الأحد، 9 مايو 1999

رواية "الطواف حيث الجمر" لبدرية الشحي..الطيران بلا توقف نحو المجهول

يحيى سلام المنذري

ظننت أن موضوع الكتابة لدى بدرية الشحي مجرد هاجس تلاشى مع مرور الأيام ، بعد أن نشرت الكثير من القصص القصيرة في الصحف والمجلات المحلية قبل عشرة أعوام تقريبا .. ولكنها كسرت صمتها - ربما كان صمتا للمراجعة والتأمل - لتعلن أن هناك صوتا ينبض بقوة في الحركة الابداعية العمانية توجته بكل جرأة من خلال نشرها لروايتها الأولى (الطواف حيث الجمر)، والتي تعتبر الأولى كقلم نسائي عماني ، ومن الاصدارات المهمة التي سوف تثير نقاشا وجدلا، ومن يدري لعلها أول الغيث .
سطور الرواية مفعمة بجمرات التسلط والتمرد والتوق للتحرر من جميع القيود الاجتماعية ، نداء وعويل ضد عادات وتقاليد مازال بعضها يترسخ بقوة في العقول .. ولكن الى أي مدى ترمي الكاتبة هذه الجمرات ؟ ربما تحيلنا هذه التجربة البديعة لكتابات مشابهة في العالم العربي بأقلام كاتبات كان لهن دور في إبراز قضايا تخصهن بالتحديد مثل موضوع قهر المرأة وتسلط الرجل عليها مع قضايا أخرى في المجتمع، ولكن هذه المرة في بيئة عمانية تمتد حتى السواحل الافريقية في قصصها. الا يذكرنا موضوع التحرر هذا بكتاب مذكرات أميرة عربية للسيدة سالمة ؟ ومع اختلاف خيط الابداع في العملين ، إلا أنهما يطرحان موضوعا واحدا شائكا ومقلقا جدا، يحتاج لرؤية ثاقبة ، وامكانيات فنية للطرح والصياغة . وحينما تفاعت كاتبة رواية (الطواف ) مع مجتمعها وبيئتها تسلحت بكل ذلك ، الى جانب وعيها الذي أدرك ضرورة كتابة عمل جريء وقريب من الاتقان كالذي بين أيدينا الآن ، هي مغامرة كتابة جديرة بتكوين صدى وتفجير تسآؤلات .
زمن أحداث الرواية تصاعدي ويمشي في خيط واحد على لسان بطلة الرواية (زهرة ) التي كانت متأججة منذ البداية بروح القص الجميل ، ويروح التمرد والتحرر من القيود التي كبلتها منذ الولادة ، فزرعت في قلبها التساؤلات وعدم السقوط في الذل مهما كانت العواقب ، وتحت وطأة كل تلك القيود قررت الهروب من نار الأهل وعاداتهم المتناقضة الثقيلة الى جحيم آخر مجهول ، تجبرنا الراوية على متابعته بشغف حتى النهاية ، وهي نقطة التشويق التي نجحت فيها الكاتبة .
الهروب والانسلاخ من العبودية ، دلالات تطرحها الرواية في قصة زهرة وتمردها على أهلها وعلى آخرين في السفينة التي تهربها الى افريقيا، لذا نجدها ساخطة وحاقدة عل الرجال لما يمتلكون من قوة وتسلط بمساعدة المجتمع، ولكن زهرة تحاول أيضا الى جانب حقدها إذلالهم إذ لا ضير أن تدوسهم بأقدامها إن سنحت لها الفرصة .. "سعيدة أنا أن أجد هناك واحدا على الأقل مستعدا لتخطي حاجز الفوقية من أجلي ، واحدا استطيع أن أدوسه بقدمي، أذله فيسقط أمامي صريعا دون شكوى أو تذمر يذكر.." ص 130، ولكن كل ذلك سوف يكون بعد التحرر من العادات التي تقيدها ووقوعها بعد ذلك في دور المتسلط والسيد، وهو الدور الذي تكرهه في الرجال .
