وكما ذكرت آنفا بأن القصص تتشابه..والأشخاص يتشابهون..والأماكن أيضا ..وقد يجد القاريء شبيه له في قصة أو رواية وهو لا يعرف الكاتب ولم يلتقي به.

•“رماد اللوحة” بطلها رسام فقير معدم يرسم ظالميه ليمزقهم على الورق ، وقصة”من جدار أبيض الى جدار أسود” كتبتها بطريقة المشاهد السينمائية .. برأيك تداخل الفنون الابداعية هل يثري النص أم يشتته ؟
من المهم توظيف فنون أخرى في كتابة القصة أو الرواية أو الشعر..وهذا يثري النص ويزيده تشويقا ويوسع من معانيه ويعمق أبعاده..وكل ذلك يعتمد على مدى براعة الكاتب ..وعلى التوظيف الصحيح والمنطقي لهذه الفنون.. وأن لا يكون هذا التوظيف شكلي بدون روح وصدق..وغالبا ما نجد ذلك بدون تخطيط وبدون وعي..فمثلا ينساب فن المسرح ويدخل في القصة ويغنيها بحواراته التمثيلية..وهكذا فن السينما أو الفن التشكيلي.

•كثير من مجايليك من القاصِّين العمانيين جربوا كتابة الرِّواية ( كسالم آل تويه ومحمود الرّحبي ومحمد سيف الرّحبي) في حين مازلتَ أنت وبعد عشرين سنة من الكتابة تصدر مجموعات قصصيّة فقط .. ألم تُغازلك فكرة الرِّواية قط ؟ وهل تؤمن بمقولة زمن الرِّواية ؟
أقدم لهؤلاء التحية والتقدير..وبلا شك أحترم تجاربهم ..ولكن ليس بالضرورة أن أكتب رواية .. وقلت مرارا بأن كتابة الرواية ليست ترقية من عمل أدبي إلى آخر..القصة بحد ذاتها فن مستقل والرواية أيضا..إذن لماذا لا تطالبون الشاعر أو المسرحي بكتابة رواية..هل لأن القصة قصيرة ومع مرور السنوات ستكبر أو ستطول كما يقول البعض على سبيل المزاح؟ وقد طرح علي مرارا هذا السؤال ..وأسمع كآخرين عن زمن الرواية..وكان قبل ذلك زمن الشعر..ولكن ما رأيك بأن هذا الزمن هو زمن الثورات العربية أو زمن “الانترنت والفيس بوك”..وعموما أنا أعشق قراءة الرواية وأعتبرها فن صعب..وكتابتها تحتاج إلى وقت ونفس طويل..وربما حتى الآن لا أمتلك ذلك..وفي الجانب الآخر هناك بعض من كتاب الرواية يرون صعوبة في كتابة القصة القصيرة بسبب عنصر التكثيف فيها، وقد تجدين في بعض الأحيان قصة قصيرة تفعل فعل الإبداع والمتعة والجمال أكثر من خمس روايات..الموضوع في رأيي لا يقاس بطول النص أو نوعه بقدر ما يقاس من ناحية الإبداع الذي يمتلكه وتأثيره على القراء.

•جرّبتَ نقد قصص الشباب في بعض الملتقيات الأدبيّة .. ما الذي يجذبك عادة في نصٍ لكاتب/ة شاب/ة لتحكم أن هذا نصٌّ جيِّد ؟
بغض النظر عن أعمار الكتاب فالنص الجيد هو الذي يمتلك اللغة السلسة والشيقة والإسلوب السردي الممتع والمشوق..والفكرة غير المألوفة .. والأحداث المدهشة ..والنهاية غير المتوقعة .. وبعد قرائتي له يرسخ في ذهني.. وأشهق وأقول حينها: (يا سلام كم هو نص جميل..كم تمنيت كتابته).

الثلاثاء، 2 أغسطس 2011

الحرب الباردة بين الكاتب والمحرر الثقافي 2-2

الثلثاء, 02 أغسطس 2011
جريدة عمان-ملحق شرفات

تحقيق: هدى حمد

هنالك من لم تعد تغريه الكتابة في الصحف، واتجه إلى الكتابة عبر المدونات، وهنالك من يُرجع غيابه عن الكتابة لأسباب منها عدم جدية الملاحق وخلط السمين من موادها بالهزيل، كما يؤكد الأغلبية وجود “الشللية” التي تؤدي إلى تسديد كرة باتجاه ملعب آخر.. البعض يستاء من حكاية الرقيب لذا تصبح المواقع الالكترونية ملاذا آمنا من البتر، فيما يرى المحرر الثقافي تحامل الكُتاب، وترفعهم، كما أنّ مطالبة الصفحات الثقافية بالاكتفاء بالكاتب العماني هو ما يدفع لوضع مواد جيدة إلى جوار مواد سطحية، في ظل عدم الدفع للكتاب الكبار في الخارج..
هكذا نستكمل في هذا العدد من “شرفات” ما بدأناه في العدد السابق من استطلاع رأي الكتاب، ومحرري الصفحات الثقافية حول أسباب الغياب عن النشر في الملاحق والصفحات الثقافية، بالإضافة إلى الغياب عن حضور الفعاليات الثقافية، وترك المقاعد فارغة في أغلب الأمسيات


** بين الكاتب والمؤسسة!

يحكي لنا الكاتب والقاص محمود الرحبي عن معاناة الكتاب قائلا: "الكاتب حين ينتهي من كتابة مقال أو نصه الجديد يتصل بالمحرر ليطلب منه ويؤكد على عدم المساس بنصه "وليده" وعدم بتره فيتفاجأ بالبتر والتشويه سواء كان بالأخطاء أو الإخراج أو ما يفعله الرقيب!"
بينما تشعر الشاعرة والمشرفة على الصفحات الثقافية في جريدة الزمن بدرية الوهيبية أننا جميعا أمام قضية أكبر حجما، وتأثيرا ألا وهي قضية حرية الكتابة.. "فالمسؤولية والحرية المطلقة تضعنا على حافة الفوضى بين ما نعتقده ونطالب به كمثقفين وكتاب وبين مسؤوليتنا كصحفيين وقانون الصحافة والنشر.. أحيانا أشعر بالأسى لوضعنا بين إرضاء الكتاب وإرضاء المؤسسة الإعلامية".

**قررتُ مكافأة نفسي:

تعترف آمنه الربيع أنّه وبسبب الانخراط الكامل في العمل المدني فقدت حميمية تواصلها مع كائناتها الإبداعية الصغيرة "القراءة والكتابة" فهما المبتدأ والمنتهى عندها. "كان الانخراط نابعا من الشعور بالمسؤولية الوطنية والرغبة في التعرّف على مواطن القوة والضعف والتحمل الشخصاني، ومن ناحية أخرى كان لديّ شعور متماسك بفاعلية جمعية الكتّاب والأدباء، لكن على حد كلام سعدالله ونوس "حين يفقد الكاتب الإيمان النسبي بأنه قادر على التغيير فإنه يفقد الدافع للكتابة". ولا أظنني فقدت الدافع للكتابة، فقد أنهيت نصا إبداعيا، لكنني فقدت حميميتي، وصفاء الذهن". وتتابع الربيع قائلة: "لهذا قررتُ أن أحترم نفسي وأكافئها برحمة من عندي، فرأيت أنه لا بد من وقفة تأمل ومراجعة واختبار جديد للذات في ظل الصيغ المتغيرة التي أخذ الخطابان الاجتماعي والسياسي يفرزانها مؤخرا، من هنا شكليا لجأت لبرمجة الغياب، لكن على صعيد التفاعل أجدني متوفرة حسب الجديّة التي ننوء بحملها، سواء مع المؤسسة ضمن اشتغالات اللجنة بالنادي أو بمجلس الإدارة أو مع الأفراد".

** واقع المحرر الثقافي:

ومن وجهة نظر القاص يحيى المنذري هناك عدة عوامل قد تبعد المثقفين عن النشر في الملاحق.. "نحن نطمح بأن يكون للملاحق الثقافية دور فعال ومهم في الحركة الثقافية بالبلد، وهذا الدور لا يكون إلا بوجود المحررين الثقافيين الصادقين والمجدين في عملهم، أي الذين يطمحون في إنتاج ملحق ثقافي رزين وجاد ويستقطب أسماء بارزة. ونجد في بعض الأحيان ملحقا ثقافيا يجمع جميع فئات الكتاب الموهوب منهم وغير الموهوب، بمعنى آخر يقوم هذا الملحق بنشر كتابات سطحية وأخرى متوسطة وأخرى عميقة ومبدعة، وهذا النوع من الملاحق سيفقد الموهوبين تدريجيا، كما أن اهتمام بعض الملاحق الثقافية بنشر إعلانات كثيرة تكاد تغطي مساحات منها يقلل من جديتها، وأعود للمحرر المثقف والموهوب والذي يطمح في عمل ثقافي جاد، فهذا تجده يتواصل مع الكتاب بنفسه ويطلب منهم مواد للنشر، وربما يحاول استكتابهم بشكل اسبوعي ومنتظم، وتجده أول الحاضرين في الفعاليات الثقافية وآخر المغادرين، وتجد تغطياته الصحفية عميقة وناقلة لما دار في الفعالية، لأن هذا هو تخصصه وعمله، وليس محررا في جانب آخر كمجال الرياضة أو الاقتصاد. وهذه النوعية من المحررين هو من يستقطب أكبر عدد من الكتاب إذ يتبادل معهم احترام العمل الإبداعي".
وفي جانب آخر ومن خلال خبرة المنذري واطلاعه في السنوات العشرين الماضية على الملاحق الثقافية المحلية وحضوره الفعاليات الثقافية يقول "استطيع القول بأن معظم المحررين الثقافيين لكي يقوموا بتغطية فعالية ثقافية يحضر الواحد منهم قبل بداية الفعالية (أو ربما في نهايتها أو لا يحضر أبدا) ويسأل عن عنوان الأوراق التي سوف تقدم ويلتقي مع المحاضرين ليطلب منهم إن أمكن نسخ الأوراق أو المحاضرة، وطبعا سيبتهج إن حصل عليها، ثم يرحل حتى قبل بداية الفعالية، فهو ليس لديه وقت –كما يقول- ليحضر الفعالية من البداية وحتى النهاية. ومع الأسف الشديد فإن المشهد السابق يتكرر في معظم الفعاليات الثقافية منذ زمن بعيد، وهي تعكس حالة الوضع في بعض الملاحق الثقافية، فهذا عامل قوي من شأنه إبعاد الكتاب عن هذا المحرر والملحق في نفس الوقت".

** الرتابة سيدة الإبداع
وتجيب بدرية الوهيبية على مداخلة المنذري بقولها: "بسبب الاحباطات التي تواجه المحرر وبحثه عن الأقلام الجيدة يضطر إلى نشر مواد بسيطة ليست ذات عمق، أو إلى إعادة نشر بعض المواد من مواقع أخرى أو إلى نشر أخبار ثقافية ترسلها الوكالات، وبالتالي تنشر في معظم الصحف، أو يلجأ إلى البحث الشخصي عن استطلاع أو قضية تكرر الحديث عنها، أو طرح أسئلة عادية على المثقف لتحريضه على الكتابة والرد - حسب ما يقول الشاعر والمدون معاوية الرواحي- "ما ناقص إلا يسألوا عن: هل حلقت ذقنك اليوم أيها المثقف؟"، وغيرها من النتائج التي لا تخدم الأدب ولا الساحة ولا حتى المحرر أو الصحيفة مطلقا، فتصبح الرتابة سيدة الإبداع.

** زجاجة من نار:
ولدى يحيى المنذري إيمان قوي بأهمية الملاحق الثقافية، كما أنّ لديه تاريخا لا بأس به معها، "منها الجيد والمهم ومنها السيء، فأنا بدأت علاقتي بهذه الملاحق منذ الثمانينات من القرن الماضي، وتحديدا مع الملحق التابع لجريدة عمان.. فقد بدأت أرسل محاولات قصصية لتنشر في صفحة القراء بجريدة عمان، وكان هناك ملحق اسمه "عمان الثقافي" يصدر أسبوعيا مع الجريدة في يوم الخميس، وكنت انتظر إصداره بفارغ الصبر، وعند متابعتي للملحق اكتشفت بأن القصة التي أرسلتها إلى صفحة القراء نشرت في الملحق الثقافي، وكان عنوانها "زجاجة من نار"، وقد فرحتُ كثيرا. واعتبرت ذلك انجازا كبيرا وخطوة مهمة في مجال كتابتي للقصة، وقد نشرتُ معظم نصوص مجموعتي الأولى في ملحق عمان الثقافي. وعندما كنتُ أنتظر نشر أحد نصوصي كنتُ استيقظ باكرا واذهب لأشتري الملحق وافتحه لأجد نصي منشورا فاشعر بانتشاء وسعادة، وبعد ذلك أتلقى الملاحظات والتنويهات من الأصدقاء عن النص المنشور".
وترتبط آمنه الربيع بعلاقة ود بالنشر في الملاحق الثقافية من منطلق أنها كانت بوابة التعرف على الحياة الثقافية داخليا وفي خارج عمان، "حين أكتب أعرف أن هناك متلقيا موجودا بالأفق، سيقرأني وسيتأول المقروء حسب طاقته، لذلك حينما يستفزني الجمال (الرشيق والأنيق) في العمل الإبداعي (مسرح، نقد، موسيقي، طقطوقة، أهزوجة، رواية، قصة، سينما، لوحة) سأكتب عنه وسأدفع به إلى النشر".

** الملاحق وحكاية التغيير!

ويدخلنا المنذري في التفاصيل قائلا: "كان الملحق في ذلك الوقت نافذة مهمة –لم تكن هناك مجلة ثقافية فاعلة في الثمانينات وبداية التسعينات- نطل من خلالها على المشهد الأدبي في عمان ونقرأ من خلالها النصوص والمقالات الجديدة لمبدعين عمانيين وغير عمانيين. ومع مرور السنوات اختلف مسمى الملحق من "عمان الثقافي" الى ملحق "شرفات" والذي تطور إلى ملحق منفصل ومتصل عن الجريدة وأصبح متقدما في إخراجه الفني، ولكنه بعد ذلك دخل في متاهات إخراجيه وفنية فأصبحت تنشر فيه الإعلانات وتم مزجه مع أخبار فنية خفيفة ومنوعات وصور بأحجام كبيرة تملأ مساحة كبيرة من الصفحة، وأصبح اسم الكاتب مجرد نقطة في الصفحة. وكل هذا افقد شهيتي وربما شهية آخرين عن متابعته أو حتى النشر فيه، ولكنه فيما بعد تراجع عن ذلك وها هو في وضعه الحالي أصبح مهما ورجع إلى حالته بقوة، أما بالنسبة إلى جريدة الوطن فقديما كانت هناك صفحة ثقافية يومية ثم تحولت إلى ملحق، ثم اختفى الملحق ورجع إلى صفحة، وهكذا مع مرور السنوات حتى استقر إلى ملحق "اشرعة". كما احتفلت جريدة الشبيبة بتغيير وتطوير في شكلها وشعارها ولكن ملحقها الثقافي اختفى من الوجود وكأنه كان عبئا ثقيلا تخلصت منه الجريدة. ومع التطورات التي حصلت مؤخرا وإنشاء أسرة للقصة وجمعية للكتاب ظهرت ملاحق ثقافية مستقلة عن الصحف وأبرزها ملحقي أقاصي ونون، وهما ملحقان يحررهما بعض الكتاب الأصدقاء وبصفة دورية وبدون مقابل، ويعتمد ذلك فيما أظن على صفة الإخلاص الثقافي وإنشاء نافذة ثقافية مستقلة، وفي اعتقادي بأن هذين الملحقين نجحا إلى حد ما في دورهما الثقافي، ونجد بأن المحررين المتطوعين لهذين الملحقين هما أول الحاضرين في الفعاليات والأنشطة الثقافية..

** غيابي عنها مقصود:

فيما تخبرنا آمنه الربيع بصفة شخصية عن غيابها عن الكتابة في الملاحق الثقافية قائلة: "غيابي عنها مقصود لغاية توجيه كتابتي النقدية للمجلات النقدية المتخصصة والمحكّمة معا". وتتابع قائلة: "هذا الاشتغال يحتاج للتركيز والتكثيف على القراءة، كما أن هذا التوجيه يُضاف إلى السيرة الذاتية، ويُشعر المرء بالرضا الإيجابي المؤقت تجاه نفسه. أمّا الملاحق الثقافية فالقيمة العائدة منها على المشاركة تكون بلا جدوى كبيرة. فالعائد المعنوي متواضع جدّا، ربما يهاتفك شخص قرأ المادة ويريد أن يناقشك فيها، أو يبعث أحدهم برسالة قصيرة، وأمّا العائد المادي فلا "ناقة ولا جمل".
وتقول بدرية الوهيبية في موضوع الملاحق وتعددها، "أرى أن هذه الملاحق تتنافس لجذب الأقلام المهمة بين شرفات وأشرعة ونون فيضيع الكاتب في أيهم يُقدم عمله، وفي كل ملحق منهم لديه أصدقاء وعلاقات شخصية، ومعظمها يطالب بالقلم العماني مهما كان مستواه، لماذا لا يتم تجاوز الأمر ويطلق للصحفي مثلا البحث عن مثقفين عبر الالتقاء بهم خارج المشاركات المحلية الدورية ومعرفة أخبارهم ولقائهم، وطبعا بعضهم سيطلب مقابلا ماديا ولكن لا بأس إن قامت مؤسسة صحفية مدعومة بهذا الشأن وترسل صحفييها لمدة أسبوع إلى الدول العربية والغربية للبحث عن المثقف الأهم . قد تعاني الملاحق فعلا من غياب الأقلام ومعاناة ملء الصفحات الثقافية وتسبب ضغطا كبيرا للمحرر لكنها أمور مؤقتة تعتمد على أوضاع الكتابة واللحظة وعلى الجمود الفكري المؤقت الذي يعاني منه معظمهم. بينما لا يتوقع المشرف على الصفحات الثقافية في جريدة الشبيبة الشاعر خميس السلطي أنّ تعدد الملاحق الثقافية في السلطنة له دور في هذا الجانب، "على العكس تماما إنّ هذا التنوع العددي يوجد التواصل والثراء الفكري، ويجب ألا أعفي المثقف في نهاية المطاف من وجود ظاهرة الغياب"، وينصح يحيى المنذري، في حال إن وجد توجه جاد من أي جريدة بإنشاء ملحق ثقافي فلا بد أن يكون ملحقا مهما، فذلك من شأنه أن يستقطب الكتاب ويشجعهم على الكتابة.

** التنظيم واختيار الوقت:

وفيما يتعلق بالشق الثاني من تساؤلنا.. ذلك المتعلق بالغياب عن حضور الفعاليات الثقافية قال يحيى المنذري: "التغطية الإعلامية لها دور في دعوة المثقفين وإعلامهم بالفعاليات الثقافية، وهذا من مسؤولية الجهة التي تنظم الفعاليات وتنسق مع الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، وكلما كان التنظيم جادا ومخططا له بشكل صحيح كان الجميع يتسابقون للحضور، وكلما كانت المؤسسة الراعية للفعالية تعتمد في التنظيم على مثقفين جادين وملتزمين كانت فعالياتها ناجحة وتستقطب أكبر عدد من الحضور. وبعض الفعاليات تعتمد على الأسماء المدعوة لإلقاء المحاضرة أو الأمسية أو غيرها والجميع يتذكر مثلا عدد الحضور في أمسيات أحياها شعراء مثل نزار قباني ومحمد الماغوط وغيرهما. كما أن موعد ووقت الفعالية مهم جدا، فبعض الأحيان يتصادف إقامة ثلاث فعاليات لثلاث مؤسسات مختلفة في نفس الوقت فيتوزع الحضور والذي هو من الأساس قليل. والمثقف الجاد هو من يحضر الفعالية لأجل الاستفادة والمعرفة، وهذا كما ذكرت يعتمد على عمق الفعالية، أما إن حضر لأجل المجاملة فهذا شأنه وربما له وجهة نظر في عدم حضوره للفعاليات الأخرى". بينما تختصر آمنه الربيع الأمر بقولها: "على المرء أن يُحدد في النهاية ماذا يُريد؟! " إذا كان باغي يحضر للفعالية أو لا".

** ظهور المدونات
وعن أثر ظهور المدونات على النشر الورقي قالت آمنه الربيع: "اكتسى المجال ظهور أصوات ضعيفة ودخيلة بعضها ينعق كالغربان والأخرى تنعب كنعيب البوم، أثّرت هذه الأصوات على جيل آخذ في التكوين، جيل من الكاتبات والكتّاب والفنانين التشكيليين تعرفت عليهم عبر المدونات أو الإيميل، تحمستُ لهم ولكنهم متأثرون بالصنمية والأبوية".
ويؤكد يحيى المنذري أنّ ظهور المدونات لها دور في ندرة النشر الورقي، فالنشر في المدونات بدون رقابة، فالكاتب هو المسؤول عن ما ينشر، بينما الصحافة لم تتخلص بعد من فرض الرقابة على المواد التي ستنشر وفق معاييرها، كما أن المدونة أسرع من الصحافة في النشر، والمدونة تصل إلى قراء في جميع أنحاء العالم، بينما الصحافة يقتصر نشرها في حدود البلد. ويشير المنذري إلى أن الصحف هي الأخرى بدأت عملية النشر الالكتروني وذلك من أجل أن تصل إلى قراء من جميع أنحاء العالم عن طريق الإنترنت، وهذا ما نلاحظه في صحفنا المحلية الآن. وتضيف آمنه الربيع قائلة: "لدينا اليوم جيل قراء من الشباب يكتبون في المدونات وبنظرة مستقبلية متفائلة أظنهم سيحققون ثباتا متقدما، لأنهم يكتبون بلغة العصر، ولا يتعرضون كما تعرضنا لأساليب المحق مع الرقابة، لكن لنحذر برغم أن المؤسسة الرسمية لا تخيف، وأيضا المثقف، لكن السلطة خبيرة في تأويل المجاز".

** "الشللية" والملعب الآخر:
وحول مسألة إن كانت الشللية تلعب دورا في مسألة النشر أم لا فقد شاركنا يحيى المنذري بقوله: "إذا كان هذا موجودا حقا فالمسؤول عنه هو المحرر الثقافي، والمحرر الذكي والموهوب هو من يستطيع أن يتخلص من هذه التهمة ويستقطب مختلف شرائح الكتاب بشرط أن لا يفقد عمق وجدية المادة التي سوف ينشرها"، بينما الشللية لدى المثقفين من وجهة نظر خميس السلطي هي "واقع لا نستطيع التخلص منه "، وتشاطره بدرية الوهيبية الرأي قائلة: "نعم الشللية موجودة في كل المجالات"، وذكرت لنا الوهيبية مثالا في مجال الصحافة.. فالصحفي يركض ويلهث مقابل أن يحصل على سبق صحفي من الكاتب إلا أنه لا يحصل عليه، وذلك ومن وجهة نظرها: "لسبب حقيقي وموجود وهو العلاقات الشخصية التي تكون دائما لصالح المحرر الذي يجلس في مكتبه يتمتع ببرد المكيفات ومحادثات الكترونية وغيرها".
و"الشللية" في تقدير آمنه الربيع لعبت تأثيرا واضحا لتخييب الآمال المرجوة، "الشللية ليست وليدة أحداث معينة أو متأخرة، بل قديمة، لكنها كانت خاملة. خمولها سانده وجود تكتل من الكتّاب المبدعين المتحققين والمستنيرين جنبا إلى جنب، فكانت الشللية السلبية تتراجع حتى تختفي، ولكن ولمجرّد حدوث شرخ أو تسديد كرة باتجاه ملعب آخر، نجد أنّ ما كان خاملا أخذ يتحرك وينمو ويكبر ويتصاعد.


الحرب الباردة بين الكاتب والمحرر الثقافي 1-2

الثلثاء, 26 يوليو 2011
جريدة عمان-ملحق شرفات

تحقيق - هدى حمد

كان هنالك سؤال يهمنا.. توجهنا به إلى عدد من الكتاب والمهتمين بالشأن الثقافي في البلد، وأيضا إلى عدد من الصحفيين الذين يشتركون معنا في التساؤل حول غياب الكاتب عن الكتابة في الملاحق والصفحات الثقافية. فهنالك عزوف عن المشاركة الكتابية، وعزوف عن حضور الفعاليات الثقافية، ونحن نحاول في هذا العدد من شرفات والعدد الذي يليه أن نطرح عدة محاور تنصب في هذه القضية.. قد نظن في البداية أن الكاتب متوقف قليلا عن الكتابة، ولكننا ما نلبث أن نكتشف أنّ له مجموعة شعرية أو قصصية جديدة، ونسبة كبيرة من نصوصها لم تنشر من قبل – وبالتأكيد هذا خيار شخصي- ولكنه مؤشر يشير إلى أن الكاتب يكتب، إلا أنه لا يفضل النشر في الملاحق!
وإذا افترضنا جدلا أنّ الكاتب لم يكتب شيئا جديدا من الشعر أو القصص.. ترى ألا تستثيره الحياة ومجرياتها ليكتب شيئا آخر.. كأن يكتب مثلا عن فيلم شاهده في السينما أو عن قضية ما لفتت انتباهه، عن كتاب قرأه وأحبه.. فهذا الشكل الآخر من الكتابة لا يكتبه إلا القلة القليلة؟ ترى هل يلعب الأجر أو المقابل المادي دورا في المشاركة من عدمها؟
الغياب ليس فقط عن الكتابة، وإنما أيضا عن حضور الفعاليات الثقافية فغالبا ما تكون المقاعد فارغة.. وغالبا ما يقتصر الحضور على من تربطه علاقة بصاحب الفعالية.. وثمة دائما عذر واحد ويتيم وهو غياب التغطية الإعلامية..هل ترى ذلك سببا حقيقيا؟ هل ثمة علاقة طردية بين ظهور المدونات وغياب النشر الورقي؟ أم أنّ التهمة التي تلاحق الملاحق الثقافية بصفة دائمة ستظل قائمة.. ألا وهي تهمة “الشللية”.. فلا يكتب ولا ينشر إلا لأسماء تتكرر دائما؟

**لا تقولوا للمغني غني

تفاجئنا الكاتبة آمنه ربيع بقولها: "لا أعرف لماذا تصرّون على تحويل كل شيء إمّا إلى أزمة أو قضية!! أنتم تبحثون عن أجوبة غير شافية! فليس مطلوبا أن يحضر الكاتب جميع الفعاليات وينشر في كل الملاحق". وتتابع قائلة: في ظفار هناك مَثل شعبي دال يقول: "لا تقولوا للمغني غني حتى يغني المغني من راسه". وترى الربيع أنّ الملاحق الثقافية مجبرة على إثارة القضايا الثقافية في الملاحق المعنية، لأن وظيفة الملحق الثقافي مثل البرامج الإذاعية والتلفزيونية الثقافية..وظيفتها استيعاب كل الأصوات والاتجاهات. وتضيف: "هذه مسؤوليتكم العامة، وربما هذا ما أحاول التخلّص منه". بينما يبدو الكاتب خالد عثمان أكثر جدية وعتبا وهو يقول: "من العيب في عرفنا العماني أن يذهب الكاتب العماني إلى مقر جريدة أو مجلة محلية وهو يتأبط الصفحة التي فيها قصته/ قصيدته/ مقالته مطالبا مقابلها ريالات محددة سلفا أو أن يتصل بالمحرر سائلا عن سعر المادة المنشورة أو متى سيجد في حسابه البنكي المصفر مقابل ما نشر أو كم تعطوني إذا نشرت عندكم؟" ويتابع قائلا: فوق هذا العيب الفاضح سيجد في اليوم التالي عمودا رخاميا يقول فيه المحرر "إياك أعني واسمعي يا جارة" فيجر قلمه على هؤلاء الكتاب الذين يتعاملون مع الأدب بمنطق المال والمكسب والتجارة، ويظل يصرخ إلى آخر قطرة حبر في قلمه الجاف حتى يثبت لك بالأدلة والبراهين الدامغة بأنك كاتب متسول ومادي بحت.. تداعبه بنكتة برنارد شو حين سأله كاتب مغرور: لماذا تكتب يا شو؟ فقال أنا أكتب من أجل المال، ثم سأله برنارد: وأنت لماذا تكتب،؟ فقال المغرور: أنا أكتب من أجل الشرف، فرد عليه برنارد: كل يكتب من أجل شيء يفقده". بينما لا يستطيع يحيى المنذري أن يعمم هذا الظن، لذا قرر أن يكلملنا عن تجربته في هذا الجانب، "الكل يعرف بأنني مقل في الكتابة، فمجموعتي القصصية الأخيرة "الطيور الزجاجية" كتبت خلال ثمان سنوات، واحتوت على خمسة عشر نصا، وبعضها نشر والبعض الآخر لم ينشر، وكما قلتِ ليس من الضروري أن أنشر كل ما تحتويه المجموعة إذ أن هذا خيار شخصي.

** ليس لملء الفراغ

يرى الكاتب والقاص محمود الرحبي أنّ الغياب والعزوف والتقوقع والتلاشي هي مترادفات تُطلق كثيرا على حال المبدع العماني في حقل الآداب والعلوم الإنسانية، وهو الحقل الأكثر بروزا وسطوعا وحركة واعتمالا ونشاطا في حياتنا المعرفية، ويرى الرحبي أنّ أسبابا كثيرة تقف وراء ذلك وأهم هذه الأسباب يعود إلى "إبعاد" المثقف حتى من صياغة القرار الثقافي، والذي يعنيه بالأساس، والزج بعناصر من خارجه لإدارته من "أنصاف مثقفين، أو متطفلين على المشهد الثقافي.. الخ" وإبرازهم لإدارة الحياة الثقافية في عمان..
الشاعرة والمشرفة على الصفحات الثقافية في جريدة الزمن تُصف مع فعل الكتابة والكُتاب، "هذه هي النقطة التي تهمنا كمشتغلين على هذا الفعل، وليس كمحررين همنا الأول هو ملء مساحات الفراغ بصفحاتنا". المتابع للصفحات الثقافية في جريدة الشبيبة خميس السلطي، تصور أنّ الأحداث الأخيرة التي ظهرت في السلطنة والتي أحدثت تغيرات على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، كانت من بين الأسباب الرئيسة التي أوجدت هوّة واضحة بين المثقف العماني وبين الجهات الإعلامية المعنية بالأمر، "لو عدنا إلى بدايات الاعتصامات والمطالبات بتحسين ظروف وأوضاع الفرد والمجمتع العماني، سنرى أن معظم مثقفي السلطنة كانوا ضمن المطالبين بالتغيير والإصلاح، مهما تغيرت توجهاتهم أو تباينت أفكارهم، والصدمة التي أوجدت هذه الهوة هي أن أغلب الجهات الإعلامية لم تكن بدرجة الطموح التي كان يتمناها المثقف حسب تصوره، فهو يرى أنّ الجهات الإعلامية عامة كانت مضللة لنقل الوقائع والصور، بعيدة عن حديث الشارع وبيان المثقف، كما أن هناك بعض المثقفين وحسب ما تتبعنا دخلوا في حلقة شائكة مع بعض الجهات ذات الاختصاص، وربما خروجهم أيضا من هذه الحلقة أوجد لديهم فارق في التعامل مع الإعلام عامة".

** قناعة عدم إلقاء اللوم:

في السابق كان يشغل ذهن آمنة الربيع هذا الهاجس.. لماذا الغياب؟! "شغلني الهاجس من واقع انخراطي في الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء، وحاليا في لجنة الأدب والإبداع بالنادي الثقافي.. ثم وصلت إلى قناعة عدم إلقاء اللوم على المؤسسة، وتصالحتُ مع هذا الأمر. لذلك أخذ الاهتمام بالهاجس يتراجع ويقلّ، ولهذا أسبابه الموضوعية على الأقل كما أراها عندي تتمثل في انشغالي بالتركيز على مشاريعي الإبداعية الصغيرة، كالدراسة الأكاديمية والنقد المتخصص وإبداع النص الدرامي". بينما وصف السلطي الواقع الثقافي العماني بالراكد، إلا ما رحم ربنا، "رغم التنوع الثقافي والأدبي الثري في السلطنة، إلا أن الجهات الرسمية المعنية لم تقم بواجبها على أكمل وجه، ففعالياتنا ومهرجاناتنا الثقافية والفنية دائما ما تكون في قفص الاتهام، فهي غالبا ما تأتي وتنتهي بالفشل في الجانب التنظيمي، الرد الجاهز دائما: "إنّ الموازنات المادية لا تكفي لأن يخرج المهرجان الثقافي أو الفني بنجاح"، ويضيف السلطي قائلا: "الأمر لا يزال يشكل ربكة لكل مثقف عماني، لهذا ابتعد المثقف عن الثقافة والإعلام بصورة خاصة".

** المؤسسة وزمام المال

ويعقد محمود الرحبي مقارنة لواقع حال المبدع إلى جوار اللاعب قائلا: "ما يعيشه أي لاعب متميز من اهتمام وبروز، يوازي في الميزان ما يعيشه المبدع العماني من تهميش وجحود". ويتابع مضيفا: "هنا لا نتحدث عن أفراد أو حالات، وإنما الحديث دائما عن وضع كيان ثقافي وخطط ثقافية.. فلنتصور مثلا عدم وجود مهرجان ثقافي في بلد عريق وراسخ كعمان، أعني مهرجان ثقافي صرف على غرار مهرجان المربد وقرطاج وأصيلة والقرين والجنادرية .. الخ، وغياب كذلك جوائز وطنية أدبية ونقدية. فغياب كل ذلك وما سواه يعني بالتأكيد غياب الفعاليات وغياب الحضور -حضور المثقف- وبالتأكيد يعني الغياب، العزوف، التقوقع والتلاشي.. فهل كل هذا مقصود في ذاته يا ترى؟ من هنا يجب أن يبدأ السؤال. خاصة ونحن نعلم يقينا بأن المؤسسة الرسمية هي من يمسك بزمام المال والقرار في بلادنا. بينما ترى آمنة الربيع أنّ للعزوف ما يبرره حسب وجهة نظر كل مبدع يرتئيها، ولا يجب إلقاء اللوم باستمرار على المؤسسة، "من واقع تجربتي المتواضعة رأيت أن المبدع قادر أن يُقيم علاقة سلبية أو جيدة، ضعيفة أو حسنة بالمؤسسة السياسية أو المدنية، من دون التضحية بما يملك من استقلالية في الرأي، ولديه المسؤولية الكاملة في اتخاذ القرار الذي يراه مناسبا".

** العصامي يصنع مجده

ويؤكد محمود الرحبي على أن الكاتب مبعد تماما عن إدارة الشأن الثقافي، وحتى وإن وجد فإن شروطا كثيرة تطوق رقبته، الأمر الذي ينفره من تفعيل أي شيء فيه. والأمثلة والأسماء كثيرة في هذا المجال وسيرد ذكرها في حينها لو اتقضى الحال.. "هذا الأمر ولد مع الوقت نوعا من العناد والتحارب البارد بين المؤسسات الثقافية - على قلتها وشحة مواردها- وبين الكاتب المتحقق والشغول. سأذكر مثالا عابرا هنا، ميزانية النادي بفعالياته وأنشطته هي مائة ألف ريال فقط حسب علمي، بينما تمّ الإعداد لندوة عابرة استمرت ثلاثة أيام حيث رصد لها قرابة الثلاثمائة ألف ريال."وليفد ما لم يقل" كما قال جدنا الجاحظ. لذلك ظل المبدع العماني -وخاصة المبدع في حقول الأدب- عصاميا بامتياز. وإذا تحقق وخرج اسمه وشاع فإن الفضل الأول والأخير يرجع إليه وحده. ويرى يحيى المنذري من خلال الاطلاع على مسيرة الملاحق والصفحات الثقافية خلال السنوات التي مضت أن قوة الملحق الثقافي تعتمد على صدق وثقافة المحرر، فكلما كان المحرر عميق الثقافة والموهبة وصادقا في عمله كان الملحق قويا من حيث مواده وإخراجه الفني وكان أيضا يشكل مساحة تجذب الكتّاب. وبما أن الصحف المحلية قليلة في البلد فإن الملاحق الثقافية قليلة، وبعض الصحف ليس لديها ملحق وإنما تعتمد على صفحة أو صفحتين في الداخل.

** المال والخطط المتخبطة

الجانب المادي بالنسبة لـ يحيى المنذري هو عامل مهم في استقطاب الكتّاب إلى جانب عوامل أخرى، "بعض الصحف تريد مادة كتابية فقط، ولا تريد أن تدفع مقابلا مجزيا للكاتب، وربما في بعض الأحيان تقول له يكفي بأن أنشر لك، وهي –الصحيفة- لا تفكر أبدا بأنها تجني أرباحا، ولا تنتبه إلى أن مادة ذلك الكاتب ساهمت في تلك الأرباح، ونحن نعرف بأن هناك بلدانا تُقدم احتراما كبيرا لوقت الكاتب، فتعطيه أجرا مجزيا على كتابته، لأن الكتابة عمل، والإبداع عمل، فبإمكان الكاتب عدم نشر إبداعاته في الصحف وسينشرها في كتاب يحمل اسمه لاحقا. وسابقا كتبت مقالا نشر في ملحق شرفات تحدثت فيه عن قيمة الكاتب العماني وتساءلتُ عن مدى تقدير الصحف المحلية للقلم العماني.. وأن أقصى ثمن للمكافأة يمكن أن تقدمها صحيفة أو مجلة محلية للعمود أو المقال أو القصة لا يتجاوز الثلاثين ريالا.. وما زلتُ عند رأيي، وأؤكد بأن عامل المقابل المادي مهم وعدم وجوده أو بخسه يساهم في ابتعاد الكاتب العماني عن الكتابة في الملاحق الثقافية".
ويرى محمود الرحبي أن المقابل المادي هو حق مشروع بل وتكريم للجهد والوقت والعذابات التي يدخل بها الكاتب لحظة كتابته.."ألا يستحق الكاتب التكريم؟"، ويتابع الرحبي قائلا: "ما نفعله هو الدفع للأقلام العربية المستأجرة والتي أجد الغث والتكرار في معظم ما يتناولونه حتى وإن كانت أسماء معروفة. وحكت لنا آمنة الربيع ما دار في إحدى الجلسات التي جمعت عددا من الكتّاب حيث تلفّظ أحد المسؤولين بفجاجة قائلا: "يكفي الملاحق والصحف أنّها تنشر لهؤولاء الكتّاب وكمان يبغوا مكافأة"!!! هذا كلام لا يصدر إلاّ عن ثقافة كُرست فضيلة المن والعطايا والهبات، وللأسف يُدرك المرء المنخرط في الثقافة بشكل عام أن تغيير هذه العقلية صعب كثيرا لأنها شكلّت نسقا راكمه أفكار ضعيفة وسلوكيات متعجرفة، بينما يؤكد خالد عثمان على ضرورة إعطاء الكاتب حقه قبل أن يجف قلمه، وتجف الصحف عن الإبداع.. "إن أول أسباب العزوف عن النشر في الملاحق الثقافية هو تلكؤ الجريدة في دفع أجر كاتب لأسباب واهية، والسبب الآخر هو تواضع هذا الأجر حيث لا يتعدى 10 ريالات للقصة/ الشعر، و20 ريالا للمقال.. هل هذا التعامل السلحفائي يثري الأدب ويرفعه؟ لو صرفت هذه الملاحق أجور الكتّاب بعد أسبوع من نشر المادة لوجدت عندها العشرات من المواد الإبداعية الراقية، ولما وسعت صفحاتها لها، ولكن الكسل يولد الكسل والشح يولد الشح والجفاف والركود والتراجع إلى ما بعد الصفر وإلى المربعات والنقاشات البيزنطية العقيمة، نقاش البيضة والدجاجة، كما إن هذه الملاحق في كل مرة تجدد قديمها دون أن تتطور في كل مرة تدور في الساقية نفسها، وجديدها قديم وقديمها جديد.. منذ أربعين السنة وأسئلة الأدب في عمان هي هي، لأننا لم نتجاوز أنفسنا، نبتعد عن الحقيقة دون ملامستها. الأدب برمته أول مشكلاته في عمان هو الدعم المالي وثانيها الاستراتيجيات المتخبطة والفوضوية وغياب الداعم الجاد والحقيقي له".

** خيبات ومواقف لا تنسى!

من جهة أخرى حدثتنا بدرية الوهيبية عن كم الاحباطات والخيبات التي قد يواجهها محرر الصفحات الثقافية، وقد ذكرت لنا مثالا حصل معها: "قمتُ باستطلاع استطلع فيه آراء المثقفين في شيء معين، وقد تفاجأتُ من أحد الكتّاب.. الكاتب يُرسل لي رأيا بعيدا عما طلبناه ودخل في مناطق يُدرك صعوبة نشرها، ويدرك أنها لا تمت للموضوع بصلة فكان من باب أولى عدم نشر رأيه لسبب رئيسي لأنه ليس المطلوب والسبب الآخر ما زال معلقا في عنق حرية الصحافة المسؤولة، فاتصل يؤنبني لماذا لم ينشر رأيه وأنه عار علينا كمثقفين أن نغتال الكلمة والحرية، فشعرتُ أنّه كان يريد الإيقاع بنا لا أكثر حسب نظرية المؤامرة.. البعض يشعرك بذلك فعلا.. هذا وأمثاله أقسم بعدم النشر في صحافتنا واتجه إلى المواقع الالكترونية والمدونات وهو حر في ذلك".
خميس السلطي أخبرنا أنه لن ينسَ تلك العبارة التي قالها أحد الزملاء المثقفين عندما أراد أن يجري معه حوارا حول ما يجري من أحداث، وقتها ردّ عليه غاضبا: "يجب ألا نتعامل مع أي صحيفة في عُمان، أنتم مضللون وغير صادقين مع أنفسكم ومن الأجدر أن نقاطع صحفكم المطبلة في نقلها للوقائع".. هذه العبارة لا تزال عالقة في مسامع السلطي إلى اليوم