الأحد، 20 ديسمبر 2009

اضاءات حول نصوص بعض أعضاء جماعة الخليل بن أحمد الفراهيدي للأدب بجامعة السلطان قابوس

تم نشر هذه الاضاءات في ملحق أقاصي المنشور بجريدة الشبيبة بتاريخ 20ديسمبر2009



يحيى سلام المنذري


نظمت لجنة النثر التابعة لجماعة الخليل بن أحمد الفراهيدي للأدب جلسة قصصية في يوم الثلاثاء بتاريخ 17 نوفمبر 2009 قرأ خلالها ثلاثة من طلبة الجامعة نصوصا قصصية وهذه إضاءات نقدية حول القصص.

"لا يوجد شعب لا في الماضي ولا في الحاضر، ولا في أي مكان من غير قصة". الناقد الفرنسي رولان بارت
-----------------------------------------
الحكايات كثيرة في حياتنا ، والقصة تستمد قيمتها من صدق الكاتب نحو قضايا تمسه وتلامس من حوله، والكاتب يقص على الورق حكايته القصيرة أوحكاية ما حوله أو حكاية شعب أو تاريخ، يعبر عنها بإسلوب فني غير مباشر عن مشهد مكثف مجتزأ من عمق الحياة يحتوي على شخصية أو أكثر ॥ هذه الشخصية قد تكون إنسانا أو مجموعة من الناس أوكائنا حيا آخر أوجمادا॥يعبر عنها في حالة ॥أو رؤية ذاتية أو غير ذاتية ॥ أو من خلال فلسفة قضية ما في ثنايا حكاية॥في الواقع ..أو الإسطورة ..أو الخيال । أو الخرافة ، وكل ذلك في نصف صفحة أو أكثر، إنها قطعة أدبية فنية تصنف على أنها قصة قصيرة। والقصة القصيرة الناجحة من وجهة نظري هي التي تحتوي على فكرة غير مألوفة عبر لغة سلسة وأحداث مشوقة قد تكون واقعية أو غرائبية تسلب لب القاريء من البداية وحتى النهاية بحيث ترسخ في ذاكرته مشعة بأحداثها ونهايتها، هي التي تدهشه وتجعله يقول كم تمنيت أن أكتب كهذه القصة أو يقول ياه هذا ما كنت أريد قوله أو كتابته. ونحن اليوم أمام ثلاث قصص قصيرة لكاتبتين وكاتب : قصة "مجرد وهم" للكاتبة نوف السعيدي، وقصة "مدعي الجنون" للكاتبة رحمة الحراصي وقصة "رسالة إلى الشمس" للكاتب أحمد الحجيري، وقد إختلفت القصص الثلاث في الإسلوب والأفكار وحاولت تقديم كتابة إبداعية بعيدا عن أساليب التهويم والتهويل في الكتابة وكل نص يختلف في مستواه الفني عن الآخر، وبحق فإن هذه الكتابات تنم عن مواهب سيكون لها شأن إذا ما تم الاشتغال على تطويرها بالقراءة والاطلاع والكتابة المستمرة وعدم ربطها فقط بأيام الدراسة في الجامعة وعلى أنها مجرد نشاط في وقته وقابل للإختفاء بعد التخرج، بل يجب أن تكون الكتابة بمختلف أنواعها (قصة ورواية ومقال وشعر وبحث) مشروع حياة لأنها عمل إبداعي يعبر عن الكاتب والشعوب وقضاياهم وهي في غاية الأهمية.
***
قصة "مجرد وهم": قصة فتاة تحمل منذ طفولتها شبح وهم وهو أن ثمة من يراقبها، تولّد عندها -حسب ما ورد في القصة- منذ أن كانت أمها تراقبها وهي طفلة خوفا عليها من الأشياء المؤذية، ظل هذا الوهم يتبعها حتى بعد المراهقة ، لكن كيف عبرت الكاتبة عن كل ذلك؟ القصة اقتربت من التكثيف والتركيز على عنصر الوهم الذي يرافق الفتاة، وقد تم فضحه من العنوان (مجرد وهم) وهذا أفقد القصة عنصر المفاجأة ، إضافة إلى أن الفقرة الأولى التي استفتحت الكاتبة بها القصة أدت نفس مهمة العنوان وهو كشف خبايا القصة وخاصة في عبارة (دائما ما كنت أشعر بهم يراقبونني، ثم اكتشفت أني واهمة) ، هنا تُكتشف فكرة القصة وفكرة الوهم ، ولكن رغم ذلك فإن الكاتبة آثرت بأن ترمي عنصرا آخرا أو شبكة تشويق للقاريء حينما كتبت: (غير أن الأمر جدي هذه المرة ، إنهم في كل مكان، لا أستطيع التحرك خطوة بعد، إنهم يتبعونني مذ ذلك اليوم..هم لا يرتدون البدلات السوداء حتى لا أكتشفهم) هذه العبارة أضفت على الحكاية نوعا من الغرابة هو مفتاح يجب أن يستلمه القاري ليتوجه ويبحث عن قفل الحكاية ليفتحه ويعرف ما سر هؤلاء أصحاب الملابس السوداء. لكننا لا نقرأ عنهم سوى في الفقرة الأخيرة من القصة وكأنهم يرمزون للرقابة المستمرة وأن كل ما مرت به الفتاة ليس وهما أو ربما تريد أن تقول إن الذي كان وهما أصبح حقيقة الآن. وبين الفقرتين الأولى والأخيرة تبدأ حكاية ظهور واستمرار الوهم من خلال قصة طريفة للفتاة وهي في مرحلة الطفولة وقصة أخرى في فترة المراهقة ، القصة التي وردت في مرحلة الطفولة كانت بحق جميلة ونجحت الكاتبة في التعبير عنها فاللغة كانت رشيقة وابتعدت إلى حد ما عن المباشرة وكان الإسلوب مشوقا والفكرة غير مألوفة ، كما نجحت في صياغة الحوارات بين الأم والطفلة وبين المعلمة والطفلة، أما القصة التي وردت في فترة المراهقة كادت تقترب من نفس عناصر الأولى لولا أنها وقعت في إسلوب تقريري في الجزء الأخير الذي تفاجأنا فيه بإكتشافها أن كل ما مرت به ليس سوى حالات من الوساوس وذلك بسبب وقوعها في مرحلة النضج وابتعادها عن المراهقة، والكاتبة كان بإمكانها التعبير عن هذه الفكرة بأسلوب أفضل.
***
قصة "مدعي الجنون": وفقت الكاتبة حينما بدأت القصة بجملة حوارية على لسان الأم .. ((إسبقيني إلى الخارج)) .. هنا ترمي الكاتبة عنصر التشويق ، ليكتشف القاريء بعدها أن الحكاية ستكون عبارة عن مشهد مجتزأ عند الباب ، المشهد في داخل البيت يتمثل في شخصية الأم والفتاة الساردة، وفي خارج البيت يتمثل في شخصية القصة الرئيسية وهي المجنون سعد أوسعدون ، حيث يدور حوار بين شخصية الأم وبين سعدون ، بينما الساردة تصف المشهد بمشاعرها العفوية والتي تقترب من المشاعر الطفولية، بدأت القصة محكمة فنيا حيث أحتوت على التشويق والوصف للشخصيات والحدث والحوار، وما إلى ذلك من عناصر الحكاية ، إلا أنها بعد ذلك تعثرت في التحدث عن شخصية المجنون بشكل مباشر وتقريري، وكيف أنه كان في المدرسة وكيف أصبح في الصف التاسع ، والتحدث عن عبقريته المختبئة وراء جنونه ، بدون إشتغال واضح على عملية السرد القصصي المشوق وكأنه بيان يجب أن نعرفه عن المجنون في نهاية القصة. أما من ناحية الفكرة فإنها -في رأي- مألوفة بعض الشيء فالحكايات التي تتحدث عن هذه الشخصيات كثيرة ومتكررة ولكن كان بالإمكان التعبير عنها بإسلوب غير مألوف مثل التركيز على نفسية المجنون وسرد أحداث غريبة عنه. وكتابة القصة تحتاج إلى إشتغال فني ومجهود في التعبير عن الأحداث والشخصيات حتى وإن كتبت في خمسة أسطر، فعالم القصة القصيرة قد يكون مكثفا ولكن يجب أن يكون عميقا وقد يتحدث عن أشياء كثيرة.
***
قصة "رسالة إلى الشمس": هذا هو العنوان الوحيد بين النصوص الثلاثة الذي بدى مشوقا ومبهما ، فالقاريء يريد أن يتبين ما هي هذه الرسالة ولماذا هي موجه إلى الشمس. القصة عبارة عن رسالة إلى صديق قديم إبتعد عن أصدقائه وقد مثل الكاتب إبتعاده بإبتعاد الشمس عن الأرض، ولكن أليست الشمس قريبة من الأرض وكائناتها ، بل تقدم لها الحماية والدفء؟ الرسالة عبارة عن خواطر عاطفية وذكريات وعبارات من العتاب ، تبتعد عن الحكاية ، وهي موجهة إلى شخصية مسعود الذي لا نكتشف سبب إبتعداه عن أصدقائه الثلاثة ، مجرد إشارات إلى أنه رحل عنهم وأصبح في عالم غير عالمهم ، النص -كما ذكرت- عبارة عن مجرد خطاب إلى صديق رحل إلى عالم آخر. ولكن هذه الرسالة إحتوت على لغة جميلة وتخلو تقريبا من الأخطاء وصياغتها جاءت متماسكة ، بينما في القصة الأولى والثانية هناك بعض الأخطاء الإملائية والمطبعية. وأود أن أشير إلا وجود بعض العبارات الجاهزة -والتي وردت في قصة مجرد وهم وقصة مدعي الجنون- والتي لا يحبذ إستخدامها في كتابة نص إبداعي ، حيث من الضروري أن يستخدم الكاتب إسلوبه الخاص الفني في صياغة عباراته وجُمله، ومن الأمثلة على ذلك عبارات من مثل: ((هل أتى علي حين من الدهر))، ((الأحياء منهم والأموات))، ((عبارات الثناء))، ((ضرب للشرطة أروع الأمثلة في الذكاء)).

الاثنين، 7 ديسمبر 2009

ملحق (ن ) في حلقته النقاشية لهذا الشهر يفتح ملف "الأديب ورقابة المجتمع" : إلى متى أيها الأديب ؟! .. إلى متى أيها المجتمع ؟!

تم نشر الحلقة النقاشية في ملحق نون بجريدة الشبيبة بتاريخ 07 ديسمبر 2009

أدار الحوار : سليمان المعمري
شارك في إعداده للنشر : محمد سعيد القري

المشاركون في الحلقة :
خمسة من الأدباء "المُحاكَمين"
بالإضافة إلى :
د. عبدالله الحراصي .. أكاديمي ومترجم
يعقوب الخنبشي .. روائي
الخطاب المزروعي .. قاص
مدني العرضي .. محام ومستشار قانوني بمكتب سعيد الشحري للاستشارات القانونية
أحمد البحري : قارئ

في غضون تسع سنوات من دخول الألفية الجديدة تعرض أكثر من أديب عُماني لمحاكمة أو مساءلة بسبب نص أدبي كتبه ( غالبا ما يكون نصاً سردياً ) .. فمن الشاعر خميس قلم (2002) إلى القاص يحيى المنذري ( 2003 ) ، إلى الشاعرة بدرية الوهيبي ( 2006 ) ، إلى القاص سعيد الحاتمي ( 2007 ) ، وأخيراً وليس آخراً حمود الشكيلي (2009 ) .. ولأن ظروف وملابسات هذه المحاكمات متشابهة تقريباً مع الاختلاف في بعض التفاصيل الصغيرة ، ولأن معظم من رفعوها على الأدباء هم مواطنون عاديون رأوا أن كرامتهم "أُهينت" ، فقد بات ضروريا التوقف عند هذا الأمر ومناقشته وتأمله من زواياه المتعددة سعيا للخروج برؤية واضحة تستجلي هذه الظاهرة وتضيء المشهد .. ثمة أسئلة ينبغي طرحها في هذا الصدد : ما سر تكرار هذه الظاهرة غير مرة ؟ .. هل هناك وعي من قبل الناس بأهمية الأدب ودوره في المجتمع؟ .. وهل هناك وعي لدى الأديب بمجتمعه ؟ ، وإلى أي مدى استطاع الأديب التعبير عن قضايا هذا المجتمع ؟ .. وهل الكاتب والمجتمع شيئان أم شيء واحد؟ .. وهل هناك وعي بالقانون لدى الأديب العماني؟ .. هل يحق للكاتب أن يكتب ما يشاء؟ .. وفي المقابل ألا يحق للقارئ أن يرفض ما يشاء؟ .. هل الخطأ في التعبير أم في طريقة التعبير؟ .. وهل ينبغي للمؤسسة المشرفة على تنفيذ القانون أن تحمي الأديب والمجتمع كلا من الآخر؟ .. وإذا كانت الإجابة بـ"نعم" فكيف تكون هذه الحماية ؟ .. هذه الأسئلة وغيرها حملها (ن ) في حلقته النقاشية لهذا الشهر ونثرها لأكثر من طرف : الأديب المُحاكَم / المُساءَل ، والمثقف المتعاطف معه ، والمثقف الآخر ذو النظرة المغايرة ( لكي لا نقول غير المتعاطف ) ، والقارئ العادي ، والقانوني ، والجهة المتقاضى لديها ( الادعاء العام ) .. ولأهمية هذا الموضوع ، وحرصا من (ن ) على استقصاء كافة الآراء حول هذه القضية فقد تنازلنا خلال هذه الحلقة بالذات عن شرط الحضور الشخصي ، وسُمِحَ لبعض الأطراف المشاركة في الحلقة - والتي منعتْها ظروفها من الحضور إلى مقر جمعية الكتاب المؤقت بالعذيبة - ، سمح لها بتقديم مشاركتها مكتوبة ..
بدأنا الحلقة بشهادات قدمها الأدباء الذين تعرضوا للمحاكمة أو المساءلة :
أنا و"ضجيج البيت الكبير" :
بدأ هذه الشهادات القاص يحيى المنذري الذي رُفعتْ عليه قضية عام 2003 بسبب قصته "ضجيج البيت الكبير" التي نُشرت في جريدة عُمان ذلك العام ، كما تضمنتها مجموعته القصصية :"بيت وحيد في الصحراء" .. يقول المنذري : "في شهر يونيو من عام 2003م استدعيت من قبل مركز شرطة بوشر ، وأجري تحقيق معي بشأن شكوى تقدم بها ثلاثة أخوة يزعمون أن قصة قصيرة بعنوان "ضجيج البيت الكبير" – والتي نشرت في ملحق شرفات بجريدة عمان في نفس الشهر- تسيء لهم رغم أنه لا توجد أية معرفة بيني وبينهم لا من قريب ولا من بعيد ، وهكذا تحولت كتابة القصة في هذا الموضع إلى جريمة ، تم التحقيق في شأنها ، وبدأ أفراد الشرطة في التحقيق والبحث عن الأدلة لإدانتي ككاتب وتوجيه تهمة من نوع ما، وهكذا تم تفكيك عناصر القصة على الورق بهدف البحث في المكان الذي أشار إليه المشتكون على أنه المكان الذي حدثت فيه القصة، علما بأن القصة نشرت في جريدة عمان، وهي جريدة حكومية رسمية، ولكن الشرطة في ذلك الوقت لم تستطع أن تصنف هذه الشكوى لعدم وجود استناد قانوني ولأنها سابقة لم تمر على مركز الشرطة من قبل ، ولذا تم تحويل الموضوع إلى الادعاء العام لاستشارته حول تصنيفها قانونيا ، وبعد أشهر من الدراسة تم تصنيفها تحت بند تهمة "إهانة كرامة" ، وقد حولت رسميا إلى الإدعاء العام كقضية والذي حولها بدوره إلى المحكمة ، لتقوم بدورها بمحاكمة كاتب القصة. وقد أوضحتُ حينها بأن تلك القصة تحتوي على مشاهد مختلفة وشخوص متخيلة (بلا أسماء) قد تكون موجودة في أي مجتمع وفي أي بلد وأحداثها سردت بدون ذكر اسم مكان أو زمان، كما أن هناك الكثير من الشخوص تتشابه ونجدها في قصص مكتوبة وكثيرة في أرجاء هذا العالم الواسع" .
ويضيف يحيى : "في رأيي إذا تمت محاكمة أي كاتب في هذا السياق من السهل لأي فرد أن يتقدم بشكوى ضد قاص أو شاعر أو روائي أو رسام، ومن السهل أن تقبل شكواه من الشرطة وتجري تحقيقا معه ، ومن السهل تصنيفها كجريمة يستحق الكاتب عقابا على فعل الكتابة ويقدم إلى المحكمة كمتهم. كل هذا الفعل سيضرب بعرض الحائط تاريخ الإبداع ومعنى الأدب وحرية الكتابة ، وسيقدم إساءة صريحة لجميع المبدعين والمثقفين في العالم. الكثير من القصص كتبت ، الكثير من الشخوص تم وصفها ، ماذا يحدث لو تقدمت جميع هذه الشخوص بشكوى ضد من ابتكرها وكتب عنها؟"
ثم ينتقل المنذري في شهادته إلى حديث عام عن القصة القصيرة محاولاً توضيح خصوصيتها كفن أدبي قائم على الخيال ، فيقول : " القصة القصيرة – بشكل عام - واحدة من فنون الكتابة الإبداعية في الأدب بجانب الشعر والمسرحية والرواية وغيرها. إذ أنها تحتوي على حدث واحد أو مجموعة من الأحداث ، أو مشهد مجتزأ من الحياة يتمثل في حادثة وقعت يطرحها الكاتب برؤية جديدة وفنية وبأسلوب خاص ، مع إضافة شيء من الغرائبية في الأحداث والأوصاف ، أو حدث غرائبي وغير مألوف على الواقع أو من ضروب المستحيلات وقوعه (أي ضد الطبيعة البشرية) كقصص السحر والشعوذة ، أو الأحلام ، أو الكوابيس وغيرها.والقصة القصيرة تحتوي على واقع وخيال وأوصاف وسرد وتحليل واستعارات ، ولغتها غير مباشرة ، كما تعتمد لغتها على ابتكار الأحداث والشخوص والأمكنة برؤية جديدة يطرحها الكاتب وتكون أحداثها قابلة للكثير من التفاسير " .
ولأن القصة تعتمد على الخيال فان يحيى المنذري يشدد على وجوب عدم التعامل معها بكيفية التعامل مع البحث أو المقال إذْ أنها – أي القصة - "ليست كالمقال أو البحث ، فهي لا تتبنى أهدافا بعينها كمعالجة مشكلة أو طرح قضية معينة وإيجاد مسبباتها بطريقة مباشرة ومقالية، ولا تهدف إلى الإساءة إلى أي من البشر أو الكون ، ولا أحد يستطيع أن يطابق القصة مطابقة لصيقة مع الواقع".
ويختم يحيى شهادته بهذا النداء : " على الجهات المختصة حفظ مثل هذه القضايا وعدم تصعيدها إلى محاكمة، لأنه في نظرنا لا تستحق أن تتطور إلى ذلك ، لإيماننا العميق بضرورة عدم محاكمة الإبداع مهما كان نوعه" .
خميس قلم : حُبِستُ ببئر النوايا الرديئة
" لقد طلب منك أن تكتب، وها أنت كعادتك تماطل نفسك، تتشاغل بملذاتك الصغيرة، كأنك تكيد للزمن"، هكذا بدأ الشاعر خميس قلم شهادته عن ملابسات توقيفه عام 2002 بسبب نصه السردي "الحاسد والبخيلة" الذي فاز بجائزة في ذلك العام ضمن مسابقة الملتقى الأدبي للشباب التي كانت تنظمها آنذاك الهيئة العام لأنشطة الشباب الرياضية الثقافية .. ويضيف : "تنفق وقتك في الصمت، تهدر وقتك في تأمل إله الليل: لعلّـك تلمح الحقيقة في شاشته الملطخة بالدماء. هل تمتحن قدرتك على مراوغة الحبر؟ لكن لم يتبق لك إلاّ أقلّ القليل من الوقت، هيا، ما عليك سوى أن تقفز على أرض الذاكرة وتصطاد من الماضي وقتك الضائع هناك بين جدران الخيبة:
حبستُ
ببئر النوايا الرديئة
متهماً بالخروج عن الظلّ
هذا الظلام الكفيف
امتداد الحقيقة في داخلي.
وطيور مناقيرها كالمناجل
تنهش من خبز رأسي ملح الحنين
أحنّ إلى لغة كالسديم
نبوءاتها شافية.
يا أيها الصامت، اللغة كونك، وخلاصك اللغة، فاكتب وتحرر.
محبس ساحر بهلا :

وبعد تلك المقدمة المليئة بالتساؤلات والشعر يبدأ الشاعر بسرد الحكاية :
"كنت غارقاً في وحدتي حين تم استدعائي – هاتفياً – إلى مركز شرطة البريمي، وذهب تفكيري أنهم يريدون شهادتي في موضوع يخصّ بعض زملائي الذين تعرضوا لعملية نصب من أحد المحتالين المحتاجين. مضيت بعد المغرب إلى المركز ليستقبلني الضابط المناوب ببالغ الفتور طالباً مني أن أضع محتويات جيوبي في الأمانات لأنني سأقضي الليلة في ضيافتهم، حاولت أن أكظم توتري وأنا أساله عن سبب التوقيف، فناولني بثقة ورقة فهمت منها أنني مطلوب في شرطة بهلا لموضوع يتعلق بالقصة الفائزة في الملتقى الصيفي 2002، استأذنته في إجراء اتصالين هاتفيين قبل تسليم النقال، خابرت زوجتي مؤكداً لها أنْ لا تقلق " مجرد سوء قراءة سيكلفني أن أقضي الليلة في ( التخشيبة) " محاولاً أن أوازن اضطرابي ببعض المرح، بعدها تحدثت إلى أخي وطمأنني بدوره: آن الأوان لاستخدام السلاح الفعّال ( العلاقات الشخصية )
[ علمت فيما بعد أن مركز شرطة بهلا قد وصلته مذكرة من قاض بالمحكمة الابتدائية لإلقاء القبض على المواطن خميس قلم وإحضاره للمثول أمامه، ولما لم أكن متوفرا حينها في بهلا فقد أُرسل فاكس إلى مركز شرطة البريمي - الولاية التي أعمل فيها- بضرورة احتجازي خصوصاً أنني في منطقة نفوذ عمانية تقع بعد نقاط الحدود].
ودخل معي السجن أحد السكارى، كان يجد بين جدرانه وظلامه ما لا يجده من متعة خارجه، وتلك قصة يطول سردها ".
ولأنها قصة يطول سردها فان خميس قلم يتجاهلها ويعيدنا إلى المكان الذي احتُجز فيه : "السجن، الحبس، التوقيف، الكركون، المعتقل .. أيّ من هذه المفردات تليق بالمكان الذي يحاصرني بغرابته: أربع زنازين متلاصقة تنتهي بحمّـام نصف مكشوف، صنبور خارجي واحد، عفونة، بشر أنصاف عراة بفعل خنقة الصيف متخذين من فراشي الأسنان القديمة معاليق لدشاديشهم وانتظارهم، لا مراوح، ساحة بحجم المستطيل المخصص لحارس المرمى، فتحات سقفها أصغر من عيون شباك المرمى، أصغر بكثير، بالكاد ترى الظلام من خلال سقف الساحة، وبين الزنازن الأربع والساحة ممر إسمنتي تكدّس تحت ضوئه الباهت مدمنو اللعب بالورق، وآخرون يقطّعون وقتهم بتقاذف النكت الفاجرة أو مواساة متهم اقترب يوم محاكمته، و أنا بين تنهدات الشكوى وكركرات المرح تائه في صحراء الأسئلة: ماذا سيحدث لي؟ كيف سأحمي نفسي من فضول هذه العيون؟ قرابة مئة عين تتلصص على النزيل الجديد، في أي قرنة سأبيت الليلة؟ وهل سيغمض لي جفن أصلاً؟ باغتني أحدهم بسؤال عار من الحياء والتهذيب: " مو تهمتك الآخ؟"،، أسارع بالإجابة " السحر " ظاناً أنني بذلك سأزرع الخوف في نفوسهم خصوصاً إني من ( بهلا).
[ علمت بعد ذلك أن معظمهم ضحايا الجهل وحسن النية، وقد أظهروا لي لطفاً صادقاً حين اعترفت لهم بسبب توقيفي ولم يبخلوا بجمل المواساة، وأنا بدوري واسيتهم قائلاً " يا ما في السجن مظاليم " ]
- توصيلة مجانية :