ولكن هل وجدت زهرة ما تتمناه أم أن قرار الفرار أذبلها وجعل الندم يدب في عروقها .. أم أنها انتصرت ونالت مبتغاها؟ في بدايات الهروب ورد تصوير بديع على لسان زهرة للتحرر من البرقع الذي زامنها منذ الصغر مع تذكرها لبعض معاناة الطفولة .. "أحب هذه الحياة ، أحب أن أعيش فقط أطير بلا توقف ، أحلق وأرى الكون بأسره تحتي، وأنا للمرة الأولى والأخيرة فوق ، لا يمسكني شيء ولا تتعب أجنحتي ، وهكذا كما وعدت نفسي وأمام عيني سلطان نافد الصبر دونما ترده أو تأخير، أمسكت ببرقعي ونزعته عني وبسرعة رهيبة رميته بالبحر، لم ألتفت اليه ولا إلى أولئك الحمقي المتناقضين . كان ما يشد نظري أكثر ذلك البرقع الذليل ، الذي كنت أراه يلوح مستنجدا ،رأيت وقتها طفلة تعدو، يجرجرها أبوها على شوك السدر، كانت تصرخ مستنجدة أيضا، وكانت مصدومة يقتلها الخوف .." ص114 ، اليست هي متعة التحرر وثم التحسر على أيام مضت ذاقت فيها الذل والتفرقة العنصرية .. كل هذا يختلط في القصة ويتماوج مع تأملات زهرة التي تقترب من الشاعرية ، وامنياتها وأحلامها الى بلاد تتجاهل العرق واللون والأصل والجنس .. "كل ما بغيت أن تحملني موجة بيضاء الى أرض تتجاهل أنوثتي وتعاملني بنقاء وحب ، تتجاهل عرقي ولوني وأصلي وجنسي".. ص140، كما أنها تمنت أن تكون صبيا لدرجة منزلته الرفيعة في المجتمع ، إنه الاحساس بالوضاعة والذل .. "ألم أتمن دائما أن أكون صبيا بين طرفة عين وأخري" ص127، نجد أن زهرة ألبست شخصية قوية حاولت مقارعة الشر بالشر، وحينما يتاح لها أن تكون سيدة تأمر وتنهى ، تنسى التحرر تجاه الحب والانسانية والحلم بعالم خال من التفرقة العنصرية ، وتجد أن الكاتبة توقعها في مطب التسيد ودور الجلاد والخبث وحب المال ، مصورة بذلك نفسية زهرة الحاقدة في قصة غريبة بدايتها أحداث السفينة ، ثم المزرعة الافريقية التي سلبتها ، وكونت منها عالما خاصا بها تجلد فيه عبيدها باوامرها الساخطة ، فهل ذلك يعود للفطرة أم الانتقام من الرجال أم وراثة التسيد أم أنه نتاج الحقد ؟
أحداث الرواية تتباين بين التطويل في بعض المشاهد والسرعة في بعضها ، يشوبها بعض العثرات اللغوية والأخطاء المطبعية الكثيرة ، وبنيانها متماسك، يهزه في بعض الأحيان بعض التناقضات الطفيفة .. مثلا : كيف يسمح صالح بعد أن تزوج من زهرة بدخول سلطان المريض الى قمرتها كي تعتني به وهو الذي حقد عليه لدرجة الوشاية به ، ألم يكن في السفينة سوى تلك القمرة ، أليس هناك من أحد غير زهرة يعتني به ؟ هل هي صنعة الحدث تلك التي ولدت هذه الفكرة المتناقضة ؟ ولكن هذا المثال لا يقدر على هدم هذا البنيان لأنه نتاج جيد واضح ولأنه نزف بتلم موهوب امتلك الصبر لمثل هذه الكتابة ربما سنوات .
اذا كان القاريء قد صدم بعدم وجود الصفحة الأخيرة في هذه الرواية وتألم لأنه لم يشبع نهمه من قراءة نهاية الرواية ، فكيف يكون موقف الكاتب الذي نزف كتابة وألما وعصارة جهد أياما وشهورا وسنوات ، ويرى كتابه مطبوعا تنقصه صفحة ويباع في المعارض والمكتبات كيف تسمح دار نشر مشهورة -ويثق فيها معظم الكتاب- بذلك .. هل بدأت جديتها في الاصدار تتناقص بعد أن نشرت لكثير من الكتاب البارزين على مدى سنوات ؟
إذن هكذا قرأت كل الرواية ما عدا نهايتها فقد ابتلعتها مطابع دار النشر؟
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 1999م
نشرت القراءة في مجلة نزوى العدد التاسع عشر