الأربعاء، 3 أغسطس 2011

يحيى المنذري: قصة قصيرة قد تفعل فعل الإبداع والمتعة والجمال أكثر من خمس روايات !

حوار نشر في ملحق نون-تاريخ 01 أغسطس 2011


عبر أربع مجاميع قصصية ، وكتابة تتجاوز العشرين عاما استطاع يحيى سلام المنذري أن يسجل حضوره البارز في المشهد القصصي العماني .. صدرت مجموعته القصصية “نافذتان لذلك البحر ” عام 1993 حينما كان لا يزال طالبا بجامعة السلطان قابوس .. ثم أصدر بعدها “رماد اللوحة” ( دار المدى دمشق .. 1999 ) و”بيت وحيد في الصحراء” ضمن سلسلة كتاب مجلة نزوى مسقط 2003.. هذا الحوار يأتي بمناسبة آخر اصدارات المنذري وهي مجموعته القصصية “الطيور الزجاجية” ( دمشق 2011 ) التي احتفى بها النادي الثقافي مؤخرا .. سنلحظ من هذا الحوار أن المنذري متقشف في إجاباته ، ربما لأنه يؤمن أن النص وحده هو الدليل على الكاتب :

“· “تشيُّؤ الإنسان هو لعنةُ الحضارة” ، هذِه الفِكرة انطلقت منها معظم نُصوص مجموعتك الأخيرة “الطُّيور الزُّجاجيّة” ..في زمنٍ مُتسارِع تغرّب فيها الإنسان عن ذاتِه برأيِك كيف يُمكن للأدب أن يرُد الإنسان لإنسانيّته ؟

لا أعرف إن كانت وجهة نظرك صحيحة بشأن وجود فكرة تشيؤ الإنسان في معظم نصوص المجموعة، إلا أنني أحترم هذا التفسير وأجد بأن النصوص قابلة لتأويلات مختلفة، وهذا يعني وإن كانت موجودة فإنني لم أتقصد طرحها. أما بشأن السؤال فهل تقصدين الإنسان كمتلقي للأدب وأن للأدب دور في أنسنة الإنسان؟ أم أن الإنسان كمحور أو كموضوع في الأدب؟

في حالة المقصد الأول، فمن وجهة نظري، الأدب أحد العوامل التي تنظم وترتب فكر ورؤية الإنسان تجاه حياته وإنسانيته، بحيث يشعل لديه ضوء ولو بسيط من الوعي والمعرفة بالأمور المخفية في هذه الحياة، فالأدب بما فيه من إبداع وخيال ورؤى وفلسفة وعرض سلوكيات وأفكار وخواطر الناس بشتى الطرق، كل ذلك من شأنه حقن الإنسان المتلقي بجرعات من حب الحياة والناس والخير.

أما المقصد الثاني، فالإنسان عندما يتعامل معه الأدب كمادة أو كمحور..فإن ذلك يعكس تارة صورته الحقيقية في الحياة سواء كان لجوانبه الإنسانية أو الحيوانية أو اي صفة أخرى له..وتارة أخرى صورة متخيلة..أو حلم يتكون ويظل في الورق.

•“بالطّبعِ ذلِكَ ما يودُّ يحيى اضاءته لنا ، وقولِه أن التفتوا إلى أعماقِكم تجدوا حقّا ما هو مُخيف ومُقزِّز” …هذا ما قالهُ سماء عيسى في قراءتِه لمجموعتِك ..أيكونُ إنسان هذا العصر ” طيرٌ من زُجاج” حقّا…؟
أتفق مع عبارة ومقصد الشاعر سماء عيسى، وهذا يقودنا إلى استكمال الفكرة لسؤالك الأول، حيث بإمكان الأدب الكشف عن خبايا الإنسان إن هو تحقق عن المدفون في أعماقه ويبدأ في الالتفات لخيره وشره، ويبدأ في التفكير والتأمل في نفسه، وهكذا، أما عن الطير الزجاجي فهو ربما يكون رمزا للإنسان الذي ما أن ينطلق كالطير بدون قيود بسبب ما يملكه من سلطة أو نفوذ حتى يؤذي من حوله ..وفي نفس الوقت هو زجاجي الصفات كأن يكون هشا وقابلا للكسر ومكشوف النوايا.. إلا أنه يطير ويخترق الحياة. بالمناسبة هذا أحد تفاسيري.

•“للمدينةِ” في أغلبِ الكِتابات العُمانيّة صورةُ “سافِرة” لكأنّها الإغواءُ الحقيقيُّ .. أهي مدينةٌ تُشعُّ “زُجاجا” فتُحوِّلُ إنسانيّة من يأتيها إلى زُجاج ، أم أنّ قاصِديها “طيورٌ زُجاجيّةٌ” بالأصلِ…؟
للزجاج أهمية ودور كبير في حياة الإنسان وله استخدامات كثيرة، كما أن له صفات عديدة ومنها قابليته للكسر والتحطيم وهذا يعتمد على مدى قوته وصلابته، وعند حدوث كسر ما يتحول إلى شيء مؤذ، وعندما تتحول الطيور إلى زجاج أو التفسير الآخر وهو الإنسان من يتحول إلى طير زجاجي ..بالتالي هو من يقضي على المدينة المبنية معظمها من زجاج..فيحدث التكسير الرمزي.

•“يوم واحِد يتلألأ في عينيّ” ، و ” من جِدارٍ أبيضٍ إلى جِدارٍ أسود”.. يُعدّانِ من نُصوصِ التّجرُبة ، إذ كتبتها إثر حادِثٍ وضعكَ بين الحياةِ والموت ،فإلى أيِّ مدىً يُمكنُ للتّجرُبةِ الواقعيّة ولادة نصٍّ جيِّدٍ..؟
هذا أيضا من تفسيرات قراءة الشاعر سماء عيسى ، لكن في الحقيقة النص الأول (يوم واحد يتلألأ في عيني) هو الذي له علاقة بتجربة حادثة السقوط ، أما النص الثاني فليس له علاقة وقد كتبته منذ فترة طويلة قبل الحادثة، والتجربة الواقعية للكاتب لها إرتباط قوي بولادة نص إذا ما أتقن كتابته، ومعظم الكتابات الجيدة كانت نتاج تجارب عايشها الكتاب، وتنعكس في كتاباتهم بطرق مباشرة وغير مباشرة، وفي إعتقادي تكون أكثر صدقا من الكتابات التي لم يعايشها الكاتب.

•“فمهُ المليء بالشّعر يمنعهُ من الصُّراخ ” جُملة مُقتبسة من أولى قِصص المجموعة، و ” في وكرِ الحلّاقين يصطدِمُ بالرّقابةِ الصّارِمةِ والمتطفِّلين” جُملة من آخر نصٍّ في المجموعة …ربط بينهما خالِد الحريب في قِراءتِهِ لمجموعتِك إذ يقول : ” لتُصبِح المِسافة بين فمهِ في بدايةِ النّصِّ وما بداخِلِ جمجمتِهِ في نهايةِ النّصِّ هي الشُّغل الشّاغِل ليحيى سلام المنذري” ..يتفنّن النُّقاد والقُرّاء المُتمكِّنون في تحليلِ النُّصوصِ وإعادةِ تركيبها ، إلى درجة في بعضِ الأحيان لا يقصدها الكاتِب نفسه..في رأيك إلى أي مدى تجد في القِراءات مُلامسة شفيفة لمجموعاتِك ، واِقترابا كنتَ تقصدهُ حقّا غير ما أضفاهُ وحي كاتِب القِراءات وثقافتِه؟
أنا أفضل دائما القراءة المخالفة عما كنت أقصده، لأنني أشعر بأن النص قابل لعدة تفاسير، أي أنه نص غير جامد وغير مباشر، بل يمد المتلقي بأفكار مختلفة ويجعله يتأمل ويفسر، وهذا بالمناسبة شيء ممتع سواء للقاريء أو حتى للكاتب حينما تصله الآراء أو القراءات لنصوصه. وكما تفضلت وأشرت إلى أن النقاد والقراء المتمكنون هم من يقدر على عملية تحليل النص وإعادة تركيبه، وبالنسبة للقراءات التي جرت لمجموعاتي القصصية خلال السنوات الماضية فمعظمها كانت قراءات جديدة للنصوص وبعضها لامس ما كنت أقصده.

•بعضُ الكُتّابِ يُجفِّف اللُّغة إلى حدّها الأدنى ، وفي الوقتِ ذاتِه فإنّه يكثِّفها بأقلِّ الكلماتِ وأبلغِها ، وهو بذلِك يمنحُ القارئ أُفقا أوسع لصُنعِ حكاياه الخاصّة داخِل تِلك النُّصوص ، كما أنّهُ بتلك الطّريقةِ يُحافظُ على الرّمزِ الشّفيفِ الأبعد والأعمق من كلِّ الكلمات…وأنتَ في بعضِ عناوينِ نصوصِك ، وبعضُ الجُملِ اختزلت الكثير..هل تظُن أنّ الكاتِب يعمد بالفِعل لذلِك .. أم أنّ الأمر محضّ وحي..؟..ومن خِلالِ اطّلاعِك على إنتاجاتِ العُمانيين هل ثمّة من قاربَ تِلك الصُّورة أكثر من غيرِه…؟
كل ذلك يأتي بعد تجارب عديدة من كتابة النصوص..من كتاب يحرصون على تطوير أدواتهم وأساليبهم في الكتابة، إضافة إلى تطوير اللغة بكل ما تحتويه من معاني وكلمات وإستعارات ورموز وغيرها.

هو أمر في غاية الصعوبة أعني التحكم في اللغة وأساليب كتابتها المتعددة، والكاتب الذي يستطيع الاختزال والتكثيف في اللغة ينجح في استخدامها وهي أول أداة من أدوات الكتابة.. لأن هناك الحكاية والشخوص والأماكن والخيال وإلى آخر العناصر المكونة للقصة. وأنتِ على علم ربما بأن معظم كتاب العمانيين خلال التسعينيات تبنوا اللغة الشعرية في كتابة نصوصهم وفي معظم الأحوال كانت تسيطر على الحكاية والحدث، فاللغة إما أن تكون عامل جذب وتشويق أو تكون عامل منفر. وهناك الكثير من الكتاب العمانيين يتقنون وبذكاء توظيف اللغة بشكل جميل ورائع، والعكس أيضا موجود فنجد كتاب يقدمون لغة منفرة وفي بعض الأحيان تكون ركيكة وغير مترابطة، ومع الأسف أيضا هي منشورة في كتب.

•مجموعاتك القصصيّة حظيت باهتمام الكثير من النُّقّاد والقُرّاء المتمكِّنين..من خِلالِ مُتابعتِك للمشهدِ الثّقافي العُماني هل ترى حركة نقدية جادّة تُعلي من شأنِ الأدبِ بعيدا عن المُجاملاتِ الشّخصيّة …؟
أرجع إلى أحد الأسئلة السابقة والتي تتعلق بموضوع الناقد أو القاريء أو أي مبدع حينما يقدم قراءة تحليلية لنص ما أو يقوم بإعادة تركيب النص، وأنا في رأيي أن هذا مهم جدا ولا يحدث إلا لنص مبدع، ويحدث من شخص معجب بالنص ووجده مادة شيقة وجميلة ومهمة للتحليل والقراءة. والقراءات النقدية أو التحليلية إن صحت التسمية يجب أن تكون مبدعة ولا تقل أهمية عن النص المقروء، بحيث تقدم المعرفة والمتعة والتشويق، ومع الأسف هذا نادر الحدوث في المشهد الثقافي في عمان..معظم القراءات إما تنصب في المجاملات والتهويمات والتقيد بقوالب جاهزة في النقد أو أن تكون صارمة وجارحة.

•في القلعةِ الثّانية “دراسة نقديّة في القصّةِ العُمانيّة القصيرة” ، للدُّكتور ضياء خضير ، يقول في موضوعِهِ “يحيى سلام المنذري : عُزلةُ الذّاتِ والعُقدِ الموروثةِ من عالمِ الطُّفولة” : “… الشرط الأولي الموجود في هذا النوع من الحكي هو انتساب الأشياء واللغة إلى التمثيل. وهو تمثيل وظيفته الأساسية تقريب الأشياء من الكلمات، ثم الانتقال من الأشياء إلى الكلمات وحدها… …وهو ما يشير إلى استمرار قصور الوعي وتبعية الموضوع للذات.”
لو أخذنا المُقتبس أعلاه بعموميّتهِ ،وعند مُتابعة بعض قِصصِك نرى بالفِعل في بعضِها سيطرة عالم الطُّفولة ، الأطفال ، الدّم ، القلق عليها …هل يُشكِّل الحنين للطّفولة ، والعودة لبساطةِ الحياةِ من جِهة ، والقلق من نحرِ البراءةِ ، والوحشيّة من جِهة أُخرى ..هاجِسا مُلحّا ليحيى المنذري يُجبرهُ على الكِتابةِ وعدمِ الانفلاتِ من مداراتِ تِلك الهواجِس..؟

لا أعتقد بوجود كاتب لم يتأثر بعوالم طفولته، لأنها هي مؤسس حياته كلها.. وكلامك صحيح وتفسيرك مهم، فأنا فعلا طفولتي تسيطر علي وعلى كتابتي ، وتعبيرك بأن هناك “قلق من نحر البراءة” تعبير في محله، فالطفولة هي البراءة، والطفولة رحلت فماذا بقى؟ ولكن لا أرى أي عيب في موضوع وجود الذات في الكتابة ..لأنني ألاحظ هذه النغمة تتكرر عند البعض وكأنها نقيصة أو تهمة..وكيف ينفصل الكاتب عن ذاته..كل الأمر يتعلق بكيفية توظيف الكاتب لها بأسلوب أو آخر.

يتساءَل بعض النُّقّاد لم يدور الأدب العُماني في فلكِ الذّاتيّةِ والسّوداويّة..إذ يروا أنّ أغلبهُ ذو توجُّهِ رومانسي لُغةً وموضوعا من خِلالِ الانجرارِ للطُّفولةِ..الماضي..القرية .. الذّات ، فيما يُلحُّ عليّ تساؤلٌ آخر لمَ لا يُوجِدُ القاص حُلولا سرديّة في خضمِّ سردِهِ للقِصص ، إذ أنّه غالِبا ما يكتُبُ المُشكلات وينقُلها بطريقةٍ إبداعيّة تنمُّ عن فِكرٍ يُمكن لهُ أن يوجِد عِلاجا وإن كان خارِج سياقِ المألوف.. لمَ يعمدُ القاص “غالِبا” للنّهايات المألوفةِ .. أو يوقِفُ السّرد بتقنيّة حُسن التّخلُّص كـ ” أفقتُ من النّومِ” ، “لم يكُن إلّا كابوسا”…أو “..ومضى..”..؟
نعود إلى تعميم النقاد ومحاربتهم للذاتية في الكتابة..وأقول مرة أخرى مهما حاول الكاتب أن ينفصل عن ذاته أو عن طفولته فإنه لا يستطيع ، وحتى وإن حاول طرح كتابات بعيدة عن ذاته نجدها مختبئة بشكل ما في الشخصيات التي خلقها ويحركها كيفما يرى ويقتنع. أما السوداوية فهي ليست موجودة في الكتابات العمانية فقط فنجدها في معظم الكتابات العربية وتختلف طرق عرضها..وربما هي موجودة بشكل عام عند العرب بسبب أوضاعهم الإجتماعية والسياسية والاقتصادية المتشابهة. أما بشأن الشق الثاني من السؤال، فإن الكاتب الذي يسعى دائما إلى تطوير أدواته الكتابية نجده يطرح الحلول السردية (حسب تعبيرك)..ويسعى إلى التجريب المستمر ويهتم بغير المألوف ، ومن جهة الأدب فلا نريد حصره في تقديم مشكلات ونقلها بطريقة إبداعية فالأدب ليس مهمته عرض المشكلات ..الأدب وسيلة تعبير فنية قوية لها فعل السحر في الإنسان تنتشله من جهل الأدب وترسله إلى قمره المشع.. تكشف له عن خبايا وأسرار الحياة ..تنير له دروب جديدة ولا تنسيه دروبه القديمه. وفي نفس الوقت لا أريد أن أحول الأدب إلى “روشتة” علاج..لأن الأدب ليس منهجا تربويا أو طريقة أبوية لإعطاء النصائح والإرشادات. أما بالنسبة للنهايات المألوفة التي يعمد لها القاص فهناك العديد من الكتابات العمانية تخلصت منها..وطالما تبنى القاص التجريب والمغامرة الكتابية نجده يبتعد عن النهايات المألوفة..يبتعد عنها..بعيدا..

•يحدُث أن يتم تسليط الضّوء على نصٍ ما ، فيبرُز دون غيرِهِ ..أغلب الحوارات الّتي أُجريت معك كان التّركيز على هذا النّص كبيرا جدّا ، وفي إحداها سُئِلتَ عن “حبّاتُ البُرتقالِ المنتقاةِ بدقّةٍ” وسرِّ الاهتمام بِه من قِبل المُهتمِّين ، فكان جوابُك فيما معناهُ أنّك لا تُدرِك لم حاز هو دون غيرِه بذلِك الاهتمام .. في رأيِكَ هل يؤثِّر ذلِك على عِلاقة الكاتِب بنصِّه.. هل يُقرِّب رأيٌّ أو اهتمام نصٌّ_ في نظرِ كاتِبه بسيط _لنفسِ الكاتِب ، أو هل يستطيع رأيٌّ ما فِعل العكس..؟
هذا لا يؤثر أبدا على علاقتي بالنص.. وقصة حبات البرتقال كانت ضمن مجموعتي الأولى ..ودعيني أقول ضمن أوائل مغامراتي الجميلة في الكتابة والنشر.. وكنت أعتبر هذه القصة في ذاك الوقت من القصص البسيطة مقارنة بقصص أخرى -في نفس المجموعة- موغلة في الفنتازيا والخيال، ولكنها فاجأتني بشيء آخر ..والآن أجدها من أفضل قصص المجموعة، ولكن .. ومن خلال تجربتي في الكتابة..حينما أنشر قصة ورغم قناعتي بنشرها إلا انني أظل قلقا من ردة فعل القراء..وقد لا أتنبأ بشكل صحيح بما تفعله في نفوسهم بعد أن يقرأوها..وعموما آراء القراء متباينة ووجهات نظرهم مختلفة..فالقصة التي تبدو جيدة من وجهة نظر أحدهم قد لا تكون بنفس الرأي من آخرين.

عدنما نتأمّل العوالِم القصصيّة ليحيى المنذري تطلُّ هلينا كلمات : طِفل ، سرير ، طيور ، زُجاج ، باب مُغلق..إنسان مُعدم ..هل تؤمن بمقولة أن الكاتب تلحُّ عليه دائما نفس العوالم فيعيد كتابتها بطرق مختلفة من عمل أدبي الى آخر؟
قصص البشر والكائنات الحية وغير الحية تتشابه من مكان إلى مكان..ومن زمان إلى زمان..قصص غريبة نسمع عنها في عمان وربما نسمع شبيها لها في أمريكا..الإنسان هو الإنسان..يختلف عن غيره بمقدار المعرفة والبيئة التي يعيش فيها ..ولكن تظل سلوكياته متشابهه إلى حد كبير..وصفة الشر مثلا موجودة في كل مكان ..الفقر موجود..القتل موجود..وهكذا فليس من المستبعد قراءة نص لكاتب عماني يقترب من نص لكاتب من إستراليا..ولما لا..؟ هل إبتعدت عن سؤالك؟ عموما.. هل فعلا صحيح ما ذكرتيه من تكرار تلك الكلمات في عوالمي القصصية؟ ..بصراحة أنا لم أنتبه لذلك..وأحتاج أن أستخدم الطرق الإحصائية في ذلك..وإن كان ذلك صحيحا فلا أعتقد أنه يشكل خطرا علي..ولكن الذي لا أرغب فيه هو السقوط في فخ تكرار أسلوب السرد أو الأفكار..وهذا ما أتمنى أن لا يحدث.

•قسمت “بيت وحيد في الصحراء” إلى قسمين مختلفين تماما عن بعضهما البعض بحيث لو أن أيا منهما نُشِر في كتاب مستقل لاعتبر مجموعة بحد ذاتها .. كما أنك قسمتَ “الطيور الزجاجية” إلى ثلاثة أقسام .. لماذا تلجأ لمثل هذه التقسيمات ؟
نعم في مجموعة “بيت وحيد في الصحراء” نستطيع القول بأن القسمين مختلفين وقابلين للنشر في كتابين منفصلين .. وقد حاولت قبل نشر المجموعه أن اجتهد وأوسع القسم الثاني وأنشره منفصلا .. ولكنني فشلت في ذلك ولم استطع فارتأيت نشره مع الجزء الأول في كتاب واحد ، ولكن في المجموعة الأخيرة فإن الثلاثة أقسام كانت متصلة ومنفصلة في آن..يجمعهم رابط ربما يكون مخفي وسري وربما مكشوف..وهذا التقسيم كان تقنية قصدتها..فأنا انتظر أحد القراء أن يقوم بعملية الربط..أو أن يقول مثلا هذه القصص في هذا الكتاب كانت من الممكن أن تكون مشروع رواية .. أو لا يقول ذلك.. ولا يشعر بذلك ..بل يقول قصص منفصلة وليس لها رابط .. ولكن نعم..لاحظت وأيضا من خلال ملاحظات بعض القراء بأن ثلاث من مجموعاتي القصصية تحتوي على أقسام .. أظن عدا مجموعة رماد اللوحة.

•هل أثرت القضية التي رفعت عليك بسبب قصة “بيت وحيد في الصحراء” على رقيبك الداخلي فيما كتبتَه بعدها من قصص ؟
لا طبعا لم تؤثر على كتاباتي اللاحقة..وتلك القضية كانت سوء فهم من العائلة التي ظنت أنها المقصودة في النص..وهذا غير صحيح..وكما ذكرت آنفا بأن القصص تتشابه..والأشخاص يتشابهون..والأماكن أيضا ..وقد يجد القاريء شبيه له في قصة أو رواية وهو لا يعرف الكاتب ولم يلتقي به.

•“رماد اللوحة” بطلها رسام فقير معدم يرسم ظالميه ليمزقهم على الورق ، وقصة”من جدار أبيض الى جدار أسود” كتبتها بطريقة المشاهد السينمائية .. برأيك تداخل الفنون الابداعية هل يثري النص أم يشتته ؟
من المهم توظيف فنون أخرى في كتابة القصة أو الرواية أو الشعر..وهذا يثري النص ويزيده تشويقا ويوسع من معانيه ويعمق أبعاده..وكل ذلك يعتمد على مدى براعة الكاتب ..وعلى التوظيف الصحيح والمنطقي لهذه الفنون.. وأن لا يكون هذا التوظيف شكلي بدون روح وصدق..وغالبا ما نجد ذلك بدون تخطيط وبدون وعي..فمثلا ينساب فن المسرح ويدخل في القصة ويغنيها بحواراته التمثيلية..وهكذا فن السينما أو الفن التشكيلي.

•كثير من مجايليك من القاصِّين العمانيين جربوا كتابة الرِّواية ( كسالم آل تويه ومحمود الرّحبي ومحمد سيف الرّحبي) في حين مازلتَ أنت وبعد عشرين سنة من الكتابة تصدر مجموعات قصصيّة فقط .. ألم تُغازلك فكرة الرِّواية قط ؟ وهل تؤمن بمقولة زمن الرِّواية ؟
أقدم لهؤلاء التحية والتقدير..وبلا شك أحترم تجاربهم ..ولكن ليس بالضرورة أن أكتب رواية .. وقلت مرارا بأن كتابة الرواية ليست ترقية من عمل أدبي إلى آخر..القصة بحد ذاتها فن مستقل والرواية أيضا..إذن لماذا لا تطالبون الشاعر أو المسرحي بكتابة رواية..هل لأن القصة قصيرة ومع مرور السنوات ستكبر أو ستطول كما يقول البعض على سبيل المزاح؟ وقد طرح علي مرارا هذا السؤال ..وأسمع كآخرين عن زمن الرواية..وكان قبل ذلك زمن الشعر..ولكن ما رأيك بأن هذا الزمن هو زمن الثورات العربية أو زمن “الانترنت والفيس بوك”..وعموما أنا أعشق قراءة الرواية وأعتبرها فن صعب..وكتابتها تحتاج إلى وقت ونفس طويل..وربما حتى الآن لا أمتلك ذلك..وفي الجانب الآخر هناك بعض من كتاب الرواية يرون صعوبة في كتابة القصة القصيرة بسبب عنصر التكثيف فيها، وقد تجدين في بعض الأحيان قصة قصيرة تفعل فعل الإبداع والمتعة والجمال أكثر من خمس روايات..الموضوع في رأيي لا يقاس بطول النص أو نوعه بقدر ما يقاس من ناحية الإبداع الذي يمتلكه وتأثيره على القراء.

•جرّبتَ نقد قصص الشباب في بعض الملتقيات الأدبيّة .. ما الذي يجذبك عادة في نصٍ لكاتب/ة شاب/ة لتحكم أن هذا نصٌّ جيِّد ؟
بغض النظر عن أعمار الكتاب فالنص الجيد هو الذي يمتلك اللغة السلسة والشيقة والإسلوب السردي الممتع والمشوق..والفكرة غير المألوفة .. والأحداث المدهشة ..والنهاية غير المتوقعة .. وبعد قرائتي له يرسخ في ذهني.. وأشهق وأقول حينها: (يا سلام كم هو نص جميل..كم تمنيت كتابته).

الثلاثاء، 2 أغسطس 2011

الحرب الباردة بين الكاتب والمحرر الثقافي 2-2

الثلثاء, 02 أغسطس 2011
جريدة عمان-ملحق شرفات

تحقيق: هدى حمد

هنالك من لم تعد تغريه الكتابة في الصحف، واتجه إلى الكتابة عبر المدونات، وهنالك من يُرجع غيابه عن الكتابة لأسباب منها عدم جدية الملاحق وخلط السمين من موادها بالهزيل، كما يؤكد الأغلبية وجود “الشللية” التي تؤدي إلى تسديد كرة باتجاه ملعب آخر.. البعض يستاء من حكاية الرقيب لذا تصبح المواقع الالكترونية ملاذا آمنا من البتر، فيما يرى المحرر الثقافي تحامل الكُتاب، وترفعهم، كما أنّ مطالبة الصفحات الثقافية بالاكتفاء بالكاتب العماني هو ما يدفع لوضع مواد جيدة إلى جوار مواد سطحية، في ظل عدم الدفع للكتاب الكبار في الخارج..
هكذا نستكمل في هذا العدد من “شرفات” ما بدأناه في العدد السابق من استطلاع رأي الكتاب، ومحرري الصفحات الثقافية حول أسباب الغياب عن النشر في الملاحق والصفحات الثقافية، بالإضافة إلى الغياب عن حضور الفعاليات الثقافية، وترك المقاعد فارغة في أغلب الأمسيات


** بين الكاتب والمؤسسة!

يحكي لنا الكاتب والقاص محمود الرحبي عن معاناة الكتاب قائلا: "الكاتب حين ينتهي من كتابة مقال أو نصه الجديد يتصل بالمحرر ليطلب منه ويؤكد على عدم المساس بنصه "وليده" وعدم بتره فيتفاجأ بالبتر والتشويه سواء كان بالأخطاء أو الإخراج أو ما يفعله الرقيب!"
بينما تشعر الشاعرة والمشرفة على الصفحات الثقافية في جريدة الزمن بدرية الوهيبية أننا جميعا أمام قضية أكبر حجما، وتأثيرا ألا وهي قضية حرية الكتابة.. "فالمسؤولية والحرية المطلقة تضعنا على حافة الفوضى بين ما نعتقده ونطالب به كمثقفين وكتاب وبين مسؤوليتنا كصحفيين وقانون الصحافة والنشر.. أحيانا أشعر بالأسى لوضعنا بين إرضاء الكتاب وإرضاء المؤسسة الإعلامية".

**قررتُ مكافأة نفسي:

تعترف آمنه الربيع أنّه وبسبب الانخراط الكامل في العمل المدني فقدت حميمية تواصلها مع كائناتها الإبداعية الصغيرة "القراءة والكتابة" فهما المبتدأ والمنتهى عندها. "كان الانخراط نابعا من الشعور بالمسؤولية الوطنية والرغبة في التعرّف على مواطن القوة والضعف والتحمل الشخصاني، ومن ناحية أخرى كان لديّ شعور متماسك بفاعلية جمعية الكتّاب والأدباء، لكن على حد كلام سعدالله ونوس "حين يفقد الكاتب الإيمان النسبي بأنه قادر على التغيير فإنه يفقد الدافع للكتابة". ولا أظنني فقدت الدافع للكتابة، فقد أنهيت نصا إبداعيا، لكنني فقدت حميميتي، وصفاء الذهن". وتتابع الربيع قائلة: "لهذا قررتُ أن أحترم نفسي وأكافئها برحمة من عندي، فرأيت أنه لا بد من وقفة تأمل ومراجعة واختبار جديد للذات في ظل الصيغ المتغيرة التي أخذ الخطابان الاجتماعي والسياسي يفرزانها مؤخرا، من هنا شكليا لجأت لبرمجة الغياب، لكن على صعيد التفاعل أجدني متوفرة حسب الجديّة التي ننوء بحملها، سواء مع المؤسسة ضمن اشتغالات اللجنة بالنادي أو بمجلس الإدارة أو مع الأفراد".

** واقع المحرر الثقافي:

ومن وجهة نظر القاص يحيى المنذري هناك عدة عوامل قد تبعد المثقفين عن النشر في الملاحق.. "نحن نطمح بأن يكون للملاحق الثقافية دور فعال ومهم في الحركة الثقافية بالبلد، وهذا الدور لا يكون إلا بوجود المحررين الثقافيين الصادقين والمجدين في عملهم، أي الذين يطمحون في إنتاج ملحق ثقافي رزين وجاد ويستقطب أسماء بارزة. ونجد في بعض الأحيان ملحقا ثقافيا يجمع جميع فئات الكتاب الموهوب منهم وغير الموهوب، بمعنى آخر يقوم هذا الملحق بنشر كتابات سطحية وأخرى متوسطة وأخرى عميقة ومبدعة، وهذا النوع من الملاحق سيفقد الموهوبين تدريجيا، كما أن اهتمام بعض الملاحق الثقافية بنشر إعلانات كثيرة تكاد تغطي مساحات منها يقلل من جديتها، وأعود للمحرر المثقف والموهوب والذي يطمح في عمل ثقافي جاد، فهذا تجده يتواصل مع الكتاب بنفسه ويطلب منهم مواد للنشر، وربما يحاول استكتابهم بشكل اسبوعي ومنتظم، وتجده أول الحاضرين في الفعاليات الثقافية وآخر المغادرين، وتجد تغطياته الصحفية عميقة وناقلة لما دار في الفعالية، لأن هذا هو تخصصه وعمله، وليس محررا في جانب آخر كمجال الرياضة أو الاقتصاد. وهذه النوعية من المحررين هو من يستقطب أكبر عدد من الكتاب إذ يتبادل معهم احترام العمل الإبداعي".
وفي جانب آخر ومن خلال خبرة المنذري واطلاعه في السنوات العشرين الماضية على الملاحق الثقافية المحلية وحضوره الفعاليات الثقافية يقول "استطيع القول بأن معظم المحررين الثقافيين لكي يقوموا بتغطية فعالية ثقافية يحضر الواحد منهم قبل بداية الفعالية (أو ربما في نهايتها أو لا يحضر أبدا) ويسأل عن عنوان الأوراق التي سوف تقدم ويلتقي مع المحاضرين ليطلب منهم إن أمكن نسخ الأوراق أو المحاضرة، وطبعا سيبتهج إن حصل عليها، ثم يرحل حتى قبل بداية الفعالية، فهو ليس لديه وقت –كما يقول- ليحضر الفعالية من البداية وحتى النهاية. ومع الأسف الشديد فإن المشهد السابق يتكرر في معظم الفعاليات الثقافية منذ زمن بعيد، وهي تعكس حالة الوضع في بعض الملاحق الثقافية، فهذا عامل قوي من شأنه إبعاد الكتاب عن هذا المحرر والملحق في نفس الوقت".

** الرتابة سيدة الإبداع
وتجيب بدرية الوهيبية على مداخلة المنذري بقولها: "بسبب الاحباطات التي تواجه المحرر وبحثه عن الأقلام الجيدة يضطر إلى نشر مواد بسيطة ليست ذات عمق، أو إلى إعادة نشر بعض المواد من مواقع أخرى أو إلى نشر أخبار ثقافية ترسلها الوكالات، وبالتالي تنشر في معظم الصحف، أو يلجأ إلى البحث الشخصي عن استطلاع أو قضية تكرر الحديث عنها، أو طرح أسئلة عادية على المثقف لتحريضه على الكتابة والرد - حسب ما يقول الشاعر والمدون معاوية الرواحي- "ما ناقص إلا يسألوا عن: هل حلقت ذقنك اليوم أيها المثقف؟"، وغيرها من النتائج التي لا تخدم الأدب ولا الساحة ولا حتى المحرر أو الصحيفة مطلقا، فتصبح الرتابة سيدة الإبداع.

** زجاجة من نار:
ولدى يحيى المنذري إيمان قوي بأهمية الملاحق الثقافية، كما أنّ لديه تاريخا لا بأس به معها، "منها الجيد والمهم ومنها السيء، فأنا بدأت علاقتي بهذه الملاحق منذ الثمانينات من القرن الماضي، وتحديدا مع الملحق التابع لجريدة عمان.. فقد بدأت أرسل محاولات قصصية لتنشر في صفحة القراء بجريدة عمان، وكان هناك ملحق اسمه "عمان الثقافي" يصدر أسبوعيا مع الجريدة في يوم الخميس، وكنت انتظر إصداره بفارغ الصبر، وعند متابعتي للملحق اكتشفت بأن القصة التي أرسلتها إلى صفحة القراء نشرت في الملحق الثقافي، وكان عنوانها "زجاجة من نار"، وقد فرحتُ كثيرا. واعتبرت ذلك انجازا كبيرا وخطوة مهمة في مجال كتابتي للقصة، وقد نشرتُ معظم نصوص مجموعتي الأولى في ملحق عمان الثقافي. وعندما كنتُ أنتظر نشر أحد نصوصي كنتُ استيقظ باكرا واذهب لأشتري الملحق وافتحه لأجد نصي منشورا فاشعر بانتشاء وسعادة، وبعد ذلك أتلقى الملاحظات والتنويهات من الأصدقاء عن النص المنشور".
وترتبط آمنه الربيع بعلاقة ود بالنشر في الملاحق الثقافية من منطلق أنها كانت بوابة التعرف على الحياة الثقافية داخليا وفي خارج عمان، "حين أكتب أعرف أن هناك متلقيا موجودا بالأفق، سيقرأني وسيتأول المقروء حسب طاقته، لذلك حينما يستفزني الجمال (الرشيق والأنيق) في العمل الإبداعي (مسرح، نقد، موسيقي، طقطوقة، أهزوجة، رواية، قصة، سينما، لوحة) سأكتب عنه وسأدفع به إلى النشر".

** الملاحق وحكاية التغيير!

ويدخلنا المنذري في التفاصيل قائلا: "كان الملحق في ذلك الوقت نافذة مهمة –لم تكن هناك مجلة ثقافية فاعلة في الثمانينات وبداية التسعينات- نطل من خلالها على المشهد الأدبي في عمان ونقرأ من خلالها النصوص والمقالات الجديدة لمبدعين عمانيين وغير عمانيين. ومع مرور السنوات اختلف مسمى الملحق من "عمان الثقافي" الى ملحق "شرفات" والذي تطور إلى ملحق منفصل ومتصل عن الجريدة وأصبح متقدما في إخراجه الفني، ولكنه بعد ذلك دخل في متاهات إخراجيه وفنية فأصبحت تنشر فيه الإعلانات وتم مزجه مع أخبار فنية خفيفة ومنوعات وصور بأحجام كبيرة تملأ مساحة كبيرة من الصفحة، وأصبح اسم الكاتب مجرد نقطة في الصفحة. وكل هذا افقد شهيتي وربما شهية آخرين عن متابعته أو حتى النشر فيه، ولكنه فيما بعد تراجع عن ذلك وها هو في وضعه الحالي أصبح مهما ورجع إلى حالته بقوة، أما بالنسبة إلى جريدة الوطن فقديما كانت هناك صفحة ثقافية يومية ثم تحولت إلى ملحق، ثم اختفى الملحق ورجع إلى صفحة، وهكذا مع مرور السنوات حتى استقر إلى ملحق "اشرعة". كما احتفلت جريدة الشبيبة بتغيير وتطوير في شكلها وشعارها ولكن ملحقها الثقافي اختفى من الوجود وكأنه كان عبئا ثقيلا تخلصت منه الجريدة. ومع التطورات التي حصلت مؤخرا وإنشاء أسرة للقصة وجمعية للكتاب ظهرت ملاحق ثقافية مستقلة عن الصحف وأبرزها ملحقي أقاصي ونون، وهما ملحقان يحررهما بعض الكتاب الأصدقاء وبصفة دورية وبدون مقابل، ويعتمد ذلك فيما أظن على صفة الإخلاص الثقافي وإنشاء نافذة ثقافية مستقلة، وفي اعتقادي بأن هذين الملحقين نجحا إلى حد ما في دورهما الثقافي، ونجد بأن المحررين المتطوعين لهذين الملحقين هما أول الحاضرين في الفعاليات والأنشطة الثقافية..

** غيابي عنها مقصود:

فيما تخبرنا آمنه الربيع بصفة شخصية عن غيابها عن الكتابة في الملاحق الثقافية قائلة: "غيابي عنها مقصود لغاية توجيه كتابتي النقدية للمجلات النقدية المتخصصة والمحكّمة معا". وتتابع قائلة: "هذا الاشتغال يحتاج للتركيز والتكثيف على القراءة، كما أن هذا التوجيه يُضاف إلى السيرة الذاتية، ويُشعر المرء بالرضا الإيجابي المؤقت تجاه نفسه. أمّا الملاحق الثقافية فالقيمة العائدة منها على المشاركة تكون بلا جدوى كبيرة. فالعائد المعنوي متواضع جدّا، ربما يهاتفك شخص قرأ المادة ويريد أن يناقشك فيها، أو يبعث أحدهم برسالة قصيرة، وأمّا العائد المادي فلا "ناقة ولا جمل".
وتقول بدرية الوهيبية في موضوع الملاحق وتعددها، "أرى أن هذه الملاحق تتنافس لجذب الأقلام المهمة بين شرفات وأشرعة ونون فيضيع الكاتب في أيهم يُقدم عمله، وفي كل ملحق منهم لديه أصدقاء وعلاقات شخصية، ومعظمها يطالب بالقلم العماني مهما كان مستواه، لماذا لا يتم تجاوز الأمر ويطلق للصحفي مثلا البحث عن مثقفين عبر الالتقاء بهم خارج المشاركات المحلية الدورية ومعرفة أخبارهم ولقائهم، وطبعا بعضهم سيطلب مقابلا ماديا ولكن لا بأس إن قامت مؤسسة صحفية مدعومة بهذا الشأن وترسل صحفييها لمدة أسبوع إلى الدول العربية والغربية للبحث عن المثقف الأهم . قد تعاني الملاحق فعلا من غياب الأقلام ومعاناة ملء الصفحات الثقافية وتسبب ضغطا كبيرا للمحرر لكنها أمور مؤقتة تعتمد على أوضاع الكتابة واللحظة وعلى الجمود الفكري المؤقت الذي يعاني منه معظمهم. بينما لا يتوقع المشرف على الصفحات الثقافية في جريدة الشبيبة الشاعر خميس السلطي أنّ تعدد الملاحق الثقافية في السلطنة له دور في هذا الجانب، "على العكس تماما إنّ هذا التنوع العددي يوجد التواصل والثراء الفكري، ويجب ألا أعفي المثقف في نهاية المطاف من وجود ظاهرة الغياب"، وينصح يحيى المنذري، في حال إن وجد توجه جاد من أي جريدة بإنشاء ملحق ثقافي فلا بد أن يكون ملحقا مهما، فذلك من شأنه أن يستقطب الكتاب ويشجعهم على الكتابة.

** التنظيم واختيار الوقت:

وفيما يتعلق بالشق الثاني من تساؤلنا.. ذلك المتعلق بالغياب عن حضور الفعاليات الثقافية قال يحيى المنذري: "التغطية الإعلامية لها دور في دعوة المثقفين وإعلامهم بالفعاليات الثقافية، وهذا من مسؤولية الجهة التي تنظم الفعاليات وتنسق مع الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، وكلما كان التنظيم جادا ومخططا له بشكل صحيح كان الجميع يتسابقون للحضور، وكلما كانت المؤسسة الراعية للفعالية تعتمد في التنظيم على مثقفين جادين وملتزمين كانت فعالياتها ناجحة وتستقطب أكبر عدد من الحضور. وبعض الفعاليات تعتمد على الأسماء المدعوة لإلقاء المحاضرة أو الأمسية أو غيرها والجميع يتذكر مثلا عدد الحضور في أمسيات أحياها شعراء مثل نزار قباني ومحمد الماغوط وغيرهما. كما أن موعد ووقت الفعالية مهم جدا، فبعض الأحيان يتصادف إقامة ثلاث فعاليات لثلاث مؤسسات مختلفة في نفس الوقت فيتوزع الحضور والذي هو من الأساس قليل. والمثقف الجاد هو من يحضر الفعالية لأجل الاستفادة والمعرفة، وهذا كما ذكرت يعتمد على عمق الفعالية، أما إن حضر لأجل المجاملة فهذا شأنه وربما له وجهة نظر في عدم حضوره للفعاليات الأخرى". بينما تختصر آمنه الربيع الأمر بقولها: "على المرء أن يُحدد في النهاية ماذا يُريد؟! " إذا كان باغي يحضر للفعالية أو لا".

** ظهور المدونات
وعن أثر ظهور المدونات على النشر الورقي قالت آمنه الربيع: "اكتسى المجال ظهور أصوات ضعيفة ودخيلة بعضها ينعق كالغربان والأخرى تنعب كنعيب البوم، أثّرت هذه الأصوات على جيل آخذ في التكوين، جيل من الكاتبات والكتّاب والفنانين التشكيليين تعرفت عليهم عبر المدونات أو الإيميل، تحمستُ لهم ولكنهم متأثرون بالصنمية والأبوية".
ويؤكد يحيى المنذري أنّ ظهور المدونات لها دور في ندرة النشر الورقي، فالنشر في المدونات بدون رقابة، فالكاتب هو المسؤول عن ما ينشر، بينما الصحافة لم تتخلص بعد من فرض الرقابة على المواد التي ستنشر وفق معاييرها، كما أن المدونة أسرع من الصحافة في النشر، والمدونة تصل إلى قراء في جميع أنحاء العالم، بينما الصحافة يقتصر نشرها في حدود البلد. ويشير المنذري إلى أن الصحف هي الأخرى بدأت عملية النشر الالكتروني وذلك من أجل أن تصل إلى قراء من جميع أنحاء العالم عن طريق الإنترنت، وهذا ما نلاحظه في صحفنا المحلية الآن. وتضيف آمنه الربيع قائلة: "لدينا اليوم جيل قراء من الشباب يكتبون في المدونات وبنظرة مستقبلية متفائلة أظنهم سيحققون ثباتا متقدما، لأنهم يكتبون بلغة العصر، ولا يتعرضون كما تعرضنا لأساليب المحق مع الرقابة، لكن لنحذر برغم أن المؤسسة الرسمية لا تخيف، وأيضا المثقف، لكن السلطة خبيرة في تأويل المجاز".

** "الشللية" والملعب الآخر:
وحول مسألة إن كانت الشللية تلعب دورا في مسألة النشر أم لا فقد شاركنا يحيى المنذري بقوله: "إذا كان هذا موجودا حقا فالمسؤول عنه هو المحرر الثقافي، والمحرر الذكي والموهوب هو من يستطيع أن يتخلص من هذه التهمة ويستقطب مختلف شرائح الكتاب بشرط أن لا يفقد عمق وجدية المادة التي سوف ينشرها"، بينما الشللية لدى المثقفين من وجهة نظر خميس السلطي هي "واقع لا نستطيع التخلص منه "، وتشاطره بدرية الوهيبية الرأي قائلة: "نعم الشللية موجودة في كل المجالات"، وذكرت لنا الوهيبية مثالا في مجال الصحافة.. فالصحفي يركض ويلهث مقابل أن يحصل على سبق صحفي من الكاتب إلا أنه لا يحصل عليه، وذلك ومن وجهة نظرها: "لسبب حقيقي وموجود وهو العلاقات الشخصية التي تكون دائما لصالح المحرر الذي يجلس في مكتبه يتمتع ببرد المكيفات ومحادثات الكترونية وغيرها".
و"الشللية" في تقدير آمنه الربيع لعبت تأثيرا واضحا لتخييب الآمال المرجوة، "الشللية ليست وليدة أحداث معينة أو متأخرة، بل قديمة، لكنها كانت خاملة. خمولها سانده وجود تكتل من الكتّاب المبدعين المتحققين والمستنيرين جنبا إلى جنب، فكانت الشللية السلبية تتراجع حتى تختفي، ولكن ولمجرّد حدوث شرخ أو تسديد كرة باتجاه ملعب آخر، نجد أنّ ما كان خاملا أخذ يتحرك وينمو ويكبر ويتصاعد.


الحرب الباردة بين الكاتب والمحرر الثقافي 1-2

الثلثاء, 26 يوليو 2011
جريدة عمان-ملحق شرفات

تحقيق - هدى حمد

كان هنالك سؤال يهمنا.. توجهنا به إلى عدد من الكتاب والمهتمين بالشأن الثقافي في البلد، وأيضا إلى عدد من الصحفيين الذين يشتركون معنا في التساؤل حول غياب الكاتب عن الكتابة في الملاحق والصفحات الثقافية. فهنالك عزوف عن المشاركة الكتابية، وعزوف عن حضور الفعاليات الثقافية، ونحن نحاول في هذا العدد من شرفات والعدد الذي يليه أن نطرح عدة محاور تنصب في هذه القضية.. قد نظن في البداية أن الكاتب متوقف قليلا عن الكتابة، ولكننا ما نلبث أن نكتشف أنّ له مجموعة شعرية أو قصصية جديدة، ونسبة كبيرة من نصوصها لم تنشر من قبل – وبالتأكيد هذا خيار شخصي- ولكنه مؤشر يشير إلى أن الكاتب يكتب، إلا أنه لا يفضل النشر في الملاحق!
وإذا افترضنا جدلا أنّ الكاتب لم يكتب شيئا جديدا من الشعر أو القصص.. ترى ألا تستثيره الحياة ومجرياتها ليكتب شيئا آخر.. كأن يكتب مثلا عن فيلم شاهده في السينما أو عن قضية ما لفتت انتباهه، عن كتاب قرأه وأحبه.. فهذا الشكل الآخر من الكتابة لا يكتبه إلا القلة القليلة؟ ترى هل يلعب الأجر أو المقابل المادي دورا في المشاركة من عدمها؟
الغياب ليس فقط عن الكتابة، وإنما أيضا عن حضور الفعاليات الثقافية فغالبا ما تكون المقاعد فارغة.. وغالبا ما يقتصر الحضور على من تربطه علاقة بصاحب الفعالية.. وثمة دائما عذر واحد ويتيم وهو غياب التغطية الإعلامية..هل ترى ذلك سببا حقيقيا؟ هل ثمة علاقة طردية بين ظهور المدونات وغياب النشر الورقي؟ أم أنّ التهمة التي تلاحق الملاحق الثقافية بصفة دائمة ستظل قائمة.. ألا وهي تهمة “الشللية”.. فلا يكتب ولا ينشر إلا لأسماء تتكرر دائما؟

**لا تقولوا للمغني غني

تفاجئنا الكاتبة آمنه ربيع بقولها: "لا أعرف لماذا تصرّون على تحويل كل شيء إمّا إلى أزمة أو قضية!! أنتم تبحثون عن أجوبة غير شافية! فليس مطلوبا أن يحضر الكاتب جميع الفعاليات وينشر في كل الملاحق". وتتابع قائلة: في ظفار هناك مَثل شعبي دال يقول: "لا تقولوا للمغني غني حتى يغني المغني من راسه". وترى الربيع أنّ الملاحق الثقافية مجبرة على إثارة القضايا الثقافية في الملاحق المعنية، لأن وظيفة الملحق الثقافي مثل البرامج الإذاعية والتلفزيونية الثقافية..وظيفتها استيعاب كل الأصوات والاتجاهات. وتضيف: "هذه مسؤوليتكم العامة، وربما هذا ما أحاول التخلّص منه". بينما يبدو الكاتب خالد عثمان أكثر جدية وعتبا وهو يقول: "من العيب في عرفنا العماني أن يذهب الكاتب العماني إلى مقر جريدة أو مجلة محلية وهو يتأبط الصفحة التي فيها قصته/ قصيدته/ مقالته مطالبا مقابلها ريالات محددة سلفا أو أن يتصل بالمحرر سائلا عن سعر المادة المنشورة أو متى سيجد في حسابه البنكي المصفر مقابل ما نشر أو كم تعطوني إذا نشرت عندكم؟" ويتابع قائلا: فوق هذا العيب الفاضح سيجد في اليوم التالي عمودا رخاميا يقول فيه المحرر "إياك أعني واسمعي يا جارة" فيجر قلمه على هؤلاء الكتاب الذين يتعاملون مع الأدب بمنطق المال والمكسب والتجارة، ويظل يصرخ إلى آخر قطرة حبر في قلمه الجاف حتى يثبت لك بالأدلة والبراهين الدامغة بأنك كاتب متسول ومادي بحت.. تداعبه بنكتة برنارد شو حين سأله كاتب مغرور: لماذا تكتب يا شو؟ فقال أنا أكتب من أجل المال، ثم سأله برنارد: وأنت لماذا تكتب،؟ فقال المغرور: أنا أكتب من أجل الشرف، فرد عليه برنارد: كل يكتب من أجل شيء يفقده". بينما لا يستطيع يحيى المنذري أن يعمم هذا الظن، لذا قرر أن يكلملنا عن تجربته في هذا الجانب، "الكل يعرف بأنني مقل في الكتابة، فمجموعتي القصصية الأخيرة "الطيور الزجاجية" كتبت خلال ثمان سنوات، واحتوت على خمسة عشر نصا، وبعضها نشر والبعض الآخر لم ينشر، وكما قلتِ ليس من الضروري أن أنشر كل ما تحتويه المجموعة إذ أن هذا خيار شخصي.

** ليس لملء الفراغ

يرى الكاتب والقاص محمود الرحبي أنّ الغياب والعزوف والتقوقع والتلاشي هي مترادفات تُطلق كثيرا على حال المبدع العماني في حقل الآداب والعلوم الإنسانية، وهو الحقل الأكثر بروزا وسطوعا وحركة واعتمالا ونشاطا في حياتنا المعرفية، ويرى الرحبي أنّ أسبابا كثيرة تقف وراء ذلك وأهم هذه الأسباب يعود إلى "إبعاد" المثقف حتى من صياغة القرار الثقافي، والذي يعنيه بالأساس، والزج بعناصر من خارجه لإدارته من "أنصاف مثقفين، أو متطفلين على المشهد الثقافي.. الخ" وإبرازهم لإدارة الحياة الثقافية في عمان..
الشاعرة والمشرفة على الصفحات الثقافية في جريدة الزمن تُصف مع فعل الكتابة والكُتاب، "هذه هي النقطة التي تهمنا كمشتغلين على هذا الفعل، وليس كمحررين همنا الأول هو ملء مساحات الفراغ بصفحاتنا". المتابع للصفحات الثقافية في جريدة الشبيبة خميس السلطي، تصور أنّ الأحداث الأخيرة التي ظهرت في السلطنة والتي أحدثت تغيرات على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، كانت من بين الأسباب الرئيسة التي أوجدت هوّة واضحة بين المثقف العماني وبين الجهات الإعلامية المعنية بالأمر، "لو عدنا إلى بدايات الاعتصامات والمطالبات بتحسين ظروف وأوضاع الفرد والمجمتع العماني، سنرى أن معظم مثقفي السلطنة كانوا ضمن المطالبين بالتغيير والإصلاح، مهما تغيرت توجهاتهم أو تباينت أفكارهم، والصدمة التي أوجدت هذه الهوة هي أن أغلب الجهات الإعلامية لم تكن بدرجة الطموح التي كان يتمناها المثقف حسب تصوره، فهو يرى أنّ الجهات الإعلامية عامة كانت مضللة لنقل الوقائع والصور، بعيدة عن حديث الشارع وبيان المثقف، كما أن هناك بعض المثقفين وحسب ما تتبعنا دخلوا في حلقة شائكة مع بعض الجهات ذات الاختصاص، وربما خروجهم أيضا من هذه الحلقة أوجد لديهم فارق في التعامل مع الإعلام عامة".

** قناعة عدم إلقاء اللوم:

في السابق كان يشغل ذهن آمنة الربيع هذا الهاجس.. لماذا الغياب؟! "شغلني الهاجس من واقع انخراطي في الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء، وحاليا في لجنة الأدب والإبداع بالنادي الثقافي.. ثم وصلت إلى قناعة عدم إلقاء اللوم على المؤسسة، وتصالحتُ مع هذا الأمر. لذلك أخذ الاهتمام بالهاجس يتراجع ويقلّ، ولهذا أسبابه الموضوعية على الأقل كما أراها عندي تتمثل في انشغالي بالتركيز على مشاريعي الإبداعية الصغيرة، كالدراسة الأكاديمية والنقد المتخصص وإبداع النص الدرامي". بينما وصف السلطي الواقع الثقافي العماني بالراكد، إلا ما رحم ربنا، "رغم التنوع الثقافي والأدبي الثري في السلطنة، إلا أن الجهات الرسمية المعنية لم تقم بواجبها على أكمل وجه، ففعالياتنا ومهرجاناتنا الثقافية والفنية دائما ما تكون في قفص الاتهام، فهي غالبا ما تأتي وتنتهي بالفشل في الجانب التنظيمي، الرد الجاهز دائما: "إنّ الموازنات المادية لا تكفي لأن يخرج المهرجان الثقافي أو الفني بنجاح"، ويضيف السلطي قائلا: "الأمر لا يزال يشكل ربكة لكل مثقف عماني، لهذا ابتعد المثقف عن الثقافة والإعلام بصورة خاصة".

** المؤسسة وزمام المال

ويعقد محمود الرحبي مقارنة لواقع حال المبدع إلى جوار اللاعب قائلا: "ما يعيشه أي لاعب متميز من اهتمام وبروز، يوازي في الميزان ما يعيشه المبدع العماني من تهميش وجحود". ويتابع مضيفا: "هنا لا نتحدث عن أفراد أو حالات، وإنما الحديث دائما عن وضع كيان ثقافي وخطط ثقافية.. فلنتصور مثلا عدم وجود مهرجان ثقافي في بلد عريق وراسخ كعمان، أعني مهرجان ثقافي صرف على غرار مهرجان المربد وقرطاج وأصيلة والقرين والجنادرية .. الخ، وغياب كذلك جوائز وطنية أدبية ونقدية. فغياب كل ذلك وما سواه يعني بالتأكيد غياب الفعاليات وغياب الحضور -حضور المثقف- وبالتأكيد يعني الغياب، العزوف، التقوقع والتلاشي.. فهل كل هذا مقصود في ذاته يا ترى؟ من هنا يجب أن يبدأ السؤال. خاصة ونحن نعلم يقينا بأن المؤسسة الرسمية هي من يمسك بزمام المال والقرار في بلادنا. بينما ترى آمنة الربيع أنّ للعزوف ما يبرره حسب وجهة نظر كل مبدع يرتئيها، ولا يجب إلقاء اللوم باستمرار على المؤسسة، "من واقع تجربتي المتواضعة رأيت أن المبدع قادر أن يُقيم علاقة سلبية أو جيدة، ضعيفة أو حسنة بالمؤسسة السياسية أو المدنية، من دون التضحية بما يملك من استقلالية في الرأي، ولديه المسؤولية الكاملة في اتخاذ القرار الذي يراه مناسبا".

** العصامي يصنع مجده

ويؤكد محمود الرحبي على أن الكاتب مبعد تماما عن إدارة الشأن الثقافي، وحتى وإن وجد فإن شروطا كثيرة تطوق رقبته، الأمر الذي ينفره من تفعيل أي شيء فيه. والأمثلة والأسماء كثيرة في هذا المجال وسيرد ذكرها في حينها لو اتقضى الحال.. "هذا الأمر ولد مع الوقت نوعا من العناد والتحارب البارد بين المؤسسات الثقافية - على قلتها وشحة مواردها- وبين الكاتب المتحقق والشغول. سأذكر مثالا عابرا هنا، ميزانية النادي بفعالياته وأنشطته هي مائة ألف ريال فقط حسب علمي، بينما تمّ الإعداد لندوة عابرة استمرت ثلاثة أيام حيث رصد لها قرابة الثلاثمائة ألف ريال."وليفد ما لم يقل" كما قال جدنا الجاحظ. لذلك ظل المبدع العماني -وخاصة المبدع في حقول الأدب- عصاميا بامتياز. وإذا تحقق وخرج اسمه وشاع فإن الفضل الأول والأخير يرجع إليه وحده. ويرى يحيى المنذري من خلال الاطلاع على مسيرة الملاحق والصفحات الثقافية خلال السنوات التي مضت أن قوة الملحق الثقافي تعتمد على صدق وثقافة المحرر، فكلما كان المحرر عميق الثقافة والموهبة وصادقا في عمله كان الملحق قويا من حيث مواده وإخراجه الفني وكان أيضا يشكل مساحة تجذب الكتّاب. وبما أن الصحف المحلية قليلة في البلد فإن الملاحق الثقافية قليلة، وبعض الصحف ليس لديها ملحق وإنما تعتمد على صفحة أو صفحتين في الداخل.

** المال والخطط المتخبطة

الجانب المادي بالنسبة لـ يحيى المنذري هو عامل مهم في استقطاب الكتّاب إلى جانب عوامل أخرى، "بعض الصحف تريد مادة كتابية فقط، ولا تريد أن تدفع مقابلا مجزيا للكاتب، وربما في بعض الأحيان تقول له يكفي بأن أنشر لك، وهي –الصحيفة- لا تفكر أبدا بأنها تجني أرباحا، ولا تنتبه إلى أن مادة ذلك الكاتب ساهمت في تلك الأرباح، ونحن نعرف بأن هناك بلدانا تُقدم احتراما كبيرا لوقت الكاتب، فتعطيه أجرا مجزيا على كتابته، لأن الكتابة عمل، والإبداع عمل، فبإمكان الكاتب عدم نشر إبداعاته في الصحف وسينشرها في كتاب يحمل اسمه لاحقا. وسابقا كتبت مقالا نشر في ملحق شرفات تحدثت فيه عن قيمة الكاتب العماني وتساءلتُ عن مدى تقدير الصحف المحلية للقلم العماني.. وأن أقصى ثمن للمكافأة يمكن أن تقدمها صحيفة أو مجلة محلية للعمود أو المقال أو القصة لا يتجاوز الثلاثين ريالا.. وما زلتُ عند رأيي، وأؤكد بأن عامل المقابل المادي مهم وعدم وجوده أو بخسه يساهم في ابتعاد الكاتب العماني عن الكتابة في الملاحق الثقافية".
ويرى محمود الرحبي أن المقابل المادي هو حق مشروع بل وتكريم للجهد والوقت والعذابات التي يدخل بها الكاتب لحظة كتابته.."ألا يستحق الكاتب التكريم؟"، ويتابع الرحبي قائلا: "ما نفعله هو الدفع للأقلام العربية المستأجرة والتي أجد الغث والتكرار في معظم ما يتناولونه حتى وإن كانت أسماء معروفة. وحكت لنا آمنة الربيع ما دار في إحدى الجلسات التي جمعت عددا من الكتّاب حيث تلفّظ أحد المسؤولين بفجاجة قائلا: "يكفي الملاحق والصحف أنّها تنشر لهؤولاء الكتّاب وكمان يبغوا مكافأة"!!! هذا كلام لا يصدر إلاّ عن ثقافة كُرست فضيلة المن والعطايا والهبات، وللأسف يُدرك المرء المنخرط في الثقافة بشكل عام أن تغيير هذه العقلية صعب كثيرا لأنها شكلّت نسقا راكمه أفكار ضعيفة وسلوكيات متعجرفة، بينما يؤكد خالد عثمان على ضرورة إعطاء الكاتب حقه قبل أن يجف قلمه، وتجف الصحف عن الإبداع.. "إن أول أسباب العزوف عن النشر في الملاحق الثقافية هو تلكؤ الجريدة في دفع أجر كاتب لأسباب واهية، والسبب الآخر هو تواضع هذا الأجر حيث لا يتعدى 10 ريالات للقصة/ الشعر، و20 ريالا للمقال.. هل هذا التعامل السلحفائي يثري الأدب ويرفعه؟ لو صرفت هذه الملاحق أجور الكتّاب بعد أسبوع من نشر المادة لوجدت عندها العشرات من المواد الإبداعية الراقية، ولما وسعت صفحاتها لها، ولكن الكسل يولد الكسل والشح يولد الشح والجفاف والركود والتراجع إلى ما بعد الصفر وإلى المربعات والنقاشات البيزنطية العقيمة، نقاش البيضة والدجاجة، كما إن هذه الملاحق في كل مرة تجدد قديمها دون أن تتطور في كل مرة تدور في الساقية نفسها، وجديدها قديم وقديمها جديد.. منذ أربعين السنة وأسئلة الأدب في عمان هي هي، لأننا لم نتجاوز أنفسنا، نبتعد عن الحقيقة دون ملامستها. الأدب برمته أول مشكلاته في عمان هو الدعم المالي وثانيها الاستراتيجيات المتخبطة والفوضوية وغياب الداعم الجاد والحقيقي له".

** خيبات ومواقف لا تنسى!

من جهة أخرى حدثتنا بدرية الوهيبية عن كم الاحباطات والخيبات التي قد يواجهها محرر الصفحات الثقافية، وقد ذكرت لنا مثالا حصل معها: "قمتُ باستطلاع استطلع فيه آراء المثقفين في شيء معين، وقد تفاجأتُ من أحد الكتّاب.. الكاتب يُرسل لي رأيا بعيدا عما طلبناه ودخل في مناطق يُدرك صعوبة نشرها، ويدرك أنها لا تمت للموضوع بصلة فكان من باب أولى عدم نشر رأيه لسبب رئيسي لأنه ليس المطلوب والسبب الآخر ما زال معلقا في عنق حرية الصحافة المسؤولة، فاتصل يؤنبني لماذا لم ينشر رأيه وأنه عار علينا كمثقفين أن نغتال الكلمة والحرية، فشعرتُ أنّه كان يريد الإيقاع بنا لا أكثر حسب نظرية المؤامرة.. البعض يشعرك بذلك فعلا.. هذا وأمثاله أقسم بعدم النشر في صحافتنا واتجه إلى المواقع الالكترونية والمدونات وهو حر في ذلك".
خميس السلطي أخبرنا أنه لن ينسَ تلك العبارة التي قالها أحد الزملاء المثقفين عندما أراد أن يجري معه حوارا حول ما يجري من أحداث، وقتها ردّ عليه غاضبا: "يجب ألا نتعامل مع أي صحيفة في عُمان، أنتم مضللون وغير صادقين مع أنفسكم ومن الأجدر أن نقاطع صحفكم المطبلة في نقلها للوقائع".. هذه العبارة لا تزال عالقة في مسامع السلطي إلى اليوم

الأربعاء، 13 يوليو 2011

جدران يحيى المنذري تثير جدلا في النادي الثقافي



اسئلة الثمانينات تطرح لليوم .. عن الذات والخصوصية والعالمية!



كتبت: هدى حمد
تصوير: فيصل البلوشي








الثلثاء, 12 يوليو 2011
ملحق شرفات-جريدة عمان




عقبت الورقة الانطباعية التي قدّمها القاصّ والكاتب سليمان المعمري الاثنين الماضي في النادي الثقافي، بعنوان: عبور الجدران..قراءة انطباعية في "طيور" يحيى المنذري "الزجاجية"، الكثير من المداخلات التي رصدتها شرفات.
وعلى الرغم من أنّ المعمري صرّح منذ العنوان بأنها قراءة انطباعية، وليست نقدية - ليكون ذلك هو خط الرجعة الذي يستعين به إذا ما هطلت عليه الانتقادات- إلا أن غالبية الحضور كانوا مندمجين مع الورقة التي قدّمها، بل وتفاءل عدد كبير منهم بميلاد ناقد جديد في عُمان. وعبر يحيى المنذري عن تفاجئه من تحليل المعمري الذي ركز على ثلاث ثيمات.. "قد تكون ثيمة الفن التشيكلي تم التطرق إليها، وسمعتها من قبل ولكن ثيمة الجدران أسمعها للمرة الأولى، وهو لم يكتفِ بإظهارها في المجموعة الأخيرة، وإنما في كل مجموعاتي السابقة".
سعت الورقة إلى تأمل جدران كتابة يحيى بن سلام المنذري الشكلية والمضمونية من خلال تركيزها على مجموعته الأخيرة "الطيور الزجاجية" وتعريجها على مجموعات يحيى الثلاث الأخرى "نافذتان لذلك البحر"، و"رماد اللوحة"، و"بيت وحيد في الصحراء" ، طارحة عددا من الأسئلة من قبيل: ما هي العوالم التي تلح على كتابة المنذري؟ وما هي المضامين التي تتكرر لديه من مجموعة لأخرى؟ والى أي مدى أثر عشقه للفن التشكيلي في كتابته القصصية؟ وأسئلة أخرى ولدها التوغل في ثيمة الجدار، ومن ثم عرضت الورقة تجليات ثيمة الجدار في مجموعة "الطيور الزجاجية"، ملفتة النظر إلى عدة تجليات لهذه الجدران هي الجدران الخشبية كما في قصتي "طائرة تبدد لون السماء" و"إنقاذ"، والجدران الأسمنتية كما في قصة "ليلة الخنجر"، و"من جدار أبيض إلى جدار أسود"، والجدران الزجاجية كما في قصة "سر الورقة"، مشيرة إلى أن الجدران تمنع الإنسان من مجرد الحلم في قصة "الباب الزجاجي"، وتمنعه من مجرد الكلام في قصة "الساق"، كما أشارت الورقة إلى تجلٍّ آخر للجدران في مجموعة "الطيور الزجاجية" هو الجدران التي ترينا أنفسنا، تلك التي تقوم مقام المرايا في تقديمنا كما نحن بلا أية رتوش أو محاولات تجميل.
ورأى المعمري أن كتابة يحيى سلام المنذري هي كتابة الأسئلة بامتياز.. فلقد دأب على طرح الأسئلة التي تبدو في ظاهرها بريئة، ولكنها ليست كذلك في العمق..ثم تصل الورقة إلى ملاحظة جوهرية مفادها أنه كلما تقدمت تجربة يحيى المنذري القصصية للأمام كلما تراجع الحضور التشكيلي للخلف، أو لنقل خفت وبات في خلفية المشهد..

لكي لا أكرر نفسي

بدأت المداخلات، بطرح شرفات لعدد من الأسئلة كان أولها حول عمر تجربة يحيى المنذري التي تمتد لأكثر من عشرين عاما، وبالرغم من ذلك ليس بحوزته سوى أربع مجموعات قصصية.. "هل هذا لأنك من الكُتاب الذين يخططون طويلا قبل النشر، أم لأنك مقل أصلا في عملية الكتابة؟" فكان أن أجاب المنذري بقوله: "هذا الشيء خارج عن إرادتي..عندما كنا ندرس في الجامعة كان هنالك نشاط قوي وتدفق هائل في كتابة القصة، لدرجة أنه طغى على الدراسة نفسها آنذاك.. أصدرتُ مجموعتي الأولى وأنا في السنة قبل الأخيرة من الجامعة عام 1993، بعد ذلك أخذنا العمل والحياة الاجتماعية لأشياء أخرى.. أيضا هنالك الحرص على التأني، ونظرة وطموح لأن لا يتكرر الأسلوب في الكتابة، مع محاولة التطوير فيها". استوقفه الشاعر يونس البوسعيدي متسائلا حول مسألة التخطيط للكتابة، فأجابه المنذري: "في البدايات الأولى كانت القصة تأتي بدون تخطيط, ولكن هنالك حالات أخرى أخطط لها منذ البداية.. فالأمران ممكنان معا في الكتابة..أعني التخطيط وعدمه".

أقرأ الغلاف قبل الشراء
وتابعت شرفات أسئلتها قائلة: "هل استطعت عن طريق الكتابة أن تُلغي رغبتك بالفن التشكيلي.. وهل يمكننا عبر الكتابة أن نحقق ما أخفقنا فيه عبر الفن؟" أجاب المنذري: "من الملفت حقا أن أجد الفن التشكيلي ضمن كتاباتي بطريقة لا واعية..هكذا تأتي المسألة بدون تخطيط، وهذا ربما من تأثير تداخل الفنون التشكيلية بالفنون الكتابية، حيث نجد لوحة يمكن من خلالها أن نقرأ حياة كاملة، ويحدث العكس أيضا". أما السؤال الأكثر خصوصية الذي طرحته شرفات فكان: "هل من عاداتك أن لا تقرأ الغلاف النهائي لأي كتاب، كما هو حال بطلك في قصة "جدران ومرايا"؟. ابتسم المنذري وأجاب: "أنا من الناس الذين يقرؤون الغلاف الأخير قبل شراء الكتاب، ولكن بطل القصة هو ممن لا يقرؤون الغلاف الأخير.. كان ذلك محاولة لقول شيء غير مطروح كثيرا".

ليست مهمة الكاتب
بعدها انتقلت شرفات للتساؤل حول دلالات الجدران التي كانت في الغالب الأعم سيئة وسلبية.. فالجدران عقبة في وجه الحلم، الجدار يعبر عن الانشغال، الجدار نقيض الحرية، الجدار يشغلنا عن قراءة كتاب.. "ألا توجد دلالات أخرى للجدار أكثر إيجابية؟" فأجاب المعمري قائلا: "صحيح أنه غلبت القراءة السلبية للجدران، ولكن الأمر لم يخلُ من جوانب إيجابية لهذه الجدران تحديداً في قصة "إنقاذ".. حيث مثل الجدار نافذة على الحرية، وإنعتاقاً للمرأة. وفي قصة "جدران ومرايا".. المرء لم يكن بحاجة لقراءة كتاب ليتأمل ذاته بعمق، إذ ساعدته الحيطان على هذا التأمل ، ما يعني أن دلالة الجدار هنا يمكن أن تكون ايجابية بعكس تأويلك.
فكان أن سألت شرفات.. "يحيى المنذري طارح الأسئلة بامتياز، فماذا عن المهام الأخرى، والتي ربما هي الأكثر صعوبة ..الأجوبة؟". رأى المعمري أن الأجوبة ليست من مهام الكاتب،"مهمته أن ينبش في الأسئلة، وهذا أقصى ما يمكن أن يفعله الكاتب سواء أكان قاصا أو شاعرا أو روائيا أو مسرحيا، فهو ليس منظرا اجتماعيا ليضع لنا الأجوبة أو حلولا للمشاكل".

تراجع الحلم والأفكار
الشاعر يحيى اللزامي هنأ نفسه والآخرين بميلاد الناقد سليمان المعمري، وأضاف: "يحيى المنذري "جواهرجي"، وسر تميزه في ترفعه عن الاستسهال في الكتابة، لأن من يدرك نار الكتابة وأسئلتها الحارقة سيظل متأنيا فيها.. لذا أنا لم أتفاجأ بالقيمة الجمالية التي قدّمها في مجموعته الأخيرة.. ثمة مكر في عناوين المجموعات، واستخدام للجمل الاسمية وبالتحديد في المجموعة الأخيرة "الطيور الزجاجية"..فهل ثمة طيور غير زجاجية أصلا.؟!. وإذا ما وجدت فأتمنى أن تدلني عليها!" .. أعجب المنذري بتعبير مكر العناوين، وتابع: "لا أظن بوجود طيور زجاجية أصلا.. أما موضوع تفسير النص فأتركه دائما للقراء وللنقاد.. فليس لديّ الحقيقة القدرة على تحليل القصة التي اكتبها".
فتابع اللزامي قائلا: "ما ذكره المعمري من أنّ حضور الفن التشكيلي إلى كتابتك بدأ يتراجع، هل هذا دلالة على تراجع الحلم يا يحيى، وتراجع الكثير من الأفكار التي آمنا بها، وكنا نأمل أن تتحقق؟" صمت المنذري قليلا ثم قال: "لم يتلاشَ إلى الآن حلم التشكيل.. قد يخفت، وقد يعود لاحقا بشكل أكثر تدفقا وقوة، ربما يكون المغزى من ذلك أن لا أكرر نفسي". ثم وجه اللزامي سؤاله إلى المعمري: "إلى أي مدى يا سليمان استطاع المنذري عبر مجموعاته هذه أن يطرح الأسئلة التي ينبغي طرحها؟ فأجابه المعمري: "من وجهة نظري الأسئلة هي الأسئلة..ليست هنالك أسئلة حارقة وأخرى مراوغة..طريقة طرح الأسئلة هي التي تختلف دائما.. الأسئلة التي يطرحها المنذري تبدو لأول لحظة بسيطة وعابرة ويمكن أن يطرحها أي شخص، ولكن عندما تتأملها بعمق تجد أنها تحاول أن تستكنه أشياء لم تكن موجودة من قبل، ومن الملاحظ أن أبسط الأسئلة وأعمقها هي تلك التي يطرحها الأطفال، والأطفال ثيمة متكررة في كتابة المنذري ولديه أبطال أطفال كثر في مجموعاته القصصية من مثل قصة "إنقاذ"، و"طائرة تبدد لون السماء".. هؤلاء الأطفال يطرحون أسئلة تبدو بسيطة ولكنها عميقة في نفس الوقت.. لدرجة أن القارئ يستعجب كيف لم يطرحها على نفسه..

أنا لا أعتصم باليمام
وكان للدكتور زكريا المحرمي مداخلة قال فيها: "أنت اكتشفت ثيمة الجدران عند المنذري، الذي تشكل وعيه الكتابي في فترة الثمانينيات..تلك الفترة كانت حبلى بما يناقض ما تحدثت عنه.. حيث كان تحطم جدران الاتحاد السوفيتي وتساقطه، تحطم جدران نيلسون مانديلا وخروجه إلى الحرية، وتحطم الجدار الجليدي الفاصل بين العرب وإسرائيل.. فهل اعتصام يحيى المنذري بالجدران هو نتيجة لخوفه من هذا الطوفان الهائل، ومن الانفتاح والتغير السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. أم هو حنين إلى الأصالة وما يمكن التمسك به في ظل المتغيرات؟
أضاف المعمري إلى جملة ما تحطم من جدران، "تحطم جدران مهمة في الألفية الجديدة من مثل تحطم جدران سرية المعلومة، وتحطم الحواجز بين البشر نظرا للتواصل الالكتروني السهل"
ثم تابع قائلا: " المنذري لا يعتصم بالجدران فقط.. فلدى الكاتب القصصي وحتى الشاعر ثيمات معينة تجدها تتكرر في كتابته من دون أن يشعر..فكما أخبرنا المنذري أنه لم يشعر بتكرر ثيمة الجدار في مجموعاته.. وهنالك أيضا في كتابته ثيمات أخرى تتكرر كالطيور والأطفال، وعبارة "خفق قلبه" أو "قلب يخفق"، هذه الثيمات والعبارات تتضافر مع بعضها لتشكل كيانه كقاص.. لكن تكرر ثيمة أو كلمة في كتابة أديب لا يعني بالضرورة أنه "يعتصم" بهذه الثيمة .. فلو فرضنا مثلا أنني أكرر كلمة "يمام" في كتابتي فلا يمكن أن أقول أني اعتصم باليمام لأني أكرر هذه الكلمة !

من الذات إلى العالم
وانتقل المحرمي إلى سؤال آخر، "أنت كقاص وكناقد أيضا يا سليمان ما رأيك بمسألة طغيان الذات الكاتبة في القصص والروايات..هل هو دليل على صحة في الكتابة أم أنه دليل على عدم قدرة إبداعية؟ فأجابه المعمري: "قرأتُ لك مقالا يا زكريا في شرفات منذ عدة سنوات، واستفزني لكتابة نص من نصوص عارف البرذول حمل عنوان "قصة برذولية جدا".. كنت تأخذ في مقالك ذاك على كتاب القصة العمانيين أنهم بعيدون عن بيئتهم ولا يعبرون عن مجتمعهم وأنهم يتحدثون عن أشجار السنديان التي لا وجود لها في عُمان .. أنا اختلف معك.. فلا يعني أن أكتب عن فلج هنا وقلعة هناك أني اكتب قصة محلية بامتياز، إذ أنّ المسألة لا تقوم على الشكل بقدر ما تقوم على روح النص.. وعودة إلى سؤالك : إذا لم أكتب ذاتي في البداية وتعالقي مع الأشياء فأنا لا أصلح أن أكون لا شاعراً ولا كاتبا ولا قاصا ولا مسرحيا، الذات هي شرط أساسي من شروط الكتابة، ش الذات ليعبر عمّا هو عام من خلال يومياته البسيطة وهو يغلي الق ريطة أن يمتلك الكاتب أدواته لكي يحول شأن الذات إلى شأن عام. محمود درويش معظم قصائده وكتاباته النثرية يتحدث فيها عن هوة مثلا.. أنا شخصيا أحب الكُتاب الذين يكتبون عن أنفسهم وذواتهم أكثر ممن يحدثونني عن حادثة تكتب بضمير الغائب..

الخلطة السحرية
وجد خالد العريمي ( أخصائي تدريب بوزارة التربية والتعليم) أن القصص هي من أكثر الأمور التي تُحدث تغيرا في حياة الإنسان، وخير دليل على ذلك قصص القرآن الكريم.
وتساءل: "ما هو موقفك من استخدام بعض الكلمات العامية في سرد القصص؟" فقال المنذري: "الأمر يعتمد على توظيف الكلمة ، وعلى فكرة وموضوع القصة..أنا أتجنب وجود الكلمات العامية، ولكنها حدثت في مجموعتي الأخيرة، وعادة ما أتركها بين علامتيّ تنصيص، وألحق بها الشرح في الهامش، لأني أتوقع أن يقرأ المجموعة قراء غير عمانيين". ثم تساءل العريمي عن الخلطة السحرية من أجل إثارة القارئ للمتابعة وقراءة ما تكتبه؟ فأجاب: "في رأيي الصدق في الكتابة، وعنصر التشويق مهم في القصة".
فأتبعه العريمي بالسؤال الثالث عن الكتابة الإلكترونية؟ فقال: "أنشأتُ مدونة مؤخرا، وقد ساعدتني لأن تصل مجموعة كبيرة من قصصي لأكبر شريحة من القرّاء".
ورأى يحيى اللزامي أن د. زكريا المحرمي طرح سؤالا في غاية الأهمية، "أنا كمتلقٍ لم أشعر أنه تمّ الإجابة على سؤاله بالشكل الجيد.. هل الجدران هي ما نلوذ به ونعتصم إزاء التحولات الكبرى في العالم..أمام طوفان العولمة؟". وتابع د.زكريا المحرمي الفكرة قائلا: "الجدار هنا يمثل رمزاً لثابت معين..ثابت الوطنية أو الخصوصية أو التراث.. هذه الجدران المنتصبة في اللا شعور نلجأ إليها في ظل المعمعة السياسية والاقتصادية؟"، أجابه المنذري باختصار: "إذا كنت تقصد وجود علاقة بين الجدران التي سقطت في العالم، والجدران التي تحدث عنها سليمان المعمري فليست هنالك أية علاقة". وأضاف يوسف الذهلي أنه شاهد في قناة الجزيرة قبل أيام كيف تمكن الفلسطينيون من كسر بعض من الجدار الفاصل.. وأكد على أنّ لهذا دلالة، "كسر الجدران يساوي الحرية".

لا أكتب من أجل العالمية
اغتنم يونس البوسعيدي وجود كتاب القصة في النادي الثقافي ليطرح سؤاله، "أنا غير مطلع على تجربة النثر العماني بشكل كبير، ولكن ما أعرفه هو وجود شاعرين على الأقل وصلا إلى العالمية.. أبو مسلم البهلاني وسيف الرحبي.. هل يوجد قاص عماني استطاع أن ينقل روح المجتمع العماني إلى العالم؟ أجابه المعمري: "وأخيرا استيقظ الدب" لعبدالعزيز الفارسي تكاد تكون أكثر مجموعة عمانية قصصية فيها الروح العمانية، ومجموعة كاذية بنت الشيخ لرحمة المغيزوي أيضا، وهنالك مجموعات لا تخلو فيها قصة أو أكثر من الروح العمانية.. سيف الرحبي وصل للعالمية، ولكن..هل لأن روحه عمانية أم لأنه محظوظ إعلاميا؟ بالتأكيد لديه تجربة اشتغل عليها جيدا ولكن لديه علاقات جيدة أيضا، الروح العمانية حاضرة في نصوصه صحيح، ولكن ليس هذا فقط سبب انتشاره خارج السلطنة .. فهناك شعراء آخرون تحضر هذه الروح بشدة في نصوصهم كسماء عيسى مثلا. ثم أكد المنذري أنه لا يكتب من أجل الوصول إلى العالمية وإنما يكتب قناعاته وأفكاره.
ثم تساءل البوسعيدي.."هل راودتك رغبة بتوظيف الحداثة التكنولوجية في كتابة قصة؟" فقال المعمري: "مجرد أن يكون لديك مدونة تنشر عبرها.. فأنت بذلك تعيش في الحداثة المعلوماتية". وقال المنذري: "ليس بالضرورة أن اكتب عن الحياة الالكترونية لمجرد أني أمارسها، قد يكتب غيري، أو اكتبها أنا مستقبلا.. الأمر مشابه تماما لما قاله د.جابر عصفور في أحد المؤتمرات حول عدم وجود خيال علمي في الرواية العربية أو أنه نادر..الأمر ليس بالضرورة أن يكتب عنه الجميع".

التقوقع في الثيمات
وقال البوسعيدي أيضا للمنذري.. "لديك تقوقع في نفس الثيمات عبر مجموعاتك، وعندما كنت تقرأ قصة "جدران ومرايا" كنت أتساءل: ماذا يفيد أن أعرف أن هذا لونه أصفر، وذاك شكله كذا.. هذا الديكور الفني للقصة ما فائدته؟ فرد عليه المنذري: "أخال أن قولك في البداية أنك ضعيف في القراءة السردية هو سبب لطرحك لمثل هذه الأسئلة..أنت تتحدث عن الديكور الفني، وأنا أظنني بعيدا عن تجميل القصة.. ربما أنا أكرر بعض الثيمات كما تقول، ولكنك يا يونس: هل قرأت جميع مجموعاتي لتلاحظ ذلك؟" فأجاب: "استنتجتُ ذلك من كلام سليمان المعمري"، فأنكر سليمان أن يكون قد قال أنّ المنذري متقوقع ثم أضاف: "من المعروف أن الكاتب يلح عليه طوال مشواره الكتابي ثيمة أو موضوع واحد يظل يكتبه بطرائق مختلفة من عمل أدبي إلى آخر..ابراهيم الكوني مثلا يكتب عن الصحراء ويكررها في أكثر من رواية، عبدالرحمن منيف كان يكتب عن الهم السياسي وأدب السجون.. لكل كاتب هم يشغله، يتوزع على كتابته بطريقة أو بأخرى .. وعندما يتكرر هَمُّ ما في كتابة يحيى من مجموعة لأخرى فلا يعني هذا أنه متقوقع ".

وشاركنا أيضا الكاتب الأستاذ أحمد الفلاحي الذي يعتبر يحيى المنذري من المميزين لغة وصوراً وجملة في الكتابة.."البيئة في كتابة الكاتب تفرض نفسها.. يحيى لديه مجموعة فيها سمائل وفيها العمالة الوافدة وأشياء كثيرة تتصل بالروح العمانية.. لكن عملية الكتابة لا ينبغي أن يتم التعامل معها من قبيل: لماذا لم تكتب هكذا أو لم تكتب هذه الثيمة.. الكاتب يكتب تحت وهج الإبداع ولا ينشغل بالجوانب التحليلية، وإنما يتركها للناقد..الكوني ومنيف اشتركا في الكتابة عن الصحراء، ولكن اختلفا في الطريقة. بالنسبة لـسيف الرحبي هو حالة مختلفة، بدأ أدبه خارج عمان بين العواصم الثقافية المهمة وهنالك برز وتكون، وجاء عمان أديبا مميزا".
وأردف قائلا: "نحن نشكو من غياب الكاتب العماني عن الساحة العربية لعوامل تاريخية وعوامل عزلة وغياب الإعلام وأشياء أخرى، ولكن في العشر السنوات الأخيرة بتنا نرى العماني ينشر، ويحضر المؤتمرات والفعاليات في دول مختلفة من العالم. كما أن التواصل الالكتروني كسر الكثير من الجدران".

الجديد في الورقة وليس الأسئلة

قال رئيس الجلسة قبل الختام، الشاعر يحيى الناعبي معلقاً على سؤال يونس البوسعيدي عن الروح العمانية : "كتبتُ مؤخرا عن رواية ابن سولع للكاتب علي المعمري الذي أتاحت له الحياة أن يعيش في الخارج، ولكن الروح العمانية كانت متمكنة من هذه الرواية، وكذلك الأمر بالنسبة لمجموعة سالم آل توية "حد الشوف" التي كتب بعضها في بريطانيا"
استفز المعمري اثنين من مجايلي يحيى المنذري في كتابة القصة هما: محمد البلوشي، ومحمود الرحبي للحديث ، فاعتذر الأخير بينما قال البلوشي : "الأسئلة التي كنا نطرحها أو تطرح علينا منذ الثمانينات هي نفسها الأسئلة التي تطرح في الألفية الجديدة، وهي نفسها التي طُرحت الليلة :الخصوصية المحلية والوصول إلى العالمية.. ولكن ما أدهشني اليوم هو القراءة التي بدأت تقترب من المنتج العماني بطريقة جديدة كنا نطمح إليها، في الماضي كانت تركز على القصة وتفاصيلها وحبكتها ونهايتها.

الأربعاء، 6 يوليو 2011

لغة الأشياء / ... ويظل الجميع تحت سيطرة الشمس!

باسمة العنزي

«الآن...
جميع الأشياء تحت سيطرة الشمس
هناك سيارات تلتهم الشارع بقسوة... ورجل أعرج متردد
هناك شارع عريض أسود... ورصيف حارق حزين
ويظل الجميع تحت سيطرة الشمس».
ما أن انهيت قراءة قصة «حبات البرتقال المنتقاة بدقة» للقاص العماني يحيى المنذري، حتى تأكدت أن لبعض النصوص وقعا خاصا على المتلقي قد لا يتوقعه الكاتب، هذه القصة الكونية المكتوبة بحرفنة عام 1992 والمنشورة ضمن مجموعته الأولى «نافذتان لذلك البحر» لقيت من الانتشار والصدى ما جعلها من أجمل القصص التى كتبت في تاريخ القصة العمانية.
كتبها القاص بعد رؤيته لرجل أعرج يعبر الشارع،المشهد كان له تأثيره الى درجة أنه حوله الى قصة قصيرة بتقنية الرصد السينمائي.القصة/ المشهد لا يتعدى الخمس دقائق، ما أعطى تكثيفا متمكنا وانسيابية زمنية ماهرة بين الماضي والحاضر والمستقبل.
النص تناول مأزق الرجل الأعرج الذي يحاول عبور الشارع نحو منزله في يوم حار برفقة حبات البرتقال، التي اشتراها للتو وانتقاها بعناية لابنائه، لكن حركة السيارات لا تهدأ ولا أحد مستعد للوقوف من أجل رجل متعب من حرارة الشمس، وراغب في الوصول الى منزله بسلام. انتظاره القسري يحيلة لذكريات بعيدة واصابة قديمة في حادث تحول الى عرج.
«الشمس تغرز أشعتها في رأسه ورقبته، عرقه يسيل، عيناه تحرقانه، يداري لهيب الشمس بوضع كف يده على جبينه، وصارت يده مظلة عاجزة بينما الرصيف حارق حزين».
كمتلقية لهذا النص الذي ابهرني منذ القراءة الأولى- وجدت حضورا لقسوة حضارة الاسمنت وعزلة الفرد في عالم مادي، وطرح اشكالية الانسان البسيط الذي يحاول باجتهاده الوصول لهدفه أو حلمه- خصوصا أن البرتقال عند بعض الحضارات رمز للسعادة- ورغم ما في الطريق من معوقات وقسوة ينتظر وعينه على المستقبل حيث الرصيف الآخر والخطوة التالية.
الانتظار هنا حالة استنزاف متواصلة وما أن تحين اللحظة المنتظرة ويندفع البطل لعبوره المرتقب للخروج من عنق زجاجة الحيرة، حتى يكتشف نسيانه لكيس البرتقال أو سعادته على الرصيف الحارق. السعادة التي أمضى وقتا في انتقاء تفاصيلها كي يقدمها لنفسه ولامتداده من الابناء دفعها ثمنا للوصول، الرحلة القاسية كانت جزءا من الصورة الكبيرة لحيواتنا، وما الرصيف والشمس والأطفال و السيارات المسرعة وحبات البرتقال الشهية سوى تفاصيل أيامنا بشكل أو بآخر.
العنوان جذاب و يحث الخطى للوصول لما وراءه، شخصية البطل مكافحة وبسيطة، نجح الكاتب في استثارة تعاطف المتلقي دون أن يكون للبطل كاريزما خاصة. واللغة تخلصت من الفائض ولم تعمد للشعرية المفرطة، استخدمها القاص بذكاء فعبرت عن الجو النفسي للبطل وما يحيط به في زمن مختزل.
للقاص ثلاث مجموعات قصصية لكن ظلت هذه القصة هي الأشهر والأكثر تداولا رغم أنها من بداياته ولا أعرف ان كان ذلك من حسن حظ الكاتب أم العكس؟!




ملاحظة: نشرت القراءة في جريدة الراي الكويتية ، يوم الأربعاء، بتاريخ 07يوليو2011،العدد11692

الثلاثاء، 5 يوليو 2011

عبور الجدران ..قراءة انطباعية في "طيور" يحيى المنذري "الزجاجية"





سليمان المعمري


ليس الجدار هو الثيمة أو الكلمة الوحيدة التي لها حضور طاغ في معظم تجربة يحيى سلام المنذري ، فثمة أيضا الطيور والأطفال والسرير ، والشارع ، والباب واللوحة ، بالإضافة طبعا إلى ذلك الإنسان البسيط المهمش الباحث عن كوة نور في نفق الحياة المظلم .. غير أنه يمكن الاستناد عليه – أي على الجدار - بامتياز في مقاربة تجربة المنذري القصصية، ما دامت الجدران هي أول أشكال تنظيم الإنسان لحياته بعيدا عن قوانين الطبيعة ، حسب الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون ، وما دامت الحياة كلها هي المسافة التي يقطعها المرء بين جدارين أحدهما أبيض والآخر أسود كما يخبرنا يحيى ضمنياً من خلال عنوان إحدى قصص مجموعته الأخيرة .. ولذا فان هذه الورقة ستحاول جاهدة ما استطاعت تأمل جدران كتابة يحيى الشكلية والمضمونية من خلال تركيزها على "الطيور الزجاجية" وتعريجها الخجول على مجموعات يحيى الأخرى ، طارحة عددا من الأسئلة من قبيل : ما هي العوالم التي تلح على كتابة المنذري ؟ وما هي المضامين التي تتكرر لديه من مجموعة لأخرى ؟ والى أي مدى أثر عشقه للفن التشكيلي في كتابته القصصية ؟ وأسئلة أخرى يولدها التوغل في ثيمة الجدار ..

بدأ يحيى المنذري كتابة القصة منذ أكثر من عشرين عاما .. وإذا ما تخيلنا اليوم أن ثمة جداراً تعلق عليه صور الأسماء البارزة في المشهد القصصي العماني فإنها ليست مجازفة القول انه يصعب تخيّل هذا الجدار بلا صورة ليحيى ، بشاربه الخفيف الأليف ونظارته ذات العينين البيضاوين ، بطيوره الزجاجية المتراقصة حول رؤوس أبطاله ، ونافذتيه المطلتين على ذلك البحر البعيد ، بحبات برتقاله المنتقاة بدقة وزارعي غابته الأسمنتية الذين يطفئون حنينهم بالصور ، بـ"ضجيج بيته الكبير" الذي كاد أن يرمي به وحيدا بين أربعة جدران ضيقة لها حراسٌ يقدمون العدس.. ومنذ مجموعته الأولى "نافذتان لذلك البحر " ( مسقط ، 1993 ) ومرورا بـ"رماد اللوحة" ( دمشق .. 1999 ) و"بيت وحيد في الصحراء" (مسقط 2003 ) وليس انتهاء بـ"الطيور الزجاجية" ( دمشق 2011 ) والمنذري يسير بخطى بطيئة بعض الشيء ولكن واثقة في طريق القصة الشائك والطويل.

دعونا إذن نلج إلى بيت يحيى القصصي ، نتأمل جدرانه ، ونحصي غرفه ، ونتلصص على ساكنيه ، مرددين مع أنطوان سانت أكزوبيري : "إن أعجب ما في منزل ليس في أنه يؤويك أو يدفئك، أو في أنك تملك منه الجدران، ولكن في هذا الذي يضعه فينا من مؤن العذوبة"





تجليات الجدار :

أول سطر في "الطيور الزجاجية" يتحدث عن "جدران خشبية هادئة لأن الطقس لا يعكر صفوها بالرياح" ، وفتى "يحلم بركوب أرجوحة في حديقة خضراء طقسها بارد ومليء بالرذاذ" لكننا سرعان ما سنكتشف أنه ليس سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة ، فهذا الفتى في قصة "طائرة تبدد لون السماء" سيخرج بعد قليل مع أمه ليس لركوب أرجوحة ولا للتمرغ في خضرة حديقة بل لانتظار موكب لن يأتي ، تماما كانتظار الأب الذي غاب منذ سنوات ، لا بأس إذن من أن يخفف هذا المنتظِر من عطش المنتظرين الآخرين مقابل حفنة من المال يساعد بها أمه ، هؤلاء الذين شكلوا جداراً يمنعه من الرؤية " أخذ يبحث عن منفذ لرؤية الموكب ، كان الناس مثل أحجار رصت على الشارع" (ص10) .. هذه الثلاثية ( الفتى والأم والجدار الخشبي) ستتكرر بعد قليل في قصة أخرى هي "إنقاذ" ، ولعلها ليست مصادفة أيضا حضور الجدران الخشبية منذ السطر الأول في القصة .. ثمة امرأة تتعرض للأذى من زوجها السكير .. امرأة حبيسة الجدران التي يغلقها عليها هذا الزوج المتوحش بقفل أسود كبير .. غير أن الفتى، وبتحريض من أمه المتعاطفة مع هذه المرأة، سيوسع الجدار الخشبي ركلا ويحدث به تصدعاً وصولا إلى صنع فتحة كافية لمرور المرأة التي "كانت مثل حمامة جريحة وضعيفة ووحيدة تنتظر فتح باب القفص، حمامة لها ريش ملون ، لها عينان دامعتان " .. يحق لها الآن وقد تنسمت أنفاس الحرية أن تكفكف دموعها وتردد مع كافافي : " وما دامت لدي أشياء كثيرة أقوم بها في الخارج / فلِمَ لم أحاذر حين أخذوا يبنون حولي الجدران ؟! ".. ويحق لنا أن نعود إلى الوراء قليلا ونتذكر قصة "المروحة البشرية" ضمن مجموعة "زارعي غابة الاسمنت" التي شاء المنذري أن يضمنها داخل كتاب واحد مع مجموعة "بيت وحيد في الصحراء" حيث "يتدفق الضوء من ثقب صغير في الجدار الخشبي" ويتأمل الهندي ذرات الغبار المصطفة في بطن الضوء مكونة عصا ذهبية .

بيد أن الجدران ليست خشبية وحسب ، لذا فان الثلاثية سالفة الذكر ستتحول إلى ( الفتى والأم والجدار الأسمنتي ) في قصة ثالثة من "الطيور الزجاجية" هي "ليلة الخنجر".. تحمل الأم ولدها الصغير ناصر إلى عرس ما في بيت إسمنتي كبير أصفرِ اللون ، وما إن تشد الأم ابنها إلى داخل البيت حتى يشاهد على الجدار لوحة بها خنجر وأخرى بداخلها سيف فضي فيشعر بالخوف .. أهو خوف من الخنجر والسيف أم من الجدار ؟! .. شخصيا سأرجح الثانية ، وسأعضد هذا الرأي بالتقاء ناصر هناك ببعض أقاربه الذين كانوا من عمره ، وتذكُّره بأن حاجزاً / جداراً كبيرا زُرِع بينهم رغم مشاركته لهم اللعب والضحك والجري . ثم انه يتعمد الهروب من هذا الواقع الذي يخيفه فيغمض عينيه ويتخيل خناجر تتطاير وتنغرز في الجدران .. تسكره نشوة الانتصار على هذه الجدران في الخيال فيقرر تنفيذها في الواقع .. يسحب خنجر العريس الذي يبدي مقاومة شديدة ويمسك بيدي ناصر ويعصرهما بقوة صارخاً في وجهه أن تأدبْ ، وإذا ما أضفنا أنه تلقى تأنيبا وصراخا من المرأتين اللتين كانتا في غرفة العريس ، وذهولا واستغرابا من بقية الأولاد نخلص إلى أن مزيدا من الجدران ارتفعت في وجهه وانتصرت عليه ، مثلما ترتفع في وجوهنا نحن قراءَ "الطيور الزجاجية" ، فإضافةً إلى الجدران الخشبية والإسمنتية تشمخ كذلك جدران زجاجية تقف – رغم هشاشة الزجاج - بيننا وبين سعادتنا .. ففي قصة "سر الورقة" يفرح البطل الفقير الأمي بالشيك الذي قدمه له أحد الأثرياء ، ما يعني أن حياة البطل ستتغير بلا شك إلى الأفضل، ولكن موظف البنك القابع خلف جدار زجاجي يصدمه في البداية أن "هذا الشيك لازم يصرف من بنك آخر ، تجده في الخوير" ، ثم ستصدمه موظفة أخرى في بنك آخر ومن خلف نفس الجدار الزجاجي بأن قيمة الشيك لا تتعدى العشرة ريالات ! .. ثمة جدار يقف عقبة في طريق الحلم هنا ، ولكن المفارقة أن الجدار هو أيضا الحلم .. فهذا الرجل البسيط يضع ضمن مخططاته بعد أن يستلم المبلغ الذي ظنه كبيرا أن يصلح سور بيته ، أن يقيم جداراً يستره ويحميه وأهله من اللصوص والمتطفلين .. بيد أن هذا الجدار الأسمنتي لن يقوم الآن بسبب الجدار الزجاجي ! .

وإذا كان الجدار حلماً في "سر الورقة" فانه سيتحول بقدرة كاتب إلى سد في وجه الحلم في قصة "الباب الزجاجي" ، ففي أثناء انتظار البطل الفقير المعدم الباحث عن عمل لسقوط جدار الانشغال الذي يفصله عن مقابلة المدير العام ليفاتحه بطلب وظيفة ، جلس على المقعد الجلدي أمام السكرتيرة ، "وانشغل في التحديق في المكان ، ثم أخذ يسترق النظرات ناحية وجه المرأة الذي اعتبره عذبا ، والقطة الغريبة التي تلعق عنقها ، كاد يجرؤ على الحلم بالنوم معها ، لكنه تردد ، فقد تذكر مشاكله التي تسد مداخل أحلامه بجدران قوية " .. الجدران تمنع الإنسان من مجرد الحلم هنا .. ولن تكتفي بهذا بل ستمنعه في قصة أخرى من مجرد الكلام ، "فهو يعرف أن الأصوات تتسرب من خلال الجدران بسهولة ، تنتشر مع الهواء وتغوص في الآذان كأسهم مليئة بالأخبار ، لذلك فالمدينة تكاد تخلو من الأسرار ، إلا تلك الأسرار التي تقال بالإشارات " ، ولكن حتى هذه يمكن التلصص عليها بطريقة بطل جحيم هنري باربوس : النظر من خلال ثقب جدار ، هكذا يفكر بطل قصة "الساق" الذي تمردت عليه ساقه ، وهكذا تفعل زوجة السكير البائسة في قصة "إنقاذ" ، فالجدار يغدو هنا معادلاً للحرية والانعتاق ، من خلال تلك الفتحة السرية التي كانت نافذة المرأة إلى العالم الخارجي تبث منها شكواها وحزنها لأم الفتى ، ولولا ذلك الثقب في الجدار ما علم أحد شيئا عن معاناة تلك المرأة ، وما تم إنقاذها .. فما أجمل الجدران التي تساعدنا على رؤية الآخر والتفاعل معه !.. لا أجمل ولا أنبل منها إلا تلك التي ترينا أنفسنا ، تلك التي تقوم مقام المرايا في تقديمنا كما نحن بلا أية رتوش أو محاولات تجميل .. ألهذا إذن يضع الحلاقون مرايا زجاجية على الجدران أمام زبائنهم ؟!.. لم تقل قصة "جدران ومرايا" هذا مباشرة ، ولكن كان لافتا حديث بطلها أثناء اعتلائه الكرسي لأداء دوره في الحلاقة بعد انتظارٍ قضاه في قراءة كتاب ، كان لافتا حديثه عن زميله الذي لم يطلب الكتاب ليقضي به ما تبقى له من وقت الانتظار " تركتُه مع المنتظرين يحدقون في الحيطان" .. الحيطان هنا أهم ، فنحن لسنا بحاجة لكتاب لننظر إلى أنفسنا بعمق .. وعندما نتأمل ذواتنا فان أسئلة كثيرة تنطرح في داخلنا دون أن تنتظر الإجابة .. تماما كما تفعل الكتابة الإبداعية بشكل عام .. وكتابة المنذري بوجه خاص ..

كتابة الأسئلة :
لا أبالغ إن قلتُ إن كتابة يحيى هي كتابة الأسئلة بامتياز.. لقد دأب على طرح الأسئلة التي تبدو في ظاهرها بريئة ، ولكنها ليست كذلك في العمق .. إنها أسئلة تحرض على التأمل والتفكر وإعادة النظر في حياتنا برمتها ، أسئلة تعبرنا مخترقة جُدُرَنا الصلدة مثلما فعل بطل قصة "عابر الجدران" لمارسيل ايميه بفعل حبة سحرية عجيبة تتيح له أن يمر من أي جدار بسهولة تنْقُلُه من مكان لآخر.. أسئلة تتطاير – حسب أحد أبطال المنذري – "مثل ريش نُتِفَ من حمامة ضُرِبتْ على رأسها" : ما الموكب ؟! .. لماذا كراسي المستشفى صنعت من الاسمنت ؟ ، هل يعلم الجدي الصغير أن روحه سوف تفارقه بعد لحظات ؟ .. هل مازلت تتمنى امتلاك طاقية الإخفاء ؟ ، هل فعلا أصبحتُ لا شيء ؟ ، هل نجح الطائر الأسطوري في تفتيت عقلي ؟ لماذا ينتابني الآن شعور بالخواء ؟ .. لماذا أنا غريب وسط أقربائي ؟ .. هل سأكبر وسينبت لي مثل هذا الشعر ؟ .. لماذا هو بالذات سقط الطائران على رأسه ؟ .. لماذا كل هذا الألم الآن ؟ .. وغيرها الكثير الكثير من الأسئلة التي تتناثر في ثنايا نصوص "الطيور الزجاجية" الخمسة عشر .. ومن قرأ يحيى المنذري جيدا يدرك أن السؤال مكوِّنٌ رئيس من مكونات كتابته القصصية ، منذ "نافذتان لذلك البحر" التي يسأل فيها : "من أين يبدأ السؤال .. من الولادة أم من آخر رمق يبقى ؟" ومرورا بـ"رماد اللوحة" التي يتساءل فيها : "هل يا ترى حين يجلس الصياد إلى البحر محدقا إلى الغيوم يفكر بمطر من الأسماك ؟" ، وليس انتهاء بـ"بيت وحيد في الصحراء" التي يتعجب في إحدى قصصها : "لماذا لا تهرب الأرانب والطيور مادامت الأقفاص مفتوحة" ؟! .. إن الأسئلة هنا ما هي إلا محاولات لاختراق جدران الظلام الذي يحيط بالكائن ، إشعال فتيل ضوء في متاهة بورخيسية معتمة كلما ظننتَ أنها أفضت بك إلى مكان اكتشفتَ أنها زادتك عزلة عن نفسك وعن العالم .. ومع ذلك فلا مفر لك إلا أن تسأل وتسأل موقناً أن توقفك عن السؤال يعني نهايتك المغلقة مرسومة على جدار اليأس ..


الطبيعة والكلمة :


وما دمنا نتحدث عن الرسم على الجدار فان هذا يحيلنا إلى ثيمة لطالما برزت بوضوح في تجربة يحيى المنذري ألا وهي توظيف التشكيل واللوحة في الكتابة القصصية ، ولعل يحيى الذي صرح ذات يوم بأنه حاول أن يكون فنانا تشكيليا ففشل سيضجر من فرط ما تم التحدث عن هذه الثيمة في كتابته .. وشخصيا ما كنتُ سأتناولها هنا لولا ارتباطها بثيمة هذه الورقة وهي الجدران .. وعلى أية حال سواء نجح المنذري أم فشل في أن يصبح فنانا تشكيليا فان المؤكد أن العديد من نصوصه القصصية ما هي إلا تجسيد لعبارة ميشيل فوكو في "الكلمات والأشياء" من أن الطبيعة والكلمة يستطيعان أن يتقاطعا إلى ما لا نهاية مشكِّلَيْن لمن يعرف القراءة نصّا واحداً .. حرّكت اللوحة التشكيلية الأحداث في "ليلة الخنجر" كما رأينا قبل قليل .. وكان لها دور كذلك في قصة "من جدار أبيض إلى جدار أسود" التي يستحضر فيها المنذري الرسام العالمي سلفادور دالي إلى صالة الانتظار بالمستشفى ، فيرسم هذا الأخير بقطعة فحم في وجوه الجالسين وفي الجدران ، ولعلها نفس قطعة الفحم التي استخدمها سلمان في "رماد اللوحة" عندما كان طفلاً "يرسم على جدران البيوت أشكالاً غريبة جدا ليس لها وجود، أشكالاً يبتكرها وكأنها سوف تتحقق في سنوات قادمة" ، غير أن الملاحظة الجوهرية هنا أنه كلما تقدمت تجربة يحيى المنذري القصصية للأمام كلما تراجع الحضور التشكيلي للخلف ، أو لنقل خفت وبات في خلفية المشهد .. مجموعتاه الأوليان كان يصدّرهما بقصة لا تتعالق مع الفن التشكيلي فحسب ، بل ويدخل في نسيج أحداثها بحيث لا تغدو القصةُ قصةً إن حذفنا ثيمة التشكيل .. قصة "اللوحة" أولى قصص "نافذتان لذلك البحر" تبدأ بتأمل عميق من بطل القصة للوحة غامضة معلقة على جدران معرض، يتأمل غيوما وبرقاً ورياحا ومساحات تحمل ألوانا عدة .. إن هذا التأمل يمد البطل بأحداث مرعبة تحدث لاحقا لتنتهي القصة بهرب البطل خائفا من المعرض "تاركاً اللوحة تفسخ ثوب الأرض المتبقي" .. أما قصة "رماد اللوحة" أولى قصص المجموعة التي تحمل نفس الاسم فتتحدث عن معاناة شاب اسمه سلمان لديه موهبة الرسم منذ صغره يتعرض لضغوط اجتماعية تسبب له آلاما نفسية وجسدية فيقرر أن يرسم كل الشر الذي تعرض له في لوحة ثم يحرقها .. التشكيل هنا – كما في قصة "اللوحة" - مكون رئيس من مكونات القص .. هكذا إذن يبدأ يحيى قَصَّه في مجموعتيه الأوليين بالتشكيل .. أما في الطيور الزجاجية فان التشكيل ليس إلا معضدا للحبكة القصصية تسانده معضدات أخرى يمكن أن تحل محله أن أراد القاص دون أن تتأثر سيرورة القص .. فمن الذي يملك المراهنة أن قصة "من جدار أبيض إلى جدار أسود" ستفشل في إرسال رسالتها بدون سلفادور دالي ؟ .. ومن يجرؤ على الزعم أن "ليلة الخنجر" لن تسير للأمام بدون أن يتوقف ناصر لرؤية لوحة السيف والخنجر ؟!.. إن خفوت المشهد التشكيلي هنا يمكن أن نعزوه إلى تحقق المنذري كقاص تعويضا عن الفنان الفاشل ، لم يعد يشعر بتلك المرارة التي تدفعه لمحاولة التحقق تشكيليا على الورق .. لكن موهبة التشكيلي باقية ، وتطل برأسها في لوحة قصصية هنا أو في وصف هناك ، ولعلني لا أتعسف في التأويل إن قطعتُ بأن وصف يحيى لسلمان طفلا في "رماد اللوحة" ، والذي تتماهى فيه خبرة التشكيل بخبرة القص ، ما هو إلا وصف ليحيى نفسه : " وجد نفسه يحب المرأة والرسم، ودائما ما يشعر بحرارة غريبة تسري في يده تحفزه على أن يمسك القلم ويرسم طيوراً تحلق بعيداً عن الأرض، يرسم نساء جميلات وحدائق زهور وأشكالاً هندسية، كان في طفولته يرسم بقطع الفحم على جدران البيوت أشكالاً غريبة جدا ليس لها وجود، أشكالاً يبتكرها وكأنها سوف تتحقق في سنوات قادمة، بعد ذلك بدأ الرسم على الأوراق، مرة رسم شجرة أوراقها سوداء وثمارها رؤوس دامية، وتبدو الشجرة في اللوحة أكبر من المدينة وغائرة في سماء مليئة بالغربان وطيور أخرى غريبة الأشكال" .. لكن سلمان العاشق للرسم سيكون عُرضة لتوبيخ مسؤوله له الذي مزق اللوحة فوق رأسه وأمره أن يجمع المِزَق كي يرميها في القمامة.. من هنا ينفس سلمان عن غضبه برسم لوحات وحرقها ، أما يحيى فسيؤمن أن الطريق يتحدد بمقدار ما نمشي عليه من خطوات ، وسيختار طريق الكتابة ، حيث يغدو بإمكاننا ابتكار حيوات في الورق لم نعشها في الواقع، نرسم فيها لوحات جميلة ونبتكر شخوصا مدهشة ، ونتحدث بلغة آسرة ، ونطرح أسئلة ممضة ، نمضي مُتَحَدِّين الصعاب ، وعابرين الجدران التي تقف في طريقنا بعزيمة لا تكل ، مستحضرين في قرارتنا أمل دنقل : آه ما أقسى الجدار / عندما ينهض في وجه الشروق / ربما ننفق كل العمر .. كي نثقب ثغرة / ليمر النور للأجيال .. مرة ! /
ربما لو لم يكن هذا الجدار / ما عرفنا قيمة الضوء الطليق !! .


الثلاثاء، 7 يونيو 2011

عتبة الواقعية السحرية وغواية التفاصيل


يحيى سلام المنذري وطيوره الزجاجية

قراءة : خالد حريب


جاء باسم غريب لمجموعته القصصية «الطيور الزجاجية» ثم دخل مباشرة في الجزء الأول من المجموعة ليؤكد تلك الغرائبية فيلعب بالرمز كثيرا॥ ففي القصة التي تحمل اسم المجموعة فمه المليء بالشعر يمنعه من الصراخ॥ وهناك في نهاية المجموعة في وكر الحلاقين يصطدم بالرقابة الصارمة والتطفل فالمتماسكة أياديهم يراقبون رأسه وهي بين يدي الحلاق وهو الأمر الذي يزعجه كثيرا... لتصبح المسافة بين فمه في بداية النص وما بداخل جمجمته في نهاية النص هي الشغل الشاغل ليحيى بن سلام المنذري صاحب المجموعة التي يهديها بشموخ لثلاث زهرات مضيئة هن وجد وليان وسارة।وإذا كانت الغرائبية واحدة من الأسرار التي حاول المنذري أن يستخدمها في بناء النص إلا أنه لم يستسلم لهذا الإغواء بالمطلق فالربط متواصل بين خياله ورمزه وبين عناصر اليومي وربما بهذه الحيلة استطاع أن يجعل من مجموعته نموذجا لحل المعادلة التي طالما أنهكت قوى الكتابة وهي كيف تكون عميقا وبسيطا في النص الواحد।وقبل أن نبتعد عن هذه النقطة دعونا نتعرف على معنى مصطلح الغرائبية في الأدب ؟ حيث يرى بعض النقاد أن الغرائبية هي جزء أساسي من دلالات الواقعية السحرية كما شاعت في الأدب، خاصة القصة بشكليها الرئيسيين الرواية والقصة القصيرة।وفي حالة الطيور الزجاجية للمنذري نرى انه اعتمد عليها كلمسة فقط مع محاولة جادة منه لتضفيرها بتفاصيل الواقع إذ يرسم القاص تفاصيله رسما موغلا في البساطة والألفة مما يزيد من حدة الاصطدام بالغريب والمستحيل الحدوث حيث يجاوره ويتداخل فيه.وقد يرى البعض أنه لا تناقض بين العمق والبساطة॥ وهم بالطبع على حق ولكن تكمن البراعة في القدرة على الجمع بينهما فهذا الأمر لا يتحقق إلا من خلال كاتب عركته التجربة فيستطيع بهدوء إصابة هدفه دون افتعال.إنه واقع سحري فعلا، لكن الكاتب لا يرسمه للإمتاع فقط، وإنما للإيحاء بفكرة فلسفية أو مجموعة أفكار منها أن العالم الذي نراه مألوفا فيه قدر كبير من الغرابة، ومنها، لا نهائية المعرفة وما تتضمنه أحيانا من رعب.ويرصد النقاد أن خصائص هذا اللون من الواقعية يتجلى بوضوح في أعمال المبدع العظيم كافكا.وبالرجوع لطيورنا الزجاجية نشير إلى قصة «الممثل» فقد نجح المنذري في دمج عدة أطراف متباينة لتشاركه كتابة النص ومن بين تلك الأطراف القارئ ذاته فالرسالة تأتي من التلفاز من خلال ممثل يرمي بجملة حادة قائلا «لقد كتبت خمسين صفحة ولم أجد القصة بعد» وبعدها تتعقد الأمور حيث يتورط المنذري في زيارة مفاجئة لضيف.. والضيف له دراما مختلفة عن التي يعيشها الكاتب والقارئ يراقب بنفس لاهث التلفاز والكاتب والممثل والضيف ويبحث عن القصة وتبقى هذه الورطة هي بذاتها قصة يخطفها المنذري ليقدمها لنا في واحدة من ألعابه الشيقة.ويظهر الضيف بصورة مختلفة في نص آخر تحت عنوان فرعي «صاحب المزرعة» ولكن تتبدل المواقع فصاحب البيت منصور هو الذي يتحايل على القادم هذه المرة فيضيفه من محصول المزرعة التي يملكها القادم حيث اختلس منصور برشاقة بعضا من الفاكهة بغرض الستر لحظات الضيافة ولكنه يدفع الثمن غاليا بالتجريس والرحيل.ومجموعة الطيور الزجاجية لم تصدر لتسعى في الفراغ ولكنها كاشفة بل ومتصادمة في بعض الأحيان مع الصورة المسيطرة والعامة لشعوب العالم الثالث فيرصد المنذري في واحدة من حكايته صورة المستبد من خلال نص «خوف العصافير الصغيرة» متخذا حيلة المدرس المتعسف والتلاميذ البريئة ليكتب روشتة الانتصار بانفجار السخرية من الصف الأخير وبالرغم من الأثمان المعروفة في مثل تلك المواجهات إلا أنها تعتبر بسيطة في سبيل خروج مارد الغضب من داخل القفص.ودعونا نحاول معا فك شفرة غرام المنذري بحكاية «الزجاجية» فما أن نخرج من الطيور الزجاجية حتى يلح علينا في الجزء الثاني من المجموعة بعنوان مشابهة وهو «القطط الزجاجية» هل لأن الزجاج هش وشفاف ربما ؟صدرت مجموعة «الطيور الزجاجية» التي تقع في مائة وأربع صفحات عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع بدمشق – سوريا .. وجاءت لوحة الغلاف للفنان السوري ناصر نعسان أغا ومن تصميم المهندسة سوسن الحلبي.. وتعتبر المجموعة من أحدث إصدارات الدار والكاتب معا وتم تدشين الطبعة الأولى منها في 2011.






ملاحظة: نشرت القراءة في ملحق شرفات بجريدة عمان بتاريخ 07يونيو2011

الأربعاء، 5 يناير 2011

أين الطريق إلى حيث يسكن النور؟ قراءة في المجموعة القصصية (الطيور الزجاجية) ليحيى سلام المنذري







سماء عيسى




أين الطريق إلى حيث يسكن النور؟





هذا هو السؤال الجوهري الذي تخرج به بعد قراءتك الطيور الزجاجية ليحيى سلام المنذري، وإذا كان السؤال مقتبسا من سفر يونس ، النبي الذي كان ببطن الحوت فإننا نحن أيضا في هذا العالم، كما يدلنا يحيى، نسكن بيوتا من الزجاج مظلمة وداكنة، ليس بفعل افتقاد النور بل بفعل أفتقاد الروح. كذلك تجربة نبي الله كانت البحث، وهو في جوف الحوت، ليس عن نور الشمس بل عن نور الله الذي يضطلع الأنبياء بنشره بين العالمين.




يقدم يحيى شخصياته وقد افتقدت لهذا النور، فعاشت ليس في بيوت زجاجية فحسب، بل في قلوب زجاجية، دون أن تحس وتشعر بألم ما॥ لقد انطفأ بها نور الله وانطفأت بذلك المشاعر الانسانية التي تعيش بها। وفي ذلك يقترب يحيى من جوجول في رواية “الأنفس الميتة”، وهي تجربة بحث عن الحياة الحقيقية خارج الجسد البشري. بل ان اقتراب يحيى من أستاذه جوجول يتضح أكثر في قصتي “الأنف” لجوجول وقصة “الساق” ليحيى . إن الإشكالية التي غرسها جوجول في يحيى أكبر، حتماً هي اشكالية تشيؤ الانسان أي تحوله الى طير زجاجي مثلما يرى يحيى ومعه جيل كبير من المبدعين، الذين التفتوا الى ما تصنعه الحضارة الحديثة في الانسان، ترفعه الى الأمام حقاً، لكنها تفقده روحه، فيغدو كائنا صخريا أو زجاجيا أوما شئنا له من أوصاف تدلل على فقدان أهم ميزة اتت مع الانسان لتحافظ عليه انساناً خلاقاً، ألا وهي القيم الروحية الخصبة المتمثلة في سلسلة من الأفعال التي تبتعد به عن الوحشية والعدوانية والأنانية وغيرها من الصفات التي تنطلق بحرية في الأرض متفجرة معه حالة فقدان الروح.




هذا ما تقدمه على الأخص قصص الجزء الأول خاصة قصة السفاح الذي جاء المنزل مضمخا بالدم ويحمل معه سكاكين الذبح بعد ان مر على منازل أخرى وذبح الكثير من الشياه। كانت القصة ستنتهي نهايتها العاجية التقريرية، غير أن الاضافة الابداعية هي انطلاق غريزة الاعتداء على الحيوان الى اعتداء على الانسان أيضاً. إذ وبشكل تلقائي يهم الجزار بذبح مازن وسط ذهوله. هذا التصعيد هي الرسالة التي قدمها النص، إذ لاحقا لا مانع لدى السفاحين من قتل الأطفال وذبحهم وشرب دمائهم. بل أن التشيؤ يصل إلى مداه الأبعد في القصة التي تليه: “ثلاث زجاجات صغيرة”. إذ يقدم صبي حيواناته المنوية في زجاجات لقاء مبلغ من المال لثري॥ ويبقى السؤال دون إجابة: ماذا يريد هذا الرجل من حيوانات الصبي المنوية؟ إنه يريد الحياة مغلقاً عليها في زجاجات صغيرة. انها القصص التي تبدأ بحدث ما يقوم يحيى بترميزها أي تصعيد دلالاتها واضاءة ما هو معتم ومظلم أمامها ووراءها. لا يمتهن الكاتب التفسير ولا يقدم الحلول أو الاجابات، ذلك ليس من شأنه. الشأن هنا تلك الاضاءات العميقة التي يمارسها الكاتب بهدوء واتقان وتكثيف يبعده عن المباشرة وتسطيح النص ويقدم لنا بذلك نصوصا موغلة في الرمز المضيء وسط عتمة من الأحداث والأسئلة لا تنتهي أبداً. بالطبع هناك الأطفال ضحايا العصر بل وشاهدوه أيضا، الشهادة على انحطاطه تأتي منهم ومن الأمهات جمال الأرض الوحيد بعد اندثار قيمها.




لا يلاحظ الناس فقدانهم أجمل ما فطروا عليه: الحب। ذلك الفقدان يحدث تدريجيا وفي خضم الحياة اليومية وتفاصيلها، تسير الأمور الى نهايتها وكأنها طبيعية حقاً. فقط من لم يدخل في عجلة الحياة التي تطحن الانسان يوما بعد يوم وتحوله الى غذاء سهل للعقم والغرائز العدوانية الدنيئة، هو الذي يبصر مدى الكارثة، وليس هنا غير الأطفال كمازن بطل قصة “الطيور الزجاجية” وناصر بطل قصة “ليلة الخنجر” وأيمن بطل قصة “انقاذ”.




الكاتب يمتهن وبحذاقة بالغة فقط اضاءة لك ما أنت غير قادر على إضاءته، من خلال عيون الاطفال وممارساتهم البريئة। هل يعني ذلك أننا نحن جميعا شركاء في هذه المجزرة؟ وأنني قارئ النص من الممكن أن أكون السفاح في “أي يد ستمسك الحبل؟” أو الثري في “ثلاث زجاجات صغيرة” أو العريس في “ليلة الخنجر”!! بالطبع ذلك ما يود يحيى إضاءته لنا وقوله أن التفتوا الى أعماقكم تجدوا حقاً ما هو مخيف ومقزز. ربما يوقف هذا الالتفات طريقنا إلى الهاوية التي نسير إليها. يوقف طريقنا إلى المجزرة التي نعيشها كل يوم دون أن نعي ذلك. والحق أن سيرنا إلى الموت أرحم لنا حقاً وأجمل وأنبل من كارثة بقائنا طيورا من زجاج.




وفي حالة عقد مقارنة بين ساق منصور ليحيى وأنف كوفاليوف لجوجول نجد أن رمز تخشب ساق منصور جاء نظراً لعدم الحاجة إليه وبأنه أصبح عضواً زائداً في جسمه بعد أن كان أساسيا ، إذ به كان منصور يجلب لقمة العيش له ولأسرته عبر الجري من قرية إلى أخرى حاملاً الرسائل أو عبر العمل باحثاً عن العسل في الجبال। الساق هنا ترتفع وترفض النزول عن إرتفاعها احتجاجا، أي أملاً في الحركة ومن جديد، إلا ان جسم منصور أصبح متهالكاً وإبتدأ يسرد ذكرياته كشريط أمام عينيه، تلك الذكريات التي لعب فيها الساق دور البطل المغوار وأداة الشبق الجنسي وقاهر الأودية والجبال والرمال. ليست هي إذن نهاية الساق فحسب، إنها نهاية الرحلة بأكملها حيث لم يعد لهؤلاء الناس من منفعة على الإطلاق، حلت السيارة محل الساق في الأهمية كوسيلة للتنقل وقطع الأودية والرمال. أما أنف الرائد كوفاليوف فوضعه مختلف حقاُ، إذ ان هروبه الغامض من وجه صاحبه وتحولاته تلك كعسكري بارزة تارة وكموظف استقل عربة سفر، وساعده في ذلك حلاق الشارع الذي يعيش به كوفاليوف ويداوم على الحلاقة به. هنا تحدث هذه التجربة وصاحب الأنف في أمس الحاجة إليه ليس فقط كأداة للتنفس والشم، بالامكان حل ذلك بطريقة أو بأخرى، ولكن للصعود به وعبره إلى المستويات العليا للمجتمع والترقي في سلك الدرك وخوف الانتخابات المحلية وغيرها من الطموحات.




في الجزء الثالث من الطيور الزجاجية، يقترب يحيى من أقرانه العمانيين ممن كتبوا: نصوص التجربة. وهو وصف يطلق على النصوص الذي كتبها مبدعون عمانيون بناء على جرح شخصي أو ذاتي عميق أو صدمة نفسية مفاجئة أتى بها الزمن كعادته ودون سابق أنذار أو حسبان وهز تكوينهم الجسدي والنفسي ولكنه بالتالي قدم لنا هذه التجارب الابداعية المتميزة.
أهمها بالطبع تجربة “مذاق الصبر” لمحمد عيد العريمي، ينضم إليه بعد ذلك عبدالله حبيب في “فراق بعده حتوف” وخليفة بن سلطان العبري في “على الباب طارق” واسحاق الخنجري في “وحده قلقي”।




ما دار ليحيى في يوم للمطر هو سقوطه المفاجئ وذهابه أثر ذلك في غيبوبة لم يفق منها إلا بعد فترة من بقائه بين الحياة والموت، كان مهددا فيها بالشلل التام في المخ خاصة. هذه التجربة قدمها يحيى لنا في نصي “يوم واحد يتلألأ في عيني” و “من جدار أبيض إلى جدار أسود”.
يقوم الكاتب بتقديم تجربته “من جدار أبيض إلى جدار أسود” عبر مشاهد سينمائية كشكل مختلف للكتابة السردية। هي مشاهد أقرب إلى الرؤى الفجائعية، إلى الكوابيس التي تتراءى لمن هو بين اليقظة والموت. وربما المشهد الثالث من عدد المشاهد السبعة عشر هو الأكثر قوة في التوظيف والنفاذ إلى مأساوية الواقع لطفل من الريف العماني تسكن عقرب سامة ملابسه وتقوم بلدغه المتواصل حتى الموت، ومع صراخ الطفل المتواصل لم يجد والداه والطبيب وممرضات المستشفى سببا معروفا لبكائه إلا بعد موته وخلع ملابسه حيث وجدت العقرب ملتصقة بها. أما المشاهد الأخرى والتي استعان الكاتب فيها بتوظيف مشاهد من فيلم الكلب الأندلسي لبونويل وسلفادور دالي فجاءت رغم أهمية التوظيف أقل قوة في مأساويتها من الفيلم الموظفة مشاهده في الرؤى، أعود هنا الى مشهد قطع بؤبؤ العين الذي يقوم به في النص بونويل لعين سلفادور دالي مثلما تراءى في غيبوبة يحيى، في الفيلم كان المشهد أبلغ حيث يقوم دالي بقطع عين الفتاة بوسي إلى نصفين وتضيف قوة المشهد البصري السينمائي انشقاق القمر الى نصفين لاحقاً. بعدها تتابع مشاهد كابوسية في الفيلم غابت عن توظيف يحيى كالمشهد الذي تخرج فيه الديدان من يد الرجل مما يؤدي إلى تعفنها ورميها في الشارع أو تلتقطها لاحقاً امرأة سرعان ما تصدمها سيارة تموت على اثرها الصدمة الى آخر تلك الأحداث الكابوسية التي افتقدت توظيف يحيى. والاشكالية الاساسية هي تقديم بونويل كسادي يقوم بقطع عيني دالي، في الوقت الذي يفترض فيه العكس من يحيى. فمن يفتخر بساديته وحبه للفاشست هو دالي صديق فرانكو وليس الهارب من بطش الفاشت الى اوروبا والسينمائي الطليعي بونويل.




في النص الآخر “يوم واحد يتلألأ في عيني” وهو المكمل للنص السينمائي السابق سيستعين الكاتب فيه بأسطورة طائر الشؤم، والطير هنا وثيق الصلة بتجربة يحيى وهو دوما ما يعطي نصوصه هذا التميز الأسطوري، وبالمرأة كمنقذ حتى في أشد حالات المرض، بالطفولة أيضا، بالقلق الوجودي بالخوف من موت مبكر جراء الصدمة، إنه حقاً نص سردي فجائعي مدهش تتداخل فيه مشاعر الحب والموت، تتداخل فيه أزمنة اليقظة والغيبوبة وتقفز فيه إلى ذاكرة الكاتب ما كان غائبا ومندثراً كأصدقائه القدماء بعضهم يعيش والآخرون رحلوا الى غياب بعيد।




تكتمل هكذا محاور الطيور الزجاجية ليحيى في أجزائها الثلاثة। مقدمة لنا كاتبا مكتمل الأدوات الفنية، ذاهبا بتجربته التي إبتدأت منذ عشرين عاما إلى ألم مخيف يسطر هذه التجربة المتميزة عبّر عنها في تكثيف يكشف عما هو مخيف قادم مستقبلا أكثر عن ما مضى رغم عذاب الماضي وألمه: “أنتهت لعبة المرح وازادد خوفهم، ازداد وما زال يزداد حتى هذا اليوم.”.



ملاحظة: نشر هذا النص في مجلة "البحرين الثقافية" العدد 64أبريل 2011