وبعد أن قضى ليلة في التوقيف يبدأ خميس بسرد أحداث اليوم الثاني :
" الساعة السابعة صباحا، يزعق أحد أفراد الشرطة باسمي مذيـّـلا بلعنة القبيلة: خميس بن قلم بن خميس الهنائي
- نعم
- تعال
أخرج معه، أنتظر على أحد الكراسي، أفهم من الحوارات حولي أنهم يستكملون الإجراءات الورقية لنقلي إلى محطة قادمة، وأنا كنعجة تساق إلى حيث لا تدري، مستكيناً أطيع أوامرهم المضجرة: تعال، اجلس، وقّع، خلا، هل يحتاج المرء إلى كل هذه الجلافة ليكون شرطيا؟! وهل سرق الكاتب من مال البلاد شيئا ليستحق كل هذه القسوة؟!
المحطة القادمة مركز شرطة حفيت لتسليم الحمولة الآدمية إلى عمـّال آخرين، ومنها إلى مركز شرطة السنينة لتقوم بدورها بأخذك إلى مركز شرطة عبري ثم في منتصف المسافة ستلتقي بدورية من مركز شرطة بهلا، ويكون وقت الدوام الرسمي حينها قد شارف على الانتهاء.. لن يراك القاضي اليوم" .
وبسخرية عالية يواصل الهنائي سرده متذكراً الحدث الذي مضى عليه سنوات ، مطلِقاً سؤالاً تهكميا لنفسه: "لم هذا التذمر أيها الكاتب! ستتشرف بقضاء ليلة مجانية في توقيف شرطة بهلا المكيف، وقد حظيت قبلها بتوصيلة مجانية من البريمي إلى بهلا .. كم أنت محظوظ!" . ويضيف : "ظهر ذلك اليوم قرصني الجوع ، فأنا لم أذق من مرق العشاء إلاّ ما يسدّ الرمق، ولم أفطر هذا الصباح، استبطأتُ الغداء، وأخبروني أنني وصلت بعد الغداء، لدغني الجوع، حينها استيقظت غرائزي البدائية وهببت أمسك بقضبان الباب الموصد أصيح مهدداً بالقانون إذا لم يوفروا لي حاجتي الغذائية. فما كان منهم إلاّ أن أحضروا لي من طعام الشرطة الخاص ( مكبوس عوال) وأقسم أنني ما زلت أتلمظ طعم تلك الوجبة كلما تذكرت. ولم يكن ذلك أحسن ما حدث لي يومها، ففي المساء وصل أعزّ أصدقائي واحتشدوا في صالة الاستقبال محاطين بدهشة رجال الأمن.. قدم الرفاق ليقولوا " نحن مع الكلمة " ومنحوني يومها وساماً فخرياً مازلت أعتز به".
ولأن خميس الهنائي شاعر يُدرك - في لاوعيه ربما - أن سبب توقيفه السرد لا الشعر ، فانه يلوذ بالشعراء في ساعة كهذه ، ويستحضر أبياتهم الجميلة :
قالوا حبست فقلت ليس بضائري حبسي وأي مهند لا يغمدُ
و لئن أمسيت محبوساً فللغيث احتباسُ
"أخذت أردد أبيات علي ابن الجهم، وابن زيدون لأخفف من حرقة الألم، ألم أن يـُمارس عليك خيار لا تريده، أن تـُعرقل إرادتك .. تشعر إنك مشلول، وأمرك ليس بيدك، حاولت أن أتشاغل بمصائب الآخرين، ولن يلائم أن أتحدث هنا عن ما شاهدته من عذابات نفسية وجسدية لبعض المتهمين، تجاوزات غير إنسانية من قبل بعض الساديين الذين يتذرعون بالقانون والعدالة لينفـّسوا عن عقدهم النفسية".
ثم ينتقل خميس قلم إلى اليوم الثالث من هذه الحكاية فيقول : "يقضي القانون بأن يـُحمل المتهم مقيدا إلى المحكمة، ففي صباح اليوم الثالث حزّ الشرطي القيد على معصميّ حتى شعرت بالذلّ والمهانة، كهرباء سرت في جسدي: دمي يغلي حنقاً وروحي جمدت من الخجل والعجز . لم تكن المحكمة ببعيدة عن مركز الشرطة، طلب مني الشرطي أن أنتظر ريثما يدخل الأوراق التي تخصني للقاضي، عاد سريعاً تسبقه دهشته: " غريبة .. القاضي حولك ع النيابة قبل ما يسمع منك "!!
[ علمت فيما بعد أن ما حدث كان تجاوزا للقانون، وأن فحوى الرسالة -التي صدرت من مكتب الإفتاء بخصوص القصة القصيرة- متعلق بما يقصد الكاتب قوله، وكان على القاضي سؤالي بشكل ودّي دون اللجوء إلى الجهات التنفيذية، لكن يبدو أن القاضي كان ثاقب البصر لدرجة أنه يدرك عن بعد ما كنت أنوي قوله].

- نقطة ليست على حرفها

ويواصل خميس الهنائي شهادته :
"هذه المرة إلى القيادة العامة لشرطة المنطقة الداخلية بنزوى، حيث النيابة والتحقيق وباقي المصطلحات التي نشاهدها في المسلسلات التلفزيونية، وإن كان ما يحدث أقرب إلى المسرحيات الهزلية، لقد عذرت الشرطي الذي أخذ إفادتي الأولى وأنا أصوب له الأخطاء الإملائية الفادحة، عذرته عندما قابلت في التحقيق نقاطاً ليست على حروفها، ونجوماً ليست في سماواتها، حضرة النقيب المتمرس في استخلاص الحقائق الجنائية بالكاد يفكّ الخط، بل وينزعج من حديثي بلغة فصيحة يقول " انته ليش ما تتكلم كمايي"، أجيب " لأن لساني قويم "، يسأل " موه أنا لساني عوج؟ "، أردّ " طبعا، ما سوى لغة القرآن فهو أعوج"... ثم يحاول أن يحسن من منطقه:
- هل تؤمن بالله؟
- نعم أومن بالله وملائكته وكتبه بأركان الإسلام كلها
- ها .. هذي أركان الإيمان أو الإسلام؟
- يا أخي أومن بأركان الإسلام والإيمان معا
- لا تقول أخي، انته تعرف أيش تهمتك؟ ثم يقلّب أوراق كتاب في القانون و يجيب :" التجديف بالذات الإلهية والإساءة إلى مقام الأنبياء"
أقول محتجاً " لكن القصة ليس بها ذكر للذات الإلهية أصلا، هل قرأتها يا حضرة النقيب؟ "
- لا تسألني، أنا هنا بس إللي يسأل. ثم يسأل محاولاً التفاصح:
- ماذا تقول فيمن اتهمك بهذه التهمة؟
- أقول إنه لم يقرأ القصة جيدا، وإنه أساء الفهم..
يقاطعني: " من أنت عشان تتكلم على الشيخ(الفلاني) يا عفن القلب يا فاسد العقيدة ..."
و يندحق سيل من الشتائم في وجه الكاتب، ويستمر هذا الحوار العقيم بعيدا عن النص لمدة ساعات ثم أنبهه بعدم التورط في تحقيق يختص بقضية أدبية لأنه كما يبدو غير مؤهل لذلك.
في جلسة تحقيق أخرى يفرد حضرة النقيب القصة أمامه، لكنه يضع إصبعه على جملة واحدة في النص فقط ، من تقصد؟ ماذا تقصد؟ وغيرها من الأسئلة التي تنم عن عدم معرفته بسطح النص، أشرح له " عليك أن تقرأ القصة كاملة فهي مرتبطة بشخوص لها بعد نفسي ورمزي، وإنك يا حضرة النقيب كمن يقرأ قوله تعالى" ولا تقربوا الصلاة" ويصمت"...
لكنه يصر على جهله، فيعدّ ديباجة من الشتائم والتقريعات، أسطراً من الوقاحة والأخطاء الإملائية ثم يذيلها بسؤال مكرر، فأجيبه بنفاد صبر: " سجّل سجّل" وأملي عليه كلمة كلمة " شكرا على هذه الشتائم المجانية والتي سأحصدها إن شاء الله من ميزان أعمالك يوم القيامة "
جلسة عابثة أخرى، هذه المرة سيعمل بنصيحتي ولن يقتطع جملة واحدة بل سيبدأ أسئلته من العنوان، ويكون الضجر والقرف قد عشش في دمي حين يسأل بتذاكٍ : " كان يحرث أرضه بثور أسود، من هو الثور الفلاح أم سليمان؟
فأجيبه متهكماً " والله ما أعرف من الثووور في هذا الموضوع كلـّه!!" والغريب أنه لا يبدي أيّ امتعاض من قولي.
ليلتان أخريان في توقيف نزوى، يجتهد خلالهما محقق الإدعاء العام للدفع بالملف للمحكمة، يصدر المحقق أوامره بتلطيخ أصابع الكاتب بحبر البصمات وتصويره مع لوحة لا أتذكر ما دوّن عليها، يتخابث الكاتب على المصور فيـُظهر نواجذه عمداً، يطيل المصوّر تصويب الكاميرا باتجاه الكاتب في محاولة منه لالتقاط صورة تكون الضحكة خارجها، لكن الكاتب الفطن يُبقي عضلات وجنتيه مشدودة الوترين لدقائق حتى لا يبقى للمصور من حيلة سوى التقاط صورة الوجه الذي تملؤه الابتسامة الساخرة، يعلـّق المصور متعجباً " أول مرة أصور متهم وهو يضحك"،
فأقنعه " شر البلية ما يضحك "

- اقتحام كرامة

ثم يتحدث الشاعر خميس قلم عن التداعيات الاجتماعية التي حاقت به بسبب هذه القضية :
"كان يوما عبوسا قمطريرا حين أمر حضرة النقيب بإرسال دورية تفتيش لمنزل العائلة تصحبها قوّة مدججة بالسلاح للمساندة، لكم أن تتخيلوا الوقع الاجتماعي لهذا المشهد : سيارات الشرطة تحاصر منزلاً ريفياً لا تبتعد بيوت الجيران عنه إلاّ بضعة أشبار، لا يكاد يعطس أحد أفراد القرية حتى يشمّته كل أهلها، لم تكن ثرثرة القرويين وخيالاتهم تقلقني إنما خشيت أن يصاب قلب أمي المريض بصدمة جراء رؤيتها أو سماعها بخبري، طلبت بل رجوت من حضرة النقيب أن يتلطف لأجري مكالمة هاتفية أمامه حتى يتمكن الإخوة من اصطحاب الأم بعيدا عن المنزل قبل أن تصل القوة لكنه ببساطة تجاهل رجاء الكاتب.
لحسن الحظ، تعاطف معي بعض الحاضرين من شهود التحقيق وناولني أحدهم هاتفه الخلوي، مستغلاً غياب النقيب، فاتصلت ببيت أخي لأخبره، وتفاجأت حين طلب مني أخي أن أكلّم الأم وأطمئنها فهي هناك منذ الصباح تعول وتنوح ، جمدت الكلمات في لساني وأنا أستمع لنشيج أمي:
- " عجب يقولن الجارات إنك مسجون"
- " ما شي منه، أنا في البريمي، تريديني تو أجي؟ "
أخذت تدعو لي بصوت متقطع اختلط فيه بكاء الفرح بهستيريا الضحك، وكأن ميتاً لها قد عاد إلى الحياة.
[ علمت فيما بعد عن روايات وهمية اختلقتها عقول فارغة تتناول أسباب حبس الكاتب]

ويصل الهنائي إلى نهاية الحكاية بالإفراج عنه بعد خمسة أيام : "في مساء اليوم الخامس خرجت بكفالة بعد أن سلّمتهم وثيقة جواز السفر،( وقد بقي معهم الجواز أشهرا حتى أنني لم أتمكن من السفر إلى ماليزيا لحضور ملتقى شعراء العالم الإسلامي وكنت مرشحا للمشاركة فيه) على كلّ حال، بدأ أخي بتفعيل سلاح " العلاقات الشخصية" وقد كان بحق سلاحا فعّالاً..
بعد مخاطبات وتدخلات حفظ الإدعاء العام القضية بعد أن اختصروا ملف التحقيق، وقوّلوني فيه ما لم أقل، اضطررت تحت ضغط ورجاء الإخوة أن أوقع على ما لم أقل وأتعهد بعدم نشر النص أو الكتابة في موضوع مشابه" .
- رب ضارة نافعة
ويختم خميس قلم شهادته بالحديث عن تأثير هذه القضية على أهله ، ويخلص إلى رؤية نصف الكأس الممتلئ من هذه التجربة بالقول : "بالإضافة إلى الضرر النفسي الذي تعرضت له كل من أمي المريضة وزوجتي الحبلى، فإن لطخة اجتماعية سوداء مسّت روح العائلة، و ذلك يهمّ إخوتي أكثر مما يعنيني.
أعترف لكم أن تلك التجربة رغم مرارتها نبهتني إلى أمور كثيرة ووطدت علاقتي بكثير من الأحرار والمخلصين للكتابة داخل عمان وخارجها، إلاّ أنني مازلت أعاني على صعيد الترقي الوظيفي من مخلّفات تلك البقعة التي قـُذفت بها" ..

أضربك يخاف اللي جنبك :

الشاعرة بدرية الوهيبي لم تشأ في شهادتها أن تخوض في تفاصيل تجربتها مع سلطة المجتمع بعد نشرها نصها السردي "القرم 20 " عام 2006 ، بل فضّلت أن تتحدث عن هذه الظاهرة بشكل عام فتقول : " لم يحدث لي في الشعر ما حدث في السرد ذلك لأن الشعر لا يحتمل وجودي وذاتي بالدرجة الأولى ، بينما في القصة القصيرة فان وجود شخوص أشبه بصنع عالم آخر أشبه بمسرح الدمى فأنت تحرك كل شيء وفقا للوعي والمخزون المعرفي والتجربة مما يجعلك تنسج لتلك الشخصيات محيطا تتحرك فيه وبيئة مقنعة لا تخرج – أحيانا – عن بيئتك، تناقش قضايا ومغالطات وأشياء لا تعجبك وأخرى تعجبك ، وتعري الواقع كما شئت وذلك لأن الكاتب يمارس حريته في الكتابة فقط ويصرح برفضه وغضبه وعشقه وجنونه من خلالها، ولأنك تحاول إقناع القارئ في رؤيتك الفنية والسردية فانك تقع في فخ الأسماء والمناطق معتقداً إن الحرية تمتد في حريتك اختيار أسماء شخصياتك والكاريزما التي يظهرون فيها ويتشكلونها ، وقد تنشأ أحداث تتقاطع مع الواقع وأسماء تتقاطع مع أسماء أخرى وتفاجأ بأنها تظهر لك ككابوس يقظة وأنت –بلا نوايا - تضع إيمانك العميق في حريتك وتنسى الشكوك خارج عالمك المتخيل ، هذه الأسماء التي لم تكن في حسبانك والتي لا تشكل لها أحيانا القراءة هاجسا يوميا تذهب بك إلى المحاكم والادعاء العام فتتفاجأ للوهلة الأولى أن ثمة سوء فهم موقنا انك لم تفعل أي سوء لإنسان تعرفه ولا تعرفه لكن نواياك الطيبة لا تعمل هنا ، بل لا تشكل أهمية لدى المجتمع ، قد تسجن وتدفع غرامة على استخدامك اسم شخص شعر أنك أهنته فيقيم الدعوى وتترك كل أعمالك الحياتية والأدبية لتقف تدافع عن ( قصدك) ونواياك ، قد يحقق معك اثنان أو ثلاثة أو أربعة وتحمل لقب ( المدعى عليه) وليس (المثقف) ، وتجد نفسك محاصرا بتهم قد تضيع حياتك المهنية والخاصة والاجتماعية وتذهب مع الريح ، صحيح أنك في النهاية تعود بريئا وهذا أشبه بـ (العيار اللي ما يصيب يدوش ) أو (أضربك يخاف اللي جنبك ) ..
وتتوقف بدرية لتؤكد شيئاً مهما كمن يخاف أن يُفهم خطأً فتضيف : " أنا لست ضد القانون الذي يحمي كرامة الإنسان ولا يفرق بين مثقف والشخص العادي وضد الحرية التي تسيء للأفراد ولا أسمح لنفسي مطلقا أن أستعمل قلمي لأشخصن المواضيع وأهين الآخرين ، وأتعاطف مع الآخر العادي لأنه غير مدرك لماهية القصة القصيرة أو الرواية والجوانب الفنية التي ينبغي فهمها ومعرفتها وهذا دور الإعلام والمناهج التربوية ، إنما الأمر كله يتسبب في حدوث كارثة للمثقف الذي يفترض أن يلاقي تقديرا أكبر من المجتمع وحدوث شرخ نفسي لا تردمه السنوات بل وتظل تتقرح كلما لاحت الذكرى" .
ويبدو أن هذه الذكرى ألقت بظلال كئيبة على الوهيبية فها هي تضيف بمرارة : "أنا أغبط القاصين الذين يكملون ويكتبون ويستمرون إلا أنني منذ حادثة (القرم 20) لم أستطع كتابة نص قصصي واحد أو أفكر في كتابة القصة ورغم أنها حادثة مضت عليها سنوات إلا أن آثارها لازالت حتى اليوم ، إن ما يحدث فيما بعد الشكوى والدعوى وكميات العرق التي تنسكب وأنت تحاول إيصال قصديتك ونيتك هناك الجوانب الاجتماعية كقطيعة وأحقاد وعمليات ثأر ألحقت الضرر بأهلي كونهم في الواجهة الاجتماعية والإشاعات المغرضة التي تمس الشرف والعرض ، وتلك النظرات الغاضبة والحانقة التي أغلقتتي وكورتني في عزلة ، ودمرت نفسيتي تماما وكسرت شوكتي ، أعترف أن السلطة الاجتماعية نجحت في تمزيق أجنحتي ، نجحت في مصادرة رغبتي في الكتابة ،إلى اليوم وأنا في عملي كصحفية تتوسلني أمي ألا أكتب عن حالة إنسانية أو قضية دون أن تعي اختلافها وأهميتها في عملي ولكن ما يحصل هو أنك تفقد الثقة في نفسك ويفقدها الآخرون فيك .. تدرك حينها أنك خارج الحياة ، وكل ذلك لأنك ذكرت أسماء من البيئة العمانية وصادف وجودها في الواقع ، هذه المصادفة خلقت مصادفة أخرى ليكتسب الآخرون من مصيبتك والإيقاع بك"
وبتهكم واضح تتساءل بدرية في ختام شهادتها : " لا أعرف هل سيختار القاص العماني أسماء أجنبية (جولييت /روز/مايكل/ روبنسون...الخ) ليخرج عن محيطه وبذلك يأمن أن لا يحاكم ؟! "..

عواقب خلط الخمر بالماء ! :
بدا سعيد الحاتمي كقاص متمكن من أدواته وهو يسرد بشكل مختصر – ولكن دون إهمال للتفاصيل المهمة - حكاية سنة وثلاثة أشهر قضاها في المحاكمة بعد القضية التي رفعها عليه أحد مواطني ولاية عبري .. يقول الحاتمي :
"بدأت الحكاية تحديداً باتصال هاتفي من الصديق الخطاب المزروعي المشرف على ملحق أقاصي يطلب مني المشاركة في العدد القادم من الملحق بنص قصصي..ما كان متوفرا يومها لدي مجموعة من النصوص القصيرة جدا بعنوان" مشاهد صباحية في سوق عبري"..في اليوم التالي أرسلت النصوص للخطاب..نشرت النصوص في "أقاصي"..كان بأحد النصوص جملة حوارية على لسان شخص في حالة سكر يلتقي بشخص لا يعرفه في الشارع .. يفتعل معه حوارا قصيرا ينتهي بنصيحته له بقوله" لا تشتري خمر عند ود المصلوم..تراه يزيده ماي"..
بعد أسبوع تقريبا.. تلقيت اتصالا من أحد الأصدقاء يخبرني أن صديقا له يعمل في مركز شرطة عبري أخبره أن شخصا ما تقدم صباح هذا اليوم بشكوى إلى مركز شرطة عبري ضدي ويدعي إنني تعرضت له في النص الذي نشرته بشرفات وأهنت كرامته.. تبين أن هذا الشخص يلقب بــ" ود المصلوم" ولديه محل في سوق عبري.. الشخص الذي يعمل في مركز الشرطة طلب من صديقنا المشترك بأن ينصحني أن أقوم بحل الموضوع وديا مع المدعي .. وكخدمة منه أعطاه رقم هاتفه..
أخذت رقم الهاتف واتصلت به مباشرة..أبديت له أسفي عن ما ارتكبته الصدفة في حقه وحاولت أن اعتذر له.. لم يكن الرجل متقبلا للنقاش حتى في الموضوع...وأنهى المكالمة بأنه سلم الموضوع لأحد المحامين وهو من سيتولى الأمر في ما يأتي...
اتصلت بأحد الأصدقاء وتحديدا المنتصر الحراصي وهو متخصص في القانون .. توقع المنتصر أنه إن تقدم بشكوى في الحقيقة فمن المتوقع أن يقوم الادعاء بحفظ القضية لضعفها.. ونصحني بألا أقلق...
لم يحدث شيء لمدة شهر تقريبا وأنا نسيت الموضوع.. وفي أحد الأيام كنت مع طلابي في الفصل..جاء المدير وأخبرني أن شخصا من الادعاء اتصل يسأل عني ويطلب مني أن اتصل به حال انتهائي.. اتصلت وطلب مني الحضور.. ذهبت مباشرة وسألني إن كنت أعرف المدعي ولماذا اخترت هذا الاسم بالذات ..نصحني أن أحل معه الموضوع وديا.. وأسر لي بأن هذه القضية جديدة عليهم وأنهم محتارون فعليا في تكييفها..كان الرجل ودودا بشكل كبير
بعد ذلك قادتني الصدفة إلى المحامي الذي كلفه المدعي برفع القضية..أخبرني انه هو وكيل المدعي واقترح عليَّ أن نجتمع لديه في المكتب ونحاول التوصل إلى حل ودي...اجتمعنا ولم نصل إلى حل.. بعد ذلك نصحني وكيل الإدعاء بأن أحاول حل الموضوع عن طريق أحد الشيوخ وأعضاء مجلس الدولة..عندما ذهبت إليه وجدته مشحونا ضدي بشكل كبير..كون المدعي أحد أبناء قبيلته..طلب مني أن أدفع ألفي ريال للمدعي كي يتنازل عن القضية..
في النهاية اتصلت بوكيل الادعاء وأخبرته أن يفعل ما يراه صائبا وأنني لن أحاول ثانية حل الموضوع وديا...بعد فترة اتصل بي الادعاء واخبرني بأنهم أحالوا القضية إلى المحكمة..الخطأ الذي ارتكبته أنني لم أقم بتوكيل محام للدفاع .. كنت أكتب مذكرات الدفاع بنفسي ..لذلك جاء الحكم ضدي بعد ثلاث جلسات :20 يوما سجناً و500 ريال كتعويض مادي بتهمة اهانة كرامة المدعي..اتصلت بأحد الأصدقاء وطلبت منه أن يقوم بدفع الكفالة لدى الإدعاء حتى أتفادى السجن..مع ذلك لم يقم الادعاء بإصدار أمر إفراج إلا في اليوم التالي..
بعد ذلك قمت بتوكيل محام للدفاع في محكمة الاستئناف..المدعي لم يعجبه الحكم السابق أيضا- كان يطالب بمحاكمتي طبقا لقانون المطبوعات والنشر وليس قانون الجزاء العماني..لأن التعويض حسب قانون المطبوعات والنشر أكبر بكثير...كان يطالب بعشرين ألفا .
بعد جلستين نطقت محكمة الاستئناف بالبراءة...قام المدعي بعد ذلك بالطعن لدى المحكمة العليا..والمحكمة العليا أكدت الحكم..
استمرت هذه القضية من 6/5/2007 حتى 27/7/2008 بعد عودتها من المحكمة العليا

هربت من عيد طلع لي عبيد ! :
قضية حمود الشكيلي هي القضية الأحدث في سياق العلاقة الشائكة بين الأديب والمجتمع .. يقول الشكيلي سارداً حكايته : "كنت عائدا من مدينة " نيودلهي" الهندية بصحبة شخصين عزيزين أحببت السفر معهما . في أصبوحة وصولي للوطن، عند الحادية عشر صباحا، أتاني رقم غريب، وسألني المتصل مباشرة " وين حمود أنت الآن؟، اتصل بي أحد يقول إن " الأمن " يسأل عنك في البلد ؟" ، زلزلني صوته ومكالمته بدت هي الأخرى مخيفة ، خاصة أن كلمة " الأمن " كلمة مخيفة ومرعبة في قاموسي اللغوي والفكري . سألته عمن يكون؟ " حمود أنا أحمد ود عمك" ، "كيف عرفت أن الأمن يسأل عني؟" "سيارة غريبة تسأل عنك في البلد فيها رقم 9 وهم تو أمام بيتكم" . خفت؛ متمنيا أن لو أعرف من الذي يسأل عني، ولماذا ؟ .. كنت حينها أنتظر استلام سيارتي من شركة استلمتْها للصيانة. عدت شقتي وجلا خائفا: ثم قلت للجدران الخاوية : زمليني زمليني " بعد أقل من نصف ساعة هاتفني أخي مبينا لي أن الإدعاء العام جاء إلى بيته وبيت الوالدة سائلا عني، وقد استلمت حبيبتي شيماء الورقة وأعطتها إلى أخي. هاتفني أخي مبينا أنهم استلموا ورقة استجواب مفادها ضرورة حضوري لمكتب الإدعاء العام ببهلاء. سألني أخي إن كنت قد أخطأت في أحد أفراد العائلة المشتكية. ثم بينت أني لا أعرفهم كي أخطئ فيهم.. حاول أخي طمأنتي بالتركيز على أنه أحيانا يتم استدعاء المرء بسبب تشابه أسماء ، ثم يتم الاعتذار لهذا المستدعَى كون أن اسمه قد التقى مع اسم شخص آخر ، خاصة وأن 95 في المئة تقريبا من قريتنا كلهم من قبيلة واحدة، فتجد في القرية أكثر من عشرة أشخاص اسمهم حمود الشكيلي، فعائلتي مثلا فيها ثلاثة أشخاص أسماؤهم مثل اسمي. ارتحت كثيرا للفكرة التي حدثني عنها أخي . سألني إن كنت قد ذكرت اسم أحد هؤلاء الثلاثة الذين في الورقة التي في يده في أحد الكتابين الذين أصدرتُهما لقصصي ، فأجبتُه أنني لا أظن أن اسم أحدهم في أيٍّ من قصصي . بينت له أني لا أجيد كتابة القصص عن أي بشر أعرفهم، وإني لا أحب أن أكتب أي شيء قد حدث. أو عن أي شخص أعرفه. اقترح أن نسأل أحد معارف هذه العائلة، وأراد أن يكون هو المتصل، ثم أصررت أنا أن أتصل. تفاجأت بانزعاج الشخص الذي اتصلت به، كان صوته عاليا في المكالمة وقال :" يا حمود أنت ما حد سلم من كتاباتك،اتق الله في نفسك ولا تسب الناس بالقصص " كيف تقول إنهم يتعاطون الكيف وأنهم حمير؟!".
ثم يبدأ الشكيلي بالحديث عن القصة موضوع النزاع فيقول : " بعد تلك المكالمة التي قصدت بها معرفة سبب استجوابي بدعوى "إهانة كرامة" ثلاثة أخوة عدت أقرأ القصة، متذكرا ردود أفعال القراء لها قبل ثلاث سنوات. في اليوم الذي نشرت فيه قصة " رحلة الحمار " أحسست بانتصار داخلي عظيم وأني إنسان لا أشبه الكثيرين من البشر ، كون أن القدر قد رماني في خانة المبدعين، نتيجة لكثرة ردود الأفعال الطيبة للقصة، كلمني أناس لم أكن أعرفهم من قبل على الإطلاق . وما زلت أسترجع صوت طفلة أحد الزملاء التي أصرت على والدها أن تكلمني، وقالت لي : " ليش عمي عطيت الخبزة والجبنة مالك للحمار؟!" .. بعد فترة طويلة ذهبت للبلد، كلما رآني أحد حدثني أنه معجب بالقصة، وباستعادتها لأمكنة متلاشية ومنقرضة من بعض ملامح وجغرافيا ما كان في القرية. بعد شهرين من نشرها في الجريدة جاءني أحد شباب البلد، طالبا مني أن أحوّل اسم شخصية محمد عيد إلى أي اسم آخر في حال قررتُ نشرها في كتاب ، كون أن محمد عيد إنسان حقيقي، وكما بين ذاك الشخص فإن محمد عيد قرأ القصة من ورقة الجريدة التي أُرسلتْ له بعد أن سمع أن اسمه جاء فيها وهو معجب بها كثيرا من هنا قررت أن أغير اسم شخصية محمد عيد القصصية، وهو الاسم الذي كانت في القصة عند نشرها في الجريدة للمرة الأولى إلى اسم آخر عند نشر القصة في مجموعة" شمس النهار من الماء " وهو اسم محمد عبيد . وها نحن كلما هربنا من واقع تفاجأنا بواقع لا نعرف عنه شيئا. وبعد ستة أشهر من صدور المجموعة بدأت هذه القضية.
اسألوا مالك بن فهم :
وبعد أن يجدد نفيه معرفته بالصبي البالغ من العمر خمسة عشر عاما والذي رُفعتْ القضية باسمه يقول حمود : "عرفت بعد أسبوع من بدء المحاكمة أن أفراد هذه العائلة قد عادوا للسكن إلى بسيا ، وأتوها بعد أن أكملوا أكثر من عشر سنوات في مزرعتهم بمنطقة " شوه " وهي المنطقة القريبة من سلوت، وهم مصرون أن القصة تقصدهم وتعنيهم وقد أهانت الأحداث كرامتهم حسب ما يدعون ، علما أن نهاية أحداث القصة تدور في منطقة " سلوت " وهي المنطقة التي لا تملك فيها هذه العائلة أي سند يستطيعون من خلاله أن يثبتوا أنهم من سكان منطقة سلوت، وهم قد تحججوا لدى القاضي أنه " لو لم يكن يقصدنا لاختار مكاناً آخر ، كالحبي أو المعمور" ، وأنا هنا أؤكد أني لم أختر مكان القصة، وإنما مالك بن فهم كان قد اختار قبلي أن تكون واقعته الحربية مع الفرس في منطقة سلوت . فالقصة تتبع أثر المكان الذي انتصر فيه العمانيون، وما كان منها إلا أن تختار سلوت كنهاية لأحداث القصة ولقربها من قريتي " بسياء " . وقد عرفت أيضا أن هذه العائلة علمت متأكدة أن الاسم الأول في القصة كان محمد عيد ، وهم يرددون الآن " سلم من أولاد عيد وطاح في أولاد عبيد ". كما تأكد لي أن هناك من حرضهم على رفع القضية مؤكداً لهم ضرورة قرص الكاتب وأنكم ستكسبون القضية ؛ نتيجة أن اسم أخيكم وارد فيها وأن المنطقة التي تسكنونها موجودة ، وأن المسافة بين بسيا وسلوت محددة في القصة.
ملاحظات قانونية :
ختم الشكيلي سرده بتوجيه بعض الملاحظات القانونية للادعاء العام وهي :
" أولا: كان حريا بالإدعاء أن يتثبت من تاريخ وصول الكتاب إلى عُمان ( كونه طبع خارج البلاد ) وأن يتتبع تاريخ أول تعريف بالكتاب من خلال الصحافة، كون أن المادة الخامسة من قانون الإجراءات الجزائية تنص أنه " لا تقبل الشكوى بعد ثلاثة أشهر من علم المجني عليه بالجريمة ومرتكبها " وإذا كانت هناك حجة فتبدأ من بداية نشر الكتاب للجمهور .
ثانيا : لم يلتفت الإدعاء في القضية إلى أن المادتين رقم (36 ) و(42) تخاطبان الناشرين ورؤساء التحرير وليس مؤلفي المضمون، إضافة إلى أن القانون يخاطب في تينك المادتين الناشرين العمانيين وهذا ما تؤكده المادة رقم 20 . كما أنه لم يلتفت إلى قانون الأحوال المدنية رقم 66-99 والذي ينص على أن الاسم لا ينسب ولا يعرف في عمان دون أن تصاحبه القبيلة التي ينتمي إليه الشخص ".
القانون ليس كتاباً مفتوحاً :
حول وعي الناس بالأدب ودوره في المجتمع يرى الروائي يعقوب الخنبشي أن الإشكالية التي نقع فيها أنه لا يوجد وعي لدى الطرفين (الكاتب والمجتمع) بأهمية الآخر .. كما أن الكاتب ليس لديه وعي بالقانون لذلك فهو لا يمتلك الدراية الكافية لتفادي المطبات التي قد تفضي به إلى مآزق .
هذا الحديث عن وعي الكاتب بالقانون يلتقط خيطه المحامي مدني العرضي ، وهو محام سوداني يعمل كمحام ومستشار قانوني بمكتب سعيد الشحري للاستشارات القانونية فيقول : " الدراية بالقانون والفهم الحقيقي له ليس متاحاً بتلك السهولة وكأن القانون كتاب مفتوح يُمكن قراءته بيسر ، فقد لا تتوقع ما قد يحدث في مسائل قانونية، فأنا محامٍ قد أتعرض لمتاهات قانونية في ما أكتب ولكنني مخول للتعبير عن شخص ما والدفاع عنه، وأنا محاسب عن ما أكتب وكيف أخاطب، وقد أتعرض في أحيان كثيرة لمساءلة عندما أتحدث مع مسؤول بإساءته للسلطة، إذا لم أثبت ما أقول ، ومهما حاولنا الوصول إلى الدرجة العالية من الوعي بالقانون الصحيح فلن نستطيع. ويتضح مما قاله القاص يحيى المنذري أن المسؤول القانوني ليس لديه الملكة الأدبية لفهم ما يقال أو يُكتَب من ناحية أدبية. ولهذ لا يجب أن نضغط على الأديب بقوانين قد تكون في غير صالحه أو صالح المجتمع، فالطيب صالح على سبيل المثال كتب ووصل إلى العالمية لأنه كتب عن الواقع وأسبغ عليه الجمال الأدبي وهذا أمر يثري المجتمع ، أما إذا ما استخدمنا القانون كحجر عثرة أمام الأديب فإن ذلك قد يضر الأديب والمجتمع الذي لم يفهم هدف الأديب العام".
يتفق يحيى المنذري مع المحامي مدني العرضي ( وهو بالمناسبة أحد المحامين الذين أُوكِلتْ إليهم قضية المنذري ) في هذه النقطة ويؤكد أنه : "من المفترض ألا تؤطَّر أفكار الكاتب الذي يكتب كتابة إبداعية كالقصة والرواية والشعر بقوانين معينة، والحقيقة لم أطلع قبل القضية التي اتهمتُ فيها على قانون المطبوعات والنشر رغم معرفتي بوجوده وحين كنتُ أكتب لم أكن أكتب والقانون في رأسي، كنت أكتب من أجل الكتابة فقط؛ لأن الكتابة تأتي قيمتها من صدق الكاتب في التعبير عما يكتبه. الكتابة الأدبية تختلف عن البحث والمقال ، فالمقال من الممكن أن يتعرض للقضايا ويحللها وتكون موجودة في الواقع لكن الكتابة في الشعر والقصة والرواية دائما ما تكون ممزوجة بالخيال بمعنى أنها كتابة فنية خلقت لتكون قطعة فنية أدبية، وخصوصا في مجال القصة القصيرة وهي حالة مركز من حياة أو واقع ممزوج بالخيال".
القاص الخطاب المزروعي تحدث عن تعامل الأديب مع نصه لحظة الكتابة فقال : "أثناء كتابتي للنص الأدبي أكون بمعزل عن العالم وما يربطني بالشكل المباشر المتعارف عليه، وإذا كان الكاتب أثناء كتابته سيستحضر الرقيب الاجتماعي أو السياسي أو الديني أو غيره فلن يستطيع الكتابة أبداً، ولن يستطيع أن يعبر عما يدور في داخله ولن يستطيع أن يساهم في تقويم ما يراه معوجا أو كما يقال " أن يقبح ما يراه جميلا ويجمل ما يراه من قبح في هذا العالم" فحضور الرقيب يسيء إلى النص ويدخله في الفجاجة، ويغيب الدهشة والجمال" .
هذه الدعوة لتنحية الرقيب جانباً وجدتْ صدى لدى القاص يحيى المنذري الذي قال : "في رأيي لا يجب على الكاتب المبدع إبداعا أدبيا فنيا الالتزام بقانون لأنه لا يكتب عن الواقع ولا يكتب مقالاً أو بحثاً، وإذا ما تمت محاكمة أي كاتب في سياق الموضوع الذي نتحدث عنه من السهل لأي شخص أن يتقدم بشكوى" ، وللتدليل على فكرته يوجه المنذري حديثه إلى مدير الحلقة : "إذا كتبتَ عن شخص اسمه عبدالفتاح المنغلق من السهل أن يأتي من اسمه عبدالفتاح ويتهمك. من هنا المفترض على الإدعاء العام ألا يقبل مثل هذه الشكاوى في الأصل".. يعود الخطاب المزروعي لتوضيح نقطته السابقة بالقول : " أرى أن الكاتب لا بد أن يعي تماما القانون حتى يستطيع بطريقة أو بأخرى أن يجابه ما قد يحدث له من مشاكل كالتي حدثت معكم" . من جانبه يؤكد خميس قلم نقطة مهمة وهي ثقافة الكاتب أو الأديب : "المعرفة التي يكتسبها الكاتب سواء كانت في القانون أو السياسة معرفة مهمة جدا حتى لا يكون القانون بعبعاً أو أداة تسلط عليه بكل سهولة، وهذه المعرفة بالقانون تساعده على استخدامها للدفاع عن نفسه فيما بعد، فالاطلاع على مواد القانون ليس عصفا للابداع نفسه وإنما قد يكون المنقذ له ".
حمود الشكيلي يتفق مع يحيى سلام المنذري في دعوته للادعاء العام إلى رفض مثل هذه القضايا الأدبية مبرراً ذلك بأنه (الادعاء العام) خسر أربع قضايا من هذا النوع حتى الآن ، "إذن لا بد من رفض مثل هذه القضايا من الأساس. أما في حال إصراره (الادعاء العام) على قبول مثل هذه القضايا فينبغي عليه تدريب مجموعة من أعضاء الادعاء العام من كل منطقة لدورات خارجية في مجال الأدب وأبعاده ، يتم التركيز خلالها على أن الأدب أساسه الخيال والفن ، وأن تقاطعه مع الواقع أحياناً ليس سوى من قبيل المصادفة" .. لكن
يحيى المنذري يعود إلى القول: "لا نستطيع أن نقول للادعاء العام، بأن أية شكوى مرتبطة بالأدب يجب رفضها، لابد من وجود حلقة وسط بين الرفض والقبول، فالأديب كما أتصوره هو امرؤ نبيل ، ولا يتخذ من الأدب وسيلة للإساءة إلى الآخرين وإزعاجهم . أما الذي يخرج عن رسالة الأدب السامية فينبغي أن يعاقب مثله مثل غيره من مرتكبي الجرائم .. لابد أن تكون هنالك منطقة أو قانون محايد بالنسبة للادعاء العام، أما أن يرفض فلا أعتقد".

طريقة محاكمة النص الأدبي :
وجهنا سؤالاً مفاده : هل النص الأدبي فوق القانون وأنه لا يجب أن يحاكم كاتبه بأي حال من الأحوال ؟ ، فأجاب الخطاب المزروعي : "على النص أن يُحاكم بالطريقة التي خرج بها فالنص الإبداعي نص جمالي يعبر عن حالة إنسانية معينة لا تحاكم كما تحاكم جريمة وإنما يحاكم النص الأدبي بمحاكمة أدبية نقدية ، فليس معقولاً أن أصدر مجموعة قصصية أو رواية أو مسرحية أو مجموعة شعرية فيزج بي في السجن! .
سألناه : ولِمَ لا يُزَج بك في السجن مادمتَ خالفت القانون؟
يجيب الخطاب المزروعي: "عندما يرد اسم الخطاب في نص أدبي فهذا لا يعني أنه الخطاب المزروعي نفسه. المشكلة أن المجتمع لا يفرق بين الأدب وبين "التقصد أو الإساءة بكلمة أو باتصال أو برسالة" . النص الأدبي لا يُسيء، النص الأدبي يعكس ما وصلت إليه الأمة من تقدم وحضارة في فنها وأدبها، ونحن نعلم أن هنالك أعمالاً متقصدة (الإساءة للآخرين ) ولم يُتعرض لها، أقصد بذلك أن هذه النصوص غالبا ما تمر بمراحل من التدقيق ومن ثم تنشر" .
وهنا طرحنا على الجميع هذا السؤال : نجد أن الكثير من الأدباء إذا ما تعرض أحدهم لمثل هذه المواقف يهبون جميعا لنجدته، من منطق "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" ، دون حتى أن يتساءلوا : هل أخطأ هذا الأديب أو خانه التعبير فدخل دهاليز محظورة قانونيا أو مجتمعيا أو سياسيا ؟ .. فهل من المفترض الدفاع عن الأديب في كل الحالات من قبل الأدباء الآخرين؟
الشاعر خميس قلم انبرى للإجابة بالقول إن الأديب أو المثقف هو أقدر على فهم زميله لأن لديه وعياً بالمسألة الفنية الأدبية، بأن هذا النص المقدم هو نص من الخيال، نص لا يقوم على واقع فيزيقي. ثم إن غاية الأديب أسمى من أن يذكر فلان أو علان في النص للمبدع الحقيقي، والأديب الحقيقي لن يدافع عن شخص أو أديب آخر إلا إذا كان على معرفة تامة به.

حتى لا تكون "قبيلة الكتّاب" ضد المجتمع ودولة المؤسسات :
الأكاديمي والمترجم والمثقف عبدالله الحراصي لديه رأي مخالف لرأي خميس قلم ، وهو – أي الحراصي – اعتذر لظروف خارجة عن إرادته عن حضور الحلقة ولكنه وافق على المشاركة في النقاش بالكتابة ، مشترطاً نشر مداخلته ككتلة واحدة ، وها نحن نفعل :
" من شنيع الأمور التي يقع فيها الكتّاب تحت إغراء الانفعال الجمعي وإغوائه تحويل أنفسهم إلى قبيلة يتكاتف أفرادها لما يعدّونه مصلحة تجمعهم، وكما قال الشاعر الجاهلي حول قبيلته غزيّة فإنك تجد معشر الكتّاب يغوون حين تغوى قبيلتهم ويرشدون حين ترشد، وإن غوى أحدهم يغوى البقية تحت تأثير الانتصار لفرد قبيلتهم الذي آثر الغواية. وليتها كانت غواية حقيقية!!
أعني بالمقدمة السابقة أن الكتابة بدلاَ من أن تكون شكلاً من أشكال توسعة الكون بالمختلف والمتمايز عمّا هو سائد من رؤى وأفكار ترسخها الأيام والتقاليد والمصالح في الأدب والفكر، بدلاً من هذا فإنك تجد دعوة لخلق مجموعة بشرية تمارس ذات الرؤى والأفكار التي ينبغي أن تتمايز عنها وتختلف، وهي "قبيلة الكتّاب". أرى بكلمات أخرى أنه لا ينبغي أن يوجد شيء اسمه "قبيلة الكتّاب" بحسب المنحنى الذي نراه يتصاعد في عمان، ويتجلى خصوصاً في بعض الأحداث الصغيرة التي لا ينبغي الالتفات الحقيقي إليها والتي لا تعبر عن تأزم اجتماعي يستدعي مواقف تنطلق من قيم حول حريّة الرأي والتعبير.
هنا أوضح أمراً مهماً وهو أن حديثي هنا لا يعني الدعوة إلى عدم اتخاذ الموقف، بل إن اتخاذ الموقف، الفردي والجمعي، في حينه الحقّ هو أمر واجب لا محيد عنه، ولكن الأمور ليس على الإطلاق الذي يتم استسهاله في كثير من الأحيان. هناك أمران ينبغي إيضاحهما هنا. أولهما أن الكتابة التي تجذب المواقف المساندة والمعاضدة هي تلك الكتابة التي تحمل موقفاً يشترك فيه الكاتب ومن يسانده ويعضده من الكتّاب أو غيرهم، وهنا فإن المعيّار ليس الاشتراك في فعل الكتابة من قبل الكاتب ومن يقف معه، وإنما الموقف الذي يشتركون فيه ويرون وجوب التضحية من أجله انطلاقاً من منظومة فكرية يعتنقونها. الأمر الثاني وليد الأمر الأول، ومفاده أن أفراد المجتمع، من يكتب منهم ومن لا يكتب، يختلفون في منظوماتهم الفكرية في رؤية الكون والحياة، وتبعاً لذلك فإنهم يختلفون في مواقفهم المتباينة، وهنا فإن المواقف التي يعبر عنها الكتّاب تجد ردود فعل مختلفة من القرّاء المختلفين، كلّ بحسب رؤيته وتقييمه، بمعنى أن الكاتب يجد من يسانده ويعضد فكرته، ويجد في الآن ذاته من يختلف معه ويرى الخلل فيما يكتب.
نأتي الآن إلى أمر يعلو على المواقف المتباينة المنطلقة من منظومات فكرية مختلفة لأتحدث عن مطلق حريّة الموقف والكلمة، وهذا حقّ إنساني. أستدعي هنا القول المأثور "أختلف معك ولكني سأموت دفاعاً عن حقك في قول ما تعتقد"، الذي يفيد بحق الفرد، كاتباً كان أم غيره، في التعبير عن رؤاه المختلفة في مجالات الثقافة والمجتمع والسياسة وخصوصاً نمط الحكم وأداءه وسواها من المجالات، وضرورة قبول حق حرية الفكر وحرية التعبير لأنه حقّ إنساني أولاً وللفائدة التي يجنيها الفرد والمجتمع من خلال الاختلاف في الفكر والاختلاف في التعبير. أستدعي هنا كذلك قولاً ينسب لمكسيم غوركي يقول فيه "جئت إلى هذا العالم لكي أختلف معه". الفكر الحقيقي والتعبير الحقيقي هما أمران يخالفان ما هو سائد بالضرورة.
ومخالفة السائد، فكراً وتعبيراً، حقّ للإنسان، وقد نصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه "لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية". حقّ التفكير والتعبير هو إذاً حقّ لازم من حقوق الإنسان، ولكن، وهي "ولكن" كبيرة، علينا أن لا نخلط حقّ الرأي والتعبير بقضايا مختلفة تماماً عنها. بمعنى آخر أن حريّة الرأي والتعبير لا تعني أبداً أن كل ما يأتي مكتوباً هو أمر يعبّر بالضرورة عن حريّة الرأي والتعبير ويستلزم الدفاع عنه ومعاضدته. يستطيع الآن أي شخص أن يتعرض بالشتائم لشخص ما في شخصه وفي أسرته مثلاً، غير أن هذا ليس من قبيل حريّة الرأي والتعبير، وإنما هو تعرض لشخص أو لأسرة تم من خلال استخدام الكتابة. لا الكتابة مقدسة ولا الكتّاب مقدسون، والأمور ليست على إطلاقها.
لنأت إلى ما تشهده المحاكم العمانية بين فينة وأخرى (ويحدث هذا في كثير من مناطق العالم) من قضايا يثيرها بعض أفراد المجتمع يرون أنهم تضرروا بشكل من الأشكال جرّاء كتابة ما، وعلى الأخص حين يرى هؤلاء الأفراد أن كاتباً ما وصفهم، بالتحديد، بأوصاف سلبية في نص أدبي في الغالب، وقصصي في الأغلب. هنا علينا تمييز نقاط عديدة أهمها أن من حقّ الإنسان الذي يرى أنه تضرر بشكل يراه أن يذهب إلى المحكمة ليشتكي. هذا حق من حقوق الإنسان. يقول الإعلان العالمي لحقوق الإنسان "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق"، ويقول "لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة"، ويضيف "لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لإنصافه عن أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها له القانون". هنا فإن الشخص المشتكي رأى بأن كرامته الشخصية قد انتهكت بما ورد في الكتابة التي يشتكي عليها.
هنا يأتي سؤال يتعلق بقضية تفسير النص الأدبي: ما الذي ينبغي أن يحدث في الأمور المختلف حولها؟ أي حين يرى شخص بأن كرامته الشخصية الفردية قد انتهكت في كتابة ما، فيما يرى الكاتب بأنه لم يقصد فلاناً بذاته وإنما قدّم للقرّاء شخصية أدبية متخيلة وليست موجودة حقيقة. أرى أن علينا أن نعود إلى الواقع هنا: الأمر يعتمد على الوعي الاجتماعي في المجتمع بأكمله، وبما أن قضايا من هذا القبيل تتكرر بين فترة وأخرى فإن هذا يعني بأن المجتمع ما يزال لا يميل للرؤية التي يعتقدها الكتاب، وما زال العديد من الناس يقرأون الأدب قراءة لا تنفصل عن ذواتهم ولا يعتبرونه خلقاً أدبياً وإنما نصاً يتقاطع مع واقعهم في دوائر يرونها موجودة وواقعية، خصوصاً حين يحمل النص الأدبي ما يرونه من دلائل تدلّ عليهم كوصف منطقتهم أو وصف أشخاصهم. كما أن قبول القضاء لهذه القضايا يصب في الدلالة على ذات الظاهرة، لأن القضاء جزء من المجتمع، وسبيل من سبل تنظيم المحافظة على حقوقه، ومنها حقوق الأشخاص الذي يرون بأنهم متضررون من الكتابة بشكل من الأشكال.
علينا في هذه الحالة أن ندافع عن حقّ المتضرر في الدفاع عن حقه الأصيل، أي الدفاع عن نفسه إزاء ما يراه انتهاكاً لكرامته، وكذلك عن حق الكاتب في الدفاع عن الرؤية التي يراها، غير أن ما ينبغي ألا نفعله هو أن نقف تلقائياً مع الكاتب لمجرد أنه كاتب، فالكتابة موقف وليست استقواءً على المجتمع. بكلمات أخرى علينا أن نترك الأمر للعمليات القضائية بمختلف أشكالها لتحل أمر هذه القضايا الفردية. لماذا؟ أولاً لأن هذه الحالات ليست من قضايا حريّة الرأي والتعبير، وإنما قضية اجتماعية بين فردين تصادف أن أحدهما كاتب. ثانياً أن السعي للتدخل في عمل القضاء هو ضد العملية التي ينبغي أن يدافع عنها الكتّاب، وهي قضية تعزيز دولة المؤسسات والقانون.
وبعيداً عن القضايا الفردية التي ينبغي أن تترك للمحاكم فإن من الواجب القيام بمزيد من النقاشات حول الظاهرة بعمومها وليس في حالاتها الفردية، أي عن الأمر الذي يجعل مثل هذه القضايا تتكرر، وعن أبعاد الكتابة الإبداعية والاجتماعية وعن القوانين المتعلقة بها، وأن تتم مثل هذه النقاشات وعملية التوعية بمسؤولية تحفظ حقوق الجميع، وعلى الكتّاب، في رؤيتي المتواضعة، أن لا يقدموا أنفسهم باعتبارهم قبيلة مقدسة تستطيع أن تتجنى على من تتجنى عليهم دون أن يقعوا تحت قوة القانون، وألا يتكتلوا ضد المجتمع ملوحين بسيف الكتابة الذي يحملونه. ومن الواجب كذلك توسيع دائرة التوعية والمناقشات للمجتمع بأكمله، ولمؤسسة القضاء باعتبارها مؤسسة اجتماعية ينبغي الحفاظ على حياديتها، بالمزيد من الوعي المسؤول حول الكتابة وحول التمايز بين عوالم الكتابة وعالم الواقع.
مادتان في القانون :
يقول سعيد الحاتمي: أتصور أنه في قانون الجزاء العماني مادتان ، إحداهما من الممكن أن تزج الكاتب كمتهم والأخرى كمنقذ، التهمة كانت بالنسبة لي ولحمود ويحيى هي نفسها وهي "إهانة الكرامة"، فإهانة الكرامة قد تكون باللفظ أو الإشارة أو بالكتابة أو حتى الرسم، والادعاء العام دائما يستند إلى الكتابة التي يعتبرها "إهانة كرامة". أما المادة الأخرى فهي تٌبنى على (اليقين)، بمعنى أن يكون الادعاء العام متأكدا ومتيقنا تماما بالشخص المقصود، فإذا ذكرنا على سبيل المثال محمود عبيد في قصة أو ما شابه وأتى شخص للشكوى ثم أتى شخص آخر بالاسم نفسه للشكوى ومن المكان نفسه فإن القضية تسقط.
يحيى المنذري: من المفترض ألا يتم استدعاء الكاتب إلى مركز الشرطة في حال حدوث مثل هذه الشكاوى أو حتى تحويلها إلى الادعاء العام، بل تحول إلى هيئة مستقلة تخص المطبوعات والنشر أو الإعلام، ويكون هنالك قانون واضح بهذا الخصوص غير قانون المطبوعات والنشر الذي أصدر في الثمانينيات ولم يحدّث حتى الآن؛ احتراما لمسألة الابداع وأن لا يعامل الكاتب كالسارق .
جرح اللسان لا يندمل :
المحامي مدني العرضي يرى أن جرائم النشر والتعبير عن الرأي غالبا ما تُدخل الأشخاص إلى الحجز ، "وفي اعتقادي يجب أن تصنف هذه الجرائم بشكل آخر لأن مسألة الحرية هذه مسألة مهمة جدا للكاتب، ولكن في الوقت نفسه لابد من الحذر لأن "جرح اللسان لا يندمل" فقد تؤدي بمجتمع قروي أو مدني في متاهة غريبة من خلال كلمة واحدة.إذن لابد من الحذر ،قال تعالى" يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين".
تساؤل بعض المشاركين : "لماذا يُحاكم الكاتب فقط في قضايا كهذه ويُترك رئيس تحرير الجريدة التي نشرت النص أو صاحب دار النشر التي طبعت الكتاب ؟ " مدني العرضي رد على الفور : "لأن الكاتب هو الحلقة الأضعف" .. ثم تداخلت الأصوات بين مؤيد ومعارض للزج برئيس تحرير الجريدة أو صاحب دار النشر في قضايا كهذه.. يقول سعيد الحاتمي: "منطقيا رئيس التحرير لا يستطيع كشف ما إذا كان الاسم المذكور في القصة المنشورة في جريدته أو غيرها من أنواع الأدب حقيقيا أو أن الأديب يقصد شخصا بعينه". وأضاف يحيى المنذري: "رئيس التحرير لا يستطيع معرفة إذا ما كانت هذه القصة ستتعرض لمحاكمة أم لا بسبب اسم شخص وارد فيها، بينما يكون العكس في حال نشر مقال صحفي تعرض لشخص ما بعينه كإهانة كرامة وإذا كان ذلك، فالصحيفة لن تنشر المقال".
وهنا أعرب الخطاب المزروعي عن معارضته للمنذري : " أنا لا أوافق يحيى، فقد أرسلت مقالة إلى إحدى الجرائد وتم رفضها لأن فيها جملة تقول " البعض يتعامل مع البعض الآخر بثقافة الرئيس الأميركي (الابن) جورج بوش،" من ليس معنا فهو ضدنا، ثقافة العبيد" رغم أنه قبل ذلك بفترة بسيطة نشر تصريح جورج بوش في الصحيفة نفسها بالصفحة الأولى، أنا لم أتعرض له، بل قمت باقتباس تصريحه ليس إلا".
خميس قلم: شخصيا أنا لستُ مع تحميل المسؤولية للمؤسسة الثقافية سواء كانت جريدة أو وزارة أو غيرها، على الكاتب أن يتحمل تبعات عمله؛ لأن المؤسسة إذا ما شعرت بأن شيئا من الممكن أن يهددها فإنها ستضع قيودا ، وبالتالي قد ترفض أي عمل بمجرد الشك بأن هذا العمل سيعرضها للخطر، وهذا سيحد من حرية التعبير والكتابة. لذا الأفضل أن نجعل الجرائد مفتوحة والكاتب هو الذي يُحاكَم؛ لأن الأديب هو الذي يكتب والجريدة مجرد ناشر"
يجب أن تتغير النظرة :
طرحنا سؤالا عن كيفية جسر الهوة الواضحة بين الأديب والمجتمع؟ ليس فقط من ناحية محاكمته ، وإنما أيضا من ناحية الإقبال على الأدب؟ ، فكانت الإجابات كالتالي :
يعقوب الخنبشي : جسر الهوة بين المجتمع وبين الكاتب بحاجة إلى الكثير، لا نستطيع حصره في هذه الحلقة، إنها تبدأ من الاهتمام بالتعليم وتطويره وإدخال مثل هذه الكتابات وهذه الآراء والنصوص داخل المناهج الدراسية، والاهتمام بالجانب الثقافي ونشره إلى القرى البعيدة كذلك.
خميس قلم : لن تتغير نظرة المجتمع إلى النص الأدبي مالم تتغير نظرة المجتمع إلى الكاتب نفسه، فالكاتب لابد أن تكون له الحظوة في المجتمع، في العادة الكاتب هو موظف ويكتب، ولا يوجد هنالك كاتب متفرغ للشعر أو القصة أو الرواية أو غيره، وبالتالي إذا ما تغيرت صورة المجتمع للكاتب فإنها ستتغير نظرتهم إلى العمل الأدبي.
أحمد البحري (وهو قارئ نهم ، ميزة مشاركته في هذا الحوار أنه غير محسوب على عالم الأدباء أو الكتاب ) يقول : "نظرة المجتمع إلى المادة الأدبية غالبا ما يكون فيها شيء من الجهل بسبب نقص القراءة في المجتمع حتى أن الإقبال على النصوص الأدبية قليل بل ومن خلال ملاحظاتي أرى أن أكثر الكتب التي تشترى هي كتب دينية أو كتب الطبخ ومسابقات س ج ، أما من ناحية الكتابات االأدبية فالاقبال عليها قليل. في فترة كنت أرأس جماعة الفنون الأدبية في المدرسة فاقترح الطلاب علينا بعمل حملة كان عنوانها "معا من أجل القراءة " وهذا يتطلب جهودا كبيرة من قبل المؤسسة وقرارا سياسيا لتصحيح النظرة للأديب ، وأنا أوافق ما قاله خميس قلم بأن نظرة المجتمع لن تتغير إلا إذا تغيرت نظرته للأديب، وكان الشاعر في القديم يحظى بالتكريم والتقدير، أما الآن فإن الناس تنظر إليه بشكل عادي لأنهم منصرفون إلى شؤون أخرى في الحياة بعيد عن القراءة وما شابه.
سعيد الحاتمي: هل يحق للمجتمع محاسبة الكاتب؟ ، بالطبع إذا ما تعرض أديب لشخص معين، ولكننا معشر الكتاب نشعر أن هناك من يتقصدنا، وربما تكون هذه القضايا التي حدثت لنا هي قضايا عادية بالإمكان أن تحدث في أي مكان.
اقتراحات :
وحول سؤال عن الاقتراحات والتوصيات التي يقترحها المشاركون في هذه الحلقة النقاشية كانت الإجابات كالتالي :
يحيى المنذري : أكرر اقتراحي بأنه في حال تلقى مركز الشرطة بلاغا بمثل هذه القضايا في الأمور الأدبية، علي الادعاء العام تحويل القضية أو الشكوى إلى جهة متخصصة غير الادعاء العام والمحكمة، حتى لا يتم معاملة القضايا الأدبية كالتهم الأخرى كسارق أو إهانة أشخاص بالشتائم مثلا ومثل تلك الجرائم الجنائية، ويكون هنالك قانون خاص وإعادة النظر إلى قانون المطبوعات والنشر.
المحامي مدني العرضي : أرى أنه بإمكان الادعاء العام في حال وجود شكوى إخطار جمعية الكتاب والأدباء لانتداب محام لحضور التحقيقات.
خميس قلم: أقترح إقامة ندوة عن الأديب والمجتمع ويكون فيها محور قانوني أيضا في علاقة الأديب بالمجتمع، ندوة موسعة حول هذا الموضوع، بحضور أفراد المجتمع لتتضح الرؤية أكثر .
يضيف الخطاب المزروعي: تكتنف فيها محاور مختلفة كالمحور القانوني ومحور التجربة وعلم النفس والنقد بحضور أكاديميين متمكنيين ومحاميين ومن الادعاء العام.
سعيد الحاتمي: أقترح تطوير المادة 269 وهي مادة "إهانة الكرامة" ويضاف إليها بعض البنود المتعلقة بالكتابة الأدبية بشكل أكثر وضوحا.
حمود الشكيلي: لماذا لا يشترط أن يكون الاسم المذكور في النص ثلاثيا فإذا ذكرت الخطاب بن أحمد المزروعي فأنا أقصده نفسه وهذا واضح وضوح الشمس مع القبيلة. النقطة الأخرى من الممكن السؤال عن وجود علاقة مباشرة بين الأديب وصاحب الشكوى قبل البت في موضوع "اهانة الكرامة" ، فمن غير المعقول أن يهين الأديب شخصاً لا يعرفه البتة
المحامي مدني العرضي : أوصي الأدباء بتوكيل محام ، وهذا من الأمور المهمة جدا؛ لأن الأديب إذا قام بالدفاع عن نفسه قد يحمى وطيسه مما يؤدي إلى ظهور صراع بينه وبين الوكيل أو الادعاء العام . بالرغم من الوعي والمعرفة التي قد يمتلكها الأديب إلا أنه يجب أن يكون إلى جانبه محام ، لأنه (أي المحامي) يعرف كيفية التعامل مع شخص قانوني آخر.
يعقوب الحنبشي : لدي شيء أرغب في الإشارة إليه بأن المحققين ليس لديهم إلمام كافٍ بالأدب كما أشار خميس قلم في الإملاء على أقل تقدير فكيف بالأدب الراقي، أقترح تشكيل لجنة اسشارية من مجموعة من الدكاترة المتخصصين للتوصية في القضية الأدبية، أما أن يأتي محقق لم يكمل الشهادة العامة ليحقق مع أديب فهذه ستكون مشكلة.
سعيد الحاتمي: بإمكان الأديب الخروج من هذه الدائرة بين ما هو موجود في النص الأدبي وبين ما هو موجود في الحياة الشخصية للمدعي، وبعض القضاة يعون لمثل هذا الأمر كما جاء في الإشارة إلى "ود المصلوم".
دور الجمعية :
يعقوب الخنبشي وجه سؤالاً لمدير هذه الحلقة النقاشية : بما أنك أنت يا سليمان المعمري رئيس جمعية الكتاب، هل هناك خطة لتقريب وجهات النظر بين العناصر الثلاثة المتمثلة في الكاتب والادعاء العام والمجتمع؟
سليمان المعمري : هذه الحلقة النقاشية التي ستُنشر لاحقاً على الملأ هي خطوة على طريق التقريب في وجهات النظر بين الأطراف الثلاثة التي أشرتَ اليها .. خاصة أننا وجهنا رسالة خطية إلى سعادة المدعي العام نطلب مشاركته في هذه الحلقة ، وقد وافق مشكوراً على المشاركة الكتابية حول الأسئلة أو الملاحظات التي سترد منكم خلال هذا النقاش .. كما أننا في الجمعية مستعدون لتبني ندوات أو حلقات نقاشية عامة حول هذا الموضوع – كما اقترح خميس قلم - بمشاركة جميع الأطراف : الكاتب والمجتمع والادعاء العام .. ونرحب بأي اقتراحات أخرى يُمكن للجمعية أن تنفذها في هذا الصدد .

أسئلة للادعاء العام :
بعد انتهاء الحلقة وجه رئيس الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء رسالة رسمية للادعاء العام شاكراً له موافقته على المشاركة في هذه الحلقة التي تهدف إلى توعية الأديب والمجتمع ، وطارحاً عدداً من الأسئلة والملاحظات التي خرجتْ بها الحلقة وهي :

1- فيما يخص القضايا المرفوعة على أدباء : هل تتعاملون معها معاملة أي قضية عادية ، أم أن لها تعاملاً آخر ؟
2- ما هي الضوابط التي تجعل الادعاء يصنف شكوى مقدمة ضد كاتب بسبب عمل أدبي على أنها "اهانة كرامة" ؟
3- في أكثر من قضية لاحظ الأدباء أن القضية ترفع على كاتب النص فقط ، ولا ترفع على الجريدة التي نشرت النص أو الناشر الذي نشر الكتاب . فهل هذا لأن الكاتب هو الحلقة الأضعف – كما علق بعض المشاركين في الحلقة - ؟
4- البعض اقترح إضافة بنود للمادة 269 المتعلقة بـ"اهانة الكرامة" تخص الكتابة الأدبية .. ما رأيكم في هذا المقترح ؟
5- ما هي الصلاحيات الممنوحة من الادعاء العام للمحقق في قضية تتعلق بكتابة أدبية .. ( بعض الكتاب – مثل خميس قلم - تحدثوا عن تجاوزات من المحققين بحيث عومل الكاتب أثناء التحقيق كمذنب لا كمتهم ) ؟
6- بعض أصحاب القضايا من الكتاب أكدوا أن أركان القضية كانت غير مكتملة ومع ذلك يصر الادعاء العام على تحويلها إلى المحكمة .. لماذا ؟
7- في قضايا من هذا النوع هل يستدعي الأمر توقيف الأديب وحبسه ( على ذمة التحقيق ، كما حدث لدى الكاتب خميس قلم ) ؟ .. أليست رسالة استدعاء كافية ؟
8- هل يستقصي الادعاء العام قبل تحويل قضية إلى المحكمة وجود أو عدم وجود علاقة شخصية بين المدعي والمدعى عليه ، نظراً لأن أكثر من كاتب أكد عدم معرفته بشخصية المدعي المشتكي عليه ، مما ينفي النية في "اهانة كرامته" ؟
9- ثمة من اقترح أن تحول القضايا المتعلقة بالأدب والكتابة إلى جهة خاصة بهذا النوع من القضايا وليس المحكمة ، لكي لا يعامل الكاتب معاملة المجرمين واللصوص .. ما رأيكم في هذا المقترح ؟
10- هناك من اقترح تنظيم ندوة عامة موسعة عن "الأديب ورقابة المجتمع" تُنَظَّم بالتعاون بين جمعية الكتاب والادعاء العام .. هل ترحبون بهذه الفكرة ؟

ورغم ترحيب إدارة الادعاء العام كتابياً بالمشاركة في هذه الحلقة إلا أنه حتى الموعد النهائي لتجهيز الحلقة للنشر ، لم يصل أي رد ، علماً بأن رسالة الجمعية وُجّهت بتاريخ 18 نوفمبر 2009 وحددت 24 نوفمبر 2009 موعداً نهائيا لتلقي الردود ليتسنى نشرها في هذا العدد .. وحتى بعد هذا الموعد بيوم كانت هناك محاولات للاتصال بالادعاء ، ورغم تأكيد الأستاذ ناصر بن عبدالله الريامي مساعد المدعي العام أن الرد جاهز ومكتوب ، إلا أن بعض الروتين الوظيفي على ما يبدو أدى إلى تأخر وصوله .. و(نون) يرحب بنشره في العدد القادم ، في حال وصوله .