سالم آل تويه
تقول الأسطورة اليونانية: إن الأنثى والذكر كانا بجسد واحد؛ كل ذكر وأنثى فـي جسد، لذلك كان الحب يتم تلقائياً دون حاجة إلى الاتصال بجسد آخر، لكنْ جاء وقت غضبت فيه الآلهة من الإنسان وطفح بها الكيل فانتقمت منه وعاقبته بفصله إلى نصفين أحدهما أنثى والآخر ذكر. ومنذ ذلك اليوم بدأت قصة البحث: كل نصف يبحث عن نصفه الآخر.
وتصدر جمانة حداد مجموعتها الشعرية «عودة ليليت« بالتعريف التالي: «ليليت: جاء ذكرها فـي الميثولوجيات السومرية والبابلية والأشورية والكنعانية، كما فـي العهد القديم والتلمود. تروي الأسطورة أنها المرأة الأولى التي خلقها الله من التراب على غرار آدم. لكن ليليت رفضت الخضوع الأعمى للرجل وسئمت الجنة، فتمردت وهربت ورفضت العودة. آنذاك نفاها الرب إلى ظلال الأرض المقفرة، ثم خلق من ضلع آدم المرأة الثانية، حواء«.
العلاقة بين الذكر والأنثى شكلت على الدوام مقياساً لجس نبضات قلب المجتمع، لا لشيء وإنما، فقط، لمعرفة إن كان القلب حياً أم ميتاً. الخطاب الذكوري المستبد يعلك مفاهيمه البالية لأنه إن لم يفعل ذلك فماذا سيفعل؟. إنه لا يملك سوى الاجترار والترديد فالتفكير والعقل أبعد ما يكونان عن رؤوس تصر على تقديم نفسها وكأنها مجتثة من أجساد كائنات أخرى تشترك معها فـي الشراسة والاندفاع والتذرع بالفحولة مقابل مطالبة المرأة بالخنوع والاستسلام ووصفها بالعورة، والمضي فـي هذه الرؤية الاضطهادية حد إقناع المرأة نفسها وتنصيبها عدوة لذاتها!.
هذا النمط يتكرر كثيراً فـي مدن كثيرة داخلها يعيش إناث وذكور، بنات وأولاد، فتيات وفتيان، نساء ورجال... قد يلتقي بعضهم مصادفةً أو عن سابق إصرار فـي قلعة أو شارع أو مقهى لكنْ، يا ترى، كيف؟.
ماذا يحدث؟.
هذان السؤالان يثاران فـي عدد كبير من القصص القصيرة فـي عُمان دون البحث عن إجابة بالطبع بقدر ما يقوم الإبداع باستكناه أغوار المجتمع وتفكيك منظومته الظاهرة للعيان أو تلك المدفونة فـي قبر الأعراف والتقاليد والعزلة والانغلاق.
منذ الوهلة الأولى يحيلنا عنوان قصة يحيى سلام المنذري «نصفان«1 إلى الأسطورة اليونانية وحقد الآلهة على الإنسان. العنوان هنا عارٍ من الزوائد والإضافات والصفات رغم أن إحالة أخرى تولدها تلقائية التأويل والدلالة البديهية، فمفردة «نصفان« تشير مباشرة إلى ما كان كُلا واحداً ثم تعرض لفصل قسمه نصفين. وما دام هناك نصفان فإن القصة تظل ناقصة بغياب أحدهما.
نحن- كقراء- نعرف ما يعتمل فـي قلبي (النصفين) من لوعة واشتياق وحنين ورغبة وهيام وحب وعشق وجنون، أما هما فلن يعرفا ذلك إلا فـي السر- بعيداً عن هنا حيث يجلسان على طاولتين منفصلتين فـي مقهى يعج بالزبائن- وقد لا يعرفان ذلك أبداً.
النصفان- حسب سياق القصة الضمني- هما فتاة وفتى ينصاعان لنداء الفطرة الغامض الذي يسعد الناسُ بالارتماء فـي أحضانه أو التقلب فـي أتونه الملتهب.
تنبني القصة عبر سرد يتخذ ثلاثة مستويات تبدأ بسرد أحد زبائن المقهى النظراتِ المتبادلةَ بين الفتاة والفتى. يضع المشهد مكبرا أمامنا فـي لحظات متوترة: «يغوص فـي عينيها بشراهة. هي على ما يبدو قد لاحظت ذلك، حتى أصابها الارتباك... ذلك الارتباك الذي يتوارى خلف تعابير الوجه المختلفة«.
طوال السرد لا تحدث سوى الهواجس التي تتوالد وتستمر وتتحول تكهناتٍ محضةً لا أحد يدري على وجه الدقة مدى صحتها من خطئها. إنها قصة الاحتمالات وأحداثها تتأزم فـي الصمت المطبق والنظر كلغة تعزز علاقة غريبة ومبهمة ولائذة بالأسرار والخفايا.
يبدو الأمر أبسط من ذلك مثلما يبدو فـي غاية التعقيد.
المونولوج يتراكم ويفشي الدواخل التي هي خافية عن الآخر، والآخر خافٍ عن الآخر بل لا يعرفه قط. أحد زبائن المقهى/ السارد الأول يسرد لنفسه فقط- وليس لأحد آخر- ما يراه من تخاطر بين الفتاة والفتى، وفـي اللحظة التي يتوقف فيها عن إبداء المزيد من الاحتمالات حول ما سيؤول إليه مصيرهما يواصل (النصف الأول)/ الفتى السرد وكأنه يكمل رسم المشهد الصامت من زوايا أخرى: «عيناها رذاذ الصباح، منذ أن جلست على طاولتي وأنا أحدق إليهما. عيناها مذاق الحب، فوجدت نفسي خارجاً عن كل شيء«. لكن عندما ينطفئ المشهد فجأةً بعد طول تحديق: «اختفت مثل طيف يشبه قوس قزح... مثل حلم جميل قصير... هل ستأتي مرة أخرى...؟ قد أرى غيرها... لكن من منهن سوف تطلق فـي نفسي حنين سحرها...؟ من سوف يبلل قلبي الحزين بالفرح...؟«. عندما يحدث هذا يبدأ سرد الفتاة وكأن الزمن لم يصل بعد إلى هذه اللحظة: «عيناه شرستان منذ أن جلست على طاولتي وهو يحدق إلي بشراهة. عيناه تفضحاني، فوجدتني ضائعة فـي صمت وترقب مثقلين«. السرد هنا بلسان أنثى مهد لها عنوان القصة بوصفها النصف الثاني.
هناك زمن واحد تحدث فيه السرود الثلاثة لكن أي زمن- فـي الحقيقة- يتعمق عندما يتشظى ويصبح فتاتاً كي ينكسر الخط المستقيم، وبالتالي تتعدد الأزمنة فـي الوعي مستدعاة من خبرة التعامل معها.
تقدم القصة نفسها فـي أشد لحظات الإنسان انخطافاً، تمسك بحجر كبير تريد أن تلقيه على رأس المجتمع لكنها تقف ولا تلقيه. ربما أرادت تعمدت التناسي والاكتفاء بهذا الافتتان، وهيهات حدوث ذلك.
علينا معرفة ما حدث بالضبط.
يقول الراوي الأول: «... وجهها خجل وأسئلة. وجهه شراسة ومباغتة... تلك نظرات لم يقطعها إلا حينما يحدق فـي سقف المقهى. هناك غيري بالتأكيد من لاحظ أن هذين الاثنين يثيران الانتباه، خصوصاً من جانبه، ومن المؤكد أيضاً أن الاثنين لا يعرفان شعور بعضهما بعضاً. قد يعتقد أنها أُغرمت به من خلال نظرتيها، أو يعتقد أنها فقط حاولت معرفة سر نظراته المستمرة فيها. وقد تعتقد أنه هام بها، أو أنه مجرد عابث ينظر لكل النساء بنفس النظرات«.
ما سيحدث، بحذافيره، مفتوح على الأوهام والاحتمالات. قد يحدث أي شيء وكل شيء لكن فـي نطاق الخوف والسر والقلق. ما يقوله الراوي هنا يمثل وجهة نظر منفتحة ومتحررة من الحمولات الاجتماعية الجاهزة. ولعله يشير إلى علة يفرزها المجتمع ويكرس لها، أو، بمعنى آخر، يمهد الطريق إليها. العلاقة بين الرجل والمرأة- كما يطرحها النص- ليست قائمة أصلاً، وإضافة إلى كونها متوهمة فإنها لا تتحقق- إن تحققت- إلا فـي السر، ولا تصل إلى هذا المصير إلا بعد لأي وعدم معرفة. وما دام مستقبل العلاقة مرهوناً بلعبة الاحتمالات يمكننا نحن أيضاً- من موقعنا كقراء متفاعلين مع النص- أن نتكهن بأن عدم المعرفة وحده فقط يمكن أن يفضي إلى حب جارف بين اثنين لا يمتلكان أدنى معرفة عن بعضهما بعضاً، ولم يلتقيا قبلاً، ولم يتبادلا أي كلمة.
هل هي تلقائية قدرية تحرف الأمور لتذهب بها إلى علاتها على هذه الشاكلة المندفعة الحالمة المتمنية؟.. ولنتذكر أن باب الاحتمالات لا ينغلق حتى بعد انفتاح النص على أسرار فـي ظهر الغيب قد لا تعدو كونها أضغاث أوهام.
ينبغي أن تظل العلاقة سراً بين الاثنين. انكشاف السر فضيحة فـي عرف المجتمع. وما هو السر؟: إنه العلاقة بين رجل وامرأة. وما هي الفضيحة؟: إنها معرفة المجتمع لهذه العلاقة. إذن لا فرار من الأسرار لأنها تتصدى للعرف عبر الهروب منه وليس بمواجهته، فالأمر برمته خطيئة فادحة لا تغتفر، تقوض أركان المجتمع.
ياللهول: كل هذا يحدث لأن رجلا وامرأة أرادا أن يتعارفا. لا ينتهي الأمر هنا بل يتفاقم. من المدين ومن المدان؟. يالها من معضلة كبرى.
يقول «النصف الأول«/ الرجل: «أحسست أن جميع الجالسين قد فضحوا إعجابي بها«. هذا لا يحدث إلا إذا توافرت الأسباب التالية:
1- أن نظراته إلى المرأة أثارت الآخرين.
2- أن الآخرين يعنيهم الأمر ويستنكرونه ويعدونه فضيحة.
ولنا هنا ألا نكف عن طرح الاحتمال تلو الاحتمال: ترى كيف سيكون رد فعل الآخرين لو أن الرجل تمادى أبعد من ذلك؟
غموضٌ ما يجعل النصف الثاني/ المرأة محرضًا للنصف الأول/ الرجل الذي يستجيب ويستغرق فـي تفاصيل متوهمة: «لو كانت تمتلك شيئًا من الجنون لتحركت من كرسيها وتقدمت ناحية طاولتي وقالت لي: «أممكن أن أشاركك الجلوس... فأنت على ما يبدو بحاجة لي«. حينها يصيبني شيء غريب لا أعرفه يجعلني أرتبك وأبتسم... سأرد عليها وأقول: «طبعًا طبعًا بإمكانك كل شيء يا حبيبتي«. ثم يدعي أنه واعٍ لرد فعلها تجاه غرابة ما يقوله: «ستحدق إلي، ستغتبط، ستضحك بغنج، وستقول: «حبيبتك... يالك من مجنون... نحن لم نتكلم بعد«. حينها سأهز رأسي بعنف، وسأرفع يدي عاليًا، وسأتجه نحو جميع الجالسين وسأصرخ بفرح«.
بالطبع لا يحدث شيء من هذا على الإطلاق رغم أن الشاب فـي غمرة هيامه لا يستنكر إعلان فرحه أمام الجميع، أي أنه مستعد لردم الهوة التي يحفرها المجتمع.
لماذا يتحول موضوع رغبة طرفين فـي التعرف إلى بعضهما بعضًا إلى مجال للخطط ووضع الاحتمالات وكأنه يتعلق بخوض معركة وليس برجل وامرأة يمكن لأحدهما الذهاب إلى الآخر فعلاً ومصافحته والتعرف إليه؟؛ فالمسافة ليست أكثر من طاولتين وانتهى الأمر. لماذا لا يحدث ذلك؟.
لا يحدث- ربما- لأن هناك صورة وحيدة يراها المجتمع- إذا ما اجتمع رجل وامرأة- هي صورة جنسية بحتة يتم فيها لقاء جسدي. هذا اللقاء يتم فـي مكان مغلق، أي فـي السر، ولو حدث لقاء أمام الجميع فإن تلك الصورة الجنسية تسطو بتفاصيلها الشهوانية لأنها مصنوعة من قبل تفكير مريض وبدائي لا يرى فـي الأنثى سوى موضوع للرغبة فقط، ولأنه مريض فاقدٌ الأمل فـي أن يكون سويا فإنه مع الأيام يكتسب عدوانية غير طبيعية لمماراة مرضه، لذلك يحبس المرأة لأنها عورة وفتنة وبلاء. إنه لا يرى فيها أبعد من جسدها وأعضائها التناسلية، وهذه الصورة ترتسم أمام عينيه طوال الوقت فيجن جنونه ويكاد يفتك حتى بنفسه.
هذا مرض خطير جدًا.
وكي نستفز تلك العقلية المريضة نعود إلى توليد احتمال آخر تسمح به القصة: ماذا سيحدث لو أن الفتى قبل الفتاة فـي المقهى أمام جميع رواده؟. قد لا يكون هذا التكهن سوى عدمِ معرفةٍ آخر ينضاف إلى العلاقة الموتورة والناقصة بين الذكر والأنثى، لكن هل ستحدث كارثة لأجل قبلة بين شخصين؟، ولماذا؟: لأن القبلة تخدش حياء المجتمع؟.
المجتمع ليس جنة الله الموعودة. المجتمع مليء بالنفاق والعهر والقمع والبشاعة والاستغلال والفساد، وما السر إلا تجل لأمراضه يتيح له ممارستها فـي الخفاء وهو مطمئن غير خائف من الانكشاف والفضيحة.
يمكننا المضي قدماً ورسم تلك الصورة الجنسية التي لا يرى المجتمع غيرها كلما دخلت أنثى فـي مشهد مع ذكر، لكن، بالنسبة إلينا، نرى تلك الصورة فـي سياقها دون أي عقدة تذكر، كما نرى صورًا أخرى كثيرة غير تلك الصورة. ونتمنى أن تفارق أمنية النصف الثاني وهمَها وتصبح حقيقة: «جاءني النادل، كان ظريفاً، طلب مثلجات وبدأت أتلمظها ببطء وأقارن لذتها مع لذة رؤيتي عينيه. هل أكون متوهمة؟. ويلي ما الذي حدث؟ ما الذي يدور فـي رأسي..؟ ما الذي يدور فـي رأسه..؟«.
إن أحداث قصة يحيى سلام المنذري الآنفة الذكر فضاؤها مقهى- والمقهى فضاء اجتماعي أيضاً- غير مسمى يفشل فـي نهاية الأمر فـي أن يقرب بين اثنين. أما قصة حسين العبري ورغم أن أحداثها تدور فـي الشارع إلا أنها، بدايةً من عنوانها، تحدد مكان الشارع وتنفي نفيا قاطعاً: «لا يوجد مكان للحب فـي مسقط«2.
سنقول، مرةً أخرى، أنثى وذكر عوض امرأة ورجل أو فتى وفتاة؛ لأن ملامح الشخوص ليست محددة عمرياً بينما تتوطد أطروحاتها حول (الحب) بتعدد مفاهيمه. إنها شخوص غائمة، ربما، لأنها تنتهك حرمةً ما. إننا لا نعرف أكثر من أن «سيارتها تتقدم سيارتك وأنت وراءها كأي شيء«. هذا هو السطر الأول فـي القصة تغيب فيه ملامح الشخص تماماً ويصبح مبهماً غير واثق أو لا يتحدد- «كأي شيء« حتى مع نفسه بينما كان مرأى جسدين ماديين يحتل حيزا مكانيا أكبر. بلغة أخرى: مرأى السيارتين كان أوضح رغم عتامته أيضاً. لنواصل القراءة: «سيتقدم الليل بملكوته الصامت، ستطول الطرقات الإسفلتية بكآبة وأنت وراءها. نظرك معلق على خلفية سيارتها اللامعة. أنت تقرأ الأرقام للائحة الصفراء الطويلة. أنت ترى ما يفعله الزمن فـي الأشخاص، وأنت تدرك ما يفعله الزمن فيك، وها أنت تدرك أنها ستستدير إلى هذا المكان المقطوع أخيراً«. هل هو ندمٌ يخوض صراعاً مع الرغبة؟، وكأنما لا محالة من الاستمرار فـي ذرع شوارع المدينة لاكتشاف أنها المكان الوحيد للقيام بعمل واحد: البحث عن مكان يلتقي فيه رجل وامرأة. شوارع تسلم إلى شوارع ولا مكان. «السيارات من خلفكما ومن أمامكما وأنت ملتزم باللحاق بها، لن تغفل عيناك عن سيارتها، عن الماركة التي تحمل الاسم الشهير. عمود الكهرباء العشرون، عمود الكهرباء الواحد والعشرون«.
هنا إذن تبدأ قصة أخرى: قصة الزمن ورتابته وتكراره والحيرة التي تصنع العبث: «سوف يعذبك الوقت والانتظار، وسيعذبك أنها لن تجد المكان الملائم، لكنك تتساءل داخلك: المكان الملائم لماذا؟ إنك لا تعرف بالتأكيد ما الذي يمكن أن تفعله معها، أنت لا تعرف شيئا«. وقبل هذا شيءٌ غريبٌ يحدث ويستمر مقرونا بالمكان المبحوث عنه: «ها هي الآن تصل إلى نهاية الجرف، سوف تقول بتعال- كما قالت من قبل- إن هذا المكان غير متشح بالمجد، وسترجع بسيارتها للوراء وأنت وراءها«. هكذا يصير وجود المكان مستحيلاً، وفقط يتواتر الزمن تباعاً ليلتف على نفسه أو يمضى أكثر رتابةً بلا نهاية.
فراغ شاسع يعيشه الرجل وهو يتبع بسيارته سيارة المرأة. يمتلئ الفراغ بفراغات أخرى دون حسم للعبة أو وضع نهاية لها. إلى متى سيستمر الرواح والمجيء فـي الشوارع بحثا عن مكان صالح للحب؟.
السيارتان يمكن أن تمثلا رمزاً مكانياً صغيراً واقياً من أعين المجتمع. هذا المكان الصغير يتحرك فـي مكان أوسع ومكشوف متمثلاً فـي شوارع المدينة، ما يعني انكشافاً جزئياً على الأقل لا يمنح متسعاً للحب، أي لاجتماع الاثنين فـي مكان خاص دون رقابة أو فضح. يسطو الزمن على الرجل ويحس بفرط حضوره وعنفه ورتابته وإقلاقه ومضيه بلا جدوى: «وأنت مفعمٌ بالرغبة« التي لا تتحقق ويشحنها مضي الزمن بالفتور وفقدان مخرج نفسي ينتشل الشخصية من الاستمرار فـي لعبة خاسرة.
الرغبةُ موضوعٌ محلومٌ به يقوم بتأجيل الانسحاب من مشكلة البحث عن مكان، والزمن يثير أسئلة المكان حين يمر ثقيلاً وقاسياً. لا ننسى طوال القصة حضور عنوانها ليس كخلفية بل خلاصة منتهى من أمرها. نعرف معاناة الرجل مع وطأة الزمن والتحولات المحبطة التي يفعلها فيه، أما المرأة فمن خلال شعور الرجل تجاهها نعرف أنها الأقوى والمسيطرة فضلاً عن أنها هي من تقود الرجل؛ فهذا يتبعها بسيارته، وكما لو أن الاثنين يطاردان الزمن بوسيلة مهما كانت مسرعة تبقى دائرةً فـي نطاق الزمن وتحت هيمنته مع أن تعامل المرأة معه- الزمن- ليس واضحا. يضيق الرجل ذرعاً بالزمن لكن الرغبة- التي هي الشهوة بمعنى آخر- تفسح المجال- كل مرة- للتخفيف من وطأته ظناً أن الهدف سيتحقق ويتوفر المكان لممارسة الحب.
الزمن لحوحٌ والرغبة أشد إلحاحاً: «... لن تحاول أن توقفها بعناد، أو أن تتجاوزها بقسوة، أن تقول لها: لا، بإمعان، أو تقول لها سنقف هنا بكلمة ثاقبة. أو تقول: سوف نفعل الحب أو أي شيء تريدين هنا، بلا مواربة«. إنه يعرف سلفاً أنه لن يقدم على وضع حد للمسألة، ولا حتى مجرد أن يحاول ذلك، أي أنه يستمرئ فـي تعذيب نفسه ويقرر مواصلة البحث عن المكان، ويجد الأعذار رغم قناعته بعدم الجدوى، الأمر الذي يعني ضمنياً اختلاقه لأمل سيؤدي أخيراً إلى إيجاد مكان للحب، وهذا بدوره يعني تعزية الذات: «لن يطاوعك قلبك، قلبك الفضولي، قلبك المجنون، قلبك الباحث«. الرغبة، إذن، متمكنة ومتملكة وفـي سبيلها حتى الزمن يمكن أن يحتمل: «تبتعد التلال فـي المرآة الأمامية، وتتلاشى سداب والبستان ومطرح فـي المرآتين الجانبيتين، والعجلات ما زالت تدور، وأنت عبدٌ للائحة الصفراء الطويلة«.
هنا تجرف الرغبةُ الرجلَ وتحوله عبداً خاضعاً لها. وهنا تتشكل جغرافيا أخرى للمكان ترسمها القصة وتحول ثوابتها المعروفة إلى مكان يحارب الحب خوفاً منه أو قمعاً له، فلا شك أننا لن نصدق أبداً قصة عدم وجود مكان يختلي فيه ذكر وأنثى، لكنْ، قبل هذا، ينطرح سؤال أعمق قد يكون طرحُه فـي مكان آخر أدعى للسخْرِيَةِ والضحِكِ: لماذا لم تجد شخصيتا القصة (الذكر والأنثى) مكاناً يسمح لهما بفعل الحب؟!.
الآن سنسوق تباعاً لازمةً تتكرر، فـي ثنايا القصة، بين فقرات متباعدة يحرض سردَها العبثُ المحضُ للزمن:
«أعمدة الكهرباء المطلة من علً، الأول، الثاني، الثالث، وهي تسرع وأنت تحاول اللحاق بها«.
«عمود الكهرباء العشرون، عمود الكهرباء الواحد والعشرون«.
«العمود المائة والواحد والعشرون«.
«العمود المائتان، العمود المائتان والواحد«.
«العمود الثلاثمائة والاثنان والثلاثون، العمود الثلاثمائة والثلاثة والثلاثون...«.
هنا تنتهي القصة لكنها، فـي الحقيقة، لا تنتهي.
إنها قصةٌ قد تستغرق الزمن كله ولا تعثر على مكان للحب؛ لأنه لا يوجد فـي مسقط!. :)
عن ملحق شرفات
________________________________________
تقول الأسطورة اليونانية: إن الأنثى والذكر كانا بجسد واحد؛ كل ذكر وأنثى فـي جسد، لذلك كان الحب يتم تلقائياً دون حاجة إلى الاتصال بجسد آخر، لكنْ جاء وقت غضبت فيه الآلهة من الإنسان وطفح بها الكيل فانتقمت منه وعاقبته بفصله إلى نصفين أحدهما أنثى والآخر ذكر. ومنذ ذلك اليوم بدأت قصة البحث: كل نصف يبحث عن نصفه الآخر.
وتصدر جمانة حداد مجموعتها الشعرية «عودة ليليت« بالتعريف التالي: «ليليت: جاء ذكرها فـي الميثولوجيات السومرية والبابلية والأشورية والكنعانية، كما فـي العهد القديم والتلمود. تروي الأسطورة أنها المرأة الأولى التي خلقها الله من التراب على غرار آدم. لكن ليليت رفضت الخضوع الأعمى للرجل وسئمت الجنة، فتمردت وهربت ورفضت العودة. آنذاك نفاها الرب إلى ظلال الأرض المقفرة، ثم خلق من ضلع آدم المرأة الثانية، حواء«.
العلاقة بين الذكر والأنثى شكلت على الدوام مقياساً لجس نبضات قلب المجتمع، لا لشيء وإنما، فقط، لمعرفة إن كان القلب حياً أم ميتاً. الخطاب الذكوري المستبد يعلك مفاهيمه البالية لأنه إن لم يفعل ذلك فماذا سيفعل؟. إنه لا يملك سوى الاجترار والترديد فالتفكير والعقل أبعد ما يكونان عن رؤوس تصر على تقديم نفسها وكأنها مجتثة من أجساد كائنات أخرى تشترك معها فـي الشراسة والاندفاع والتذرع بالفحولة مقابل مطالبة المرأة بالخنوع والاستسلام ووصفها بالعورة، والمضي فـي هذه الرؤية الاضطهادية حد إقناع المرأة نفسها وتنصيبها عدوة لذاتها!.
هذا النمط يتكرر كثيراً فـي مدن كثيرة داخلها يعيش إناث وذكور، بنات وأولاد، فتيات وفتيان، نساء ورجال... قد يلتقي بعضهم مصادفةً أو عن سابق إصرار فـي قلعة أو شارع أو مقهى لكنْ، يا ترى، كيف؟.
ماذا يحدث؟.
هذان السؤالان يثاران فـي عدد كبير من القصص القصيرة فـي عُمان دون البحث عن إجابة بالطبع بقدر ما يقوم الإبداع باستكناه أغوار المجتمع وتفكيك منظومته الظاهرة للعيان أو تلك المدفونة فـي قبر الأعراف والتقاليد والعزلة والانغلاق.
منذ الوهلة الأولى يحيلنا عنوان قصة يحيى سلام المنذري «نصفان«1 إلى الأسطورة اليونانية وحقد الآلهة على الإنسان. العنوان هنا عارٍ من الزوائد والإضافات والصفات رغم أن إحالة أخرى تولدها تلقائية التأويل والدلالة البديهية، فمفردة «نصفان« تشير مباشرة إلى ما كان كُلا واحداً ثم تعرض لفصل قسمه نصفين. وما دام هناك نصفان فإن القصة تظل ناقصة بغياب أحدهما.
نحن- كقراء- نعرف ما يعتمل فـي قلبي (النصفين) من لوعة واشتياق وحنين ورغبة وهيام وحب وعشق وجنون، أما هما فلن يعرفا ذلك إلا فـي السر- بعيداً عن هنا حيث يجلسان على طاولتين منفصلتين فـي مقهى يعج بالزبائن- وقد لا يعرفان ذلك أبداً.
النصفان- حسب سياق القصة الضمني- هما فتاة وفتى ينصاعان لنداء الفطرة الغامض الذي يسعد الناسُ بالارتماء فـي أحضانه أو التقلب فـي أتونه الملتهب.
تنبني القصة عبر سرد يتخذ ثلاثة مستويات تبدأ بسرد أحد زبائن المقهى النظراتِ المتبادلةَ بين الفتاة والفتى. يضع المشهد مكبرا أمامنا فـي لحظات متوترة: «يغوص فـي عينيها بشراهة. هي على ما يبدو قد لاحظت ذلك، حتى أصابها الارتباك... ذلك الارتباك الذي يتوارى خلف تعابير الوجه المختلفة«.
طوال السرد لا تحدث سوى الهواجس التي تتوالد وتستمر وتتحول تكهناتٍ محضةً لا أحد يدري على وجه الدقة مدى صحتها من خطئها. إنها قصة الاحتمالات وأحداثها تتأزم فـي الصمت المطبق والنظر كلغة تعزز علاقة غريبة ومبهمة ولائذة بالأسرار والخفايا.
يبدو الأمر أبسط من ذلك مثلما يبدو فـي غاية التعقيد.
المونولوج يتراكم ويفشي الدواخل التي هي خافية عن الآخر، والآخر خافٍ عن الآخر بل لا يعرفه قط. أحد زبائن المقهى/ السارد الأول يسرد لنفسه فقط- وليس لأحد آخر- ما يراه من تخاطر بين الفتاة والفتى، وفـي اللحظة التي يتوقف فيها عن إبداء المزيد من الاحتمالات حول ما سيؤول إليه مصيرهما يواصل (النصف الأول)/ الفتى السرد وكأنه يكمل رسم المشهد الصامت من زوايا أخرى: «عيناها رذاذ الصباح، منذ أن جلست على طاولتي وأنا أحدق إليهما. عيناها مذاق الحب، فوجدت نفسي خارجاً عن كل شيء«. لكن عندما ينطفئ المشهد فجأةً بعد طول تحديق: «اختفت مثل طيف يشبه قوس قزح... مثل حلم جميل قصير... هل ستأتي مرة أخرى...؟ قد أرى غيرها... لكن من منهن سوف تطلق فـي نفسي حنين سحرها...؟ من سوف يبلل قلبي الحزين بالفرح...؟«. عندما يحدث هذا يبدأ سرد الفتاة وكأن الزمن لم يصل بعد إلى هذه اللحظة: «عيناه شرستان منذ أن جلست على طاولتي وهو يحدق إلي بشراهة. عيناه تفضحاني، فوجدتني ضائعة فـي صمت وترقب مثقلين«. السرد هنا بلسان أنثى مهد لها عنوان القصة بوصفها النصف الثاني.
هناك زمن واحد تحدث فيه السرود الثلاثة لكن أي زمن- فـي الحقيقة- يتعمق عندما يتشظى ويصبح فتاتاً كي ينكسر الخط المستقيم، وبالتالي تتعدد الأزمنة فـي الوعي مستدعاة من خبرة التعامل معها.
تقدم القصة نفسها فـي أشد لحظات الإنسان انخطافاً، تمسك بحجر كبير تريد أن تلقيه على رأس المجتمع لكنها تقف ولا تلقيه. ربما أرادت تعمدت التناسي والاكتفاء بهذا الافتتان، وهيهات حدوث ذلك.
علينا معرفة ما حدث بالضبط.
يقول الراوي الأول: «... وجهها خجل وأسئلة. وجهه شراسة ومباغتة... تلك نظرات لم يقطعها إلا حينما يحدق فـي سقف المقهى. هناك غيري بالتأكيد من لاحظ أن هذين الاثنين يثيران الانتباه، خصوصاً من جانبه، ومن المؤكد أيضاً أن الاثنين لا يعرفان شعور بعضهما بعضاً. قد يعتقد أنها أُغرمت به من خلال نظرتيها، أو يعتقد أنها فقط حاولت معرفة سر نظراته المستمرة فيها. وقد تعتقد أنه هام بها، أو أنه مجرد عابث ينظر لكل النساء بنفس النظرات«.
ما سيحدث، بحذافيره، مفتوح على الأوهام والاحتمالات. قد يحدث أي شيء وكل شيء لكن فـي نطاق الخوف والسر والقلق. ما يقوله الراوي هنا يمثل وجهة نظر منفتحة ومتحررة من الحمولات الاجتماعية الجاهزة. ولعله يشير إلى علة يفرزها المجتمع ويكرس لها، أو، بمعنى آخر، يمهد الطريق إليها. العلاقة بين الرجل والمرأة- كما يطرحها النص- ليست قائمة أصلاً، وإضافة إلى كونها متوهمة فإنها لا تتحقق- إن تحققت- إلا فـي السر، ولا تصل إلى هذا المصير إلا بعد لأي وعدم معرفة. وما دام مستقبل العلاقة مرهوناً بلعبة الاحتمالات يمكننا نحن أيضاً- من موقعنا كقراء متفاعلين مع النص- أن نتكهن بأن عدم المعرفة وحده فقط يمكن أن يفضي إلى حب جارف بين اثنين لا يمتلكان أدنى معرفة عن بعضهما بعضاً، ولم يلتقيا قبلاً، ولم يتبادلا أي كلمة.
هل هي تلقائية قدرية تحرف الأمور لتذهب بها إلى علاتها على هذه الشاكلة المندفعة الحالمة المتمنية؟.. ولنتذكر أن باب الاحتمالات لا ينغلق حتى بعد انفتاح النص على أسرار فـي ظهر الغيب قد لا تعدو كونها أضغاث أوهام.
ينبغي أن تظل العلاقة سراً بين الاثنين. انكشاف السر فضيحة فـي عرف المجتمع. وما هو السر؟: إنه العلاقة بين رجل وامرأة. وما هي الفضيحة؟: إنها معرفة المجتمع لهذه العلاقة. إذن لا فرار من الأسرار لأنها تتصدى للعرف عبر الهروب منه وليس بمواجهته، فالأمر برمته خطيئة فادحة لا تغتفر، تقوض أركان المجتمع.
ياللهول: كل هذا يحدث لأن رجلا وامرأة أرادا أن يتعارفا. لا ينتهي الأمر هنا بل يتفاقم. من المدين ومن المدان؟. يالها من معضلة كبرى.
يقول «النصف الأول«/ الرجل: «أحسست أن جميع الجالسين قد فضحوا إعجابي بها«. هذا لا يحدث إلا إذا توافرت الأسباب التالية:
1- أن نظراته إلى المرأة أثارت الآخرين.
2- أن الآخرين يعنيهم الأمر ويستنكرونه ويعدونه فضيحة.
ولنا هنا ألا نكف عن طرح الاحتمال تلو الاحتمال: ترى كيف سيكون رد فعل الآخرين لو أن الرجل تمادى أبعد من ذلك؟
غموضٌ ما يجعل النصف الثاني/ المرأة محرضًا للنصف الأول/ الرجل الذي يستجيب ويستغرق فـي تفاصيل متوهمة: «لو كانت تمتلك شيئًا من الجنون لتحركت من كرسيها وتقدمت ناحية طاولتي وقالت لي: «أممكن أن أشاركك الجلوس... فأنت على ما يبدو بحاجة لي«. حينها يصيبني شيء غريب لا أعرفه يجعلني أرتبك وأبتسم... سأرد عليها وأقول: «طبعًا طبعًا بإمكانك كل شيء يا حبيبتي«. ثم يدعي أنه واعٍ لرد فعلها تجاه غرابة ما يقوله: «ستحدق إلي، ستغتبط، ستضحك بغنج، وستقول: «حبيبتك... يالك من مجنون... نحن لم نتكلم بعد«. حينها سأهز رأسي بعنف، وسأرفع يدي عاليًا، وسأتجه نحو جميع الجالسين وسأصرخ بفرح«.
بالطبع لا يحدث شيء من هذا على الإطلاق رغم أن الشاب فـي غمرة هيامه لا يستنكر إعلان فرحه أمام الجميع، أي أنه مستعد لردم الهوة التي يحفرها المجتمع.
لماذا يتحول موضوع رغبة طرفين فـي التعرف إلى بعضهما بعضًا إلى مجال للخطط ووضع الاحتمالات وكأنه يتعلق بخوض معركة وليس برجل وامرأة يمكن لأحدهما الذهاب إلى الآخر فعلاً ومصافحته والتعرف إليه؟؛ فالمسافة ليست أكثر من طاولتين وانتهى الأمر. لماذا لا يحدث ذلك؟.
لا يحدث- ربما- لأن هناك صورة وحيدة يراها المجتمع- إذا ما اجتمع رجل وامرأة- هي صورة جنسية بحتة يتم فيها لقاء جسدي. هذا اللقاء يتم فـي مكان مغلق، أي فـي السر، ولو حدث لقاء أمام الجميع فإن تلك الصورة الجنسية تسطو بتفاصيلها الشهوانية لأنها مصنوعة من قبل تفكير مريض وبدائي لا يرى فـي الأنثى سوى موضوع للرغبة فقط، ولأنه مريض فاقدٌ الأمل فـي أن يكون سويا فإنه مع الأيام يكتسب عدوانية غير طبيعية لمماراة مرضه، لذلك يحبس المرأة لأنها عورة وفتنة وبلاء. إنه لا يرى فيها أبعد من جسدها وأعضائها التناسلية، وهذه الصورة ترتسم أمام عينيه طوال الوقت فيجن جنونه ويكاد يفتك حتى بنفسه.
هذا مرض خطير جدًا.
وكي نستفز تلك العقلية المريضة نعود إلى توليد احتمال آخر تسمح به القصة: ماذا سيحدث لو أن الفتى قبل الفتاة فـي المقهى أمام جميع رواده؟. قد لا يكون هذا التكهن سوى عدمِ معرفةٍ آخر ينضاف إلى العلاقة الموتورة والناقصة بين الذكر والأنثى، لكن هل ستحدث كارثة لأجل قبلة بين شخصين؟، ولماذا؟: لأن القبلة تخدش حياء المجتمع؟.
المجتمع ليس جنة الله الموعودة. المجتمع مليء بالنفاق والعهر والقمع والبشاعة والاستغلال والفساد، وما السر إلا تجل لأمراضه يتيح له ممارستها فـي الخفاء وهو مطمئن غير خائف من الانكشاف والفضيحة.
يمكننا المضي قدماً ورسم تلك الصورة الجنسية التي لا يرى المجتمع غيرها كلما دخلت أنثى فـي مشهد مع ذكر، لكن، بالنسبة إلينا، نرى تلك الصورة فـي سياقها دون أي عقدة تذكر، كما نرى صورًا أخرى كثيرة غير تلك الصورة. ونتمنى أن تفارق أمنية النصف الثاني وهمَها وتصبح حقيقة: «جاءني النادل، كان ظريفاً، طلب مثلجات وبدأت أتلمظها ببطء وأقارن لذتها مع لذة رؤيتي عينيه. هل أكون متوهمة؟. ويلي ما الذي حدث؟ ما الذي يدور فـي رأسي..؟ ما الذي يدور فـي رأسه..؟«.
إن أحداث قصة يحيى سلام المنذري الآنفة الذكر فضاؤها مقهى- والمقهى فضاء اجتماعي أيضاً- غير مسمى يفشل فـي نهاية الأمر فـي أن يقرب بين اثنين. أما قصة حسين العبري ورغم أن أحداثها تدور فـي الشارع إلا أنها، بدايةً من عنوانها، تحدد مكان الشارع وتنفي نفيا قاطعاً: «لا يوجد مكان للحب فـي مسقط«2.
سنقول، مرةً أخرى، أنثى وذكر عوض امرأة ورجل أو فتى وفتاة؛ لأن ملامح الشخوص ليست محددة عمرياً بينما تتوطد أطروحاتها حول (الحب) بتعدد مفاهيمه. إنها شخوص غائمة، ربما، لأنها تنتهك حرمةً ما. إننا لا نعرف أكثر من أن «سيارتها تتقدم سيارتك وأنت وراءها كأي شيء«. هذا هو السطر الأول فـي القصة تغيب فيه ملامح الشخص تماماً ويصبح مبهماً غير واثق أو لا يتحدد- «كأي شيء« حتى مع نفسه بينما كان مرأى جسدين ماديين يحتل حيزا مكانيا أكبر. بلغة أخرى: مرأى السيارتين كان أوضح رغم عتامته أيضاً. لنواصل القراءة: «سيتقدم الليل بملكوته الصامت، ستطول الطرقات الإسفلتية بكآبة وأنت وراءها. نظرك معلق على خلفية سيارتها اللامعة. أنت تقرأ الأرقام للائحة الصفراء الطويلة. أنت ترى ما يفعله الزمن فـي الأشخاص، وأنت تدرك ما يفعله الزمن فيك، وها أنت تدرك أنها ستستدير إلى هذا المكان المقطوع أخيراً«. هل هو ندمٌ يخوض صراعاً مع الرغبة؟، وكأنما لا محالة من الاستمرار فـي ذرع شوارع المدينة لاكتشاف أنها المكان الوحيد للقيام بعمل واحد: البحث عن مكان يلتقي فيه رجل وامرأة. شوارع تسلم إلى شوارع ولا مكان. «السيارات من خلفكما ومن أمامكما وأنت ملتزم باللحاق بها، لن تغفل عيناك عن سيارتها، عن الماركة التي تحمل الاسم الشهير. عمود الكهرباء العشرون، عمود الكهرباء الواحد والعشرون«.
هنا إذن تبدأ قصة أخرى: قصة الزمن ورتابته وتكراره والحيرة التي تصنع العبث: «سوف يعذبك الوقت والانتظار، وسيعذبك أنها لن تجد المكان الملائم، لكنك تتساءل داخلك: المكان الملائم لماذا؟ إنك لا تعرف بالتأكيد ما الذي يمكن أن تفعله معها، أنت لا تعرف شيئا«. وقبل هذا شيءٌ غريبٌ يحدث ويستمر مقرونا بالمكان المبحوث عنه: «ها هي الآن تصل إلى نهاية الجرف، سوف تقول بتعال- كما قالت من قبل- إن هذا المكان غير متشح بالمجد، وسترجع بسيارتها للوراء وأنت وراءها«. هكذا يصير وجود المكان مستحيلاً، وفقط يتواتر الزمن تباعاً ليلتف على نفسه أو يمضى أكثر رتابةً بلا نهاية.
فراغ شاسع يعيشه الرجل وهو يتبع بسيارته سيارة المرأة. يمتلئ الفراغ بفراغات أخرى دون حسم للعبة أو وضع نهاية لها. إلى متى سيستمر الرواح والمجيء فـي الشوارع بحثا عن مكان صالح للحب؟.
السيارتان يمكن أن تمثلا رمزاً مكانياً صغيراً واقياً من أعين المجتمع. هذا المكان الصغير يتحرك فـي مكان أوسع ومكشوف متمثلاً فـي شوارع المدينة، ما يعني انكشافاً جزئياً على الأقل لا يمنح متسعاً للحب، أي لاجتماع الاثنين فـي مكان خاص دون رقابة أو فضح. يسطو الزمن على الرجل ويحس بفرط حضوره وعنفه ورتابته وإقلاقه ومضيه بلا جدوى: «وأنت مفعمٌ بالرغبة« التي لا تتحقق ويشحنها مضي الزمن بالفتور وفقدان مخرج نفسي ينتشل الشخصية من الاستمرار فـي لعبة خاسرة.
الرغبةُ موضوعٌ محلومٌ به يقوم بتأجيل الانسحاب من مشكلة البحث عن مكان، والزمن يثير أسئلة المكان حين يمر ثقيلاً وقاسياً. لا ننسى طوال القصة حضور عنوانها ليس كخلفية بل خلاصة منتهى من أمرها. نعرف معاناة الرجل مع وطأة الزمن والتحولات المحبطة التي يفعلها فيه، أما المرأة فمن خلال شعور الرجل تجاهها نعرف أنها الأقوى والمسيطرة فضلاً عن أنها هي من تقود الرجل؛ فهذا يتبعها بسيارته، وكما لو أن الاثنين يطاردان الزمن بوسيلة مهما كانت مسرعة تبقى دائرةً فـي نطاق الزمن وتحت هيمنته مع أن تعامل المرأة معه- الزمن- ليس واضحا. يضيق الرجل ذرعاً بالزمن لكن الرغبة- التي هي الشهوة بمعنى آخر- تفسح المجال- كل مرة- للتخفيف من وطأته ظناً أن الهدف سيتحقق ويتوفر المكان لممارسة الحب.
الزمن لحوحٌ والرغبة أشد إلحاحاً: «... لن تحاول أن توقفها بعناد، أو أن تتجاوزها بقسوة، أن تقول لها: لا، بإمعان، أو تقول لها سنقف هنا بكلمة ثاقبة. أو تقول: سوف نفعل الحب أو أي شيء تريدين هنا، بلا مواربة«. إنه يعرف سلفاً أنه لن يقدم على وضع حد للمسألة، ولا حتى مجرد أن يحاول ذلك، أي أنه يستمرئ فـي تعذيب نفسه ويقرر مواصلة البحث عن المكان، ويجد الأعذار رغم قناعته بعدم الجدوى، الأمر الذي يعني ضمنياً اختلاقه لأمل سيؤدي أخيراً إلى إيجاد مكان للحب، وهذا بدوره يعني تعزية الذات: «لن يطاوعك قلبك، قلبك الفضولي، قلبك المجنون، قلبك الباحث«. الرغبة، إذن، متمكنة ومتملكة وفـي سبيلها حتى الزمن يمكن أن يحتمل: «تبتعد التلال فـي المرآة الأمامية، وتتلاشى سداب والبستان ومطرح فـي المرآتين الجانبيتين، والعجلات ما زالت تدور، وأنت عبدٌ للائحة الصفراء الطويلة«.
هنا تجرف الرغبةُ الرجلَ وتحوله عبداً خاضعاً لها. وهنا تتشكل جغرافيا أخرى للمكان ترسمها القصة وتحول ثوابتها المعروفة إلى مكان يحارب الحب خوفاً منه أو قمعاً له، فلا شك أننا لن نصدق أبداً قصة عدم وجود مكان يختلي فيه ذكر وأنثى، لكنْ، قبل هذا، ينطرح سؤال أعمق قد يكون طرحُه فـي مكان آخر أدعى للسخْرِيَةِ والضحِكِ: لماذا لم تجد شخصيتا القصة (الذكر والأنثى) مكاناً يسمح لهما بفعل الحب؟!.
الآن سنسوق تباعاً لازمةً تتكرر، فـي ثنايا القصة، بين فقرات متباعدة يحرض سردَها العبثُ المحضُ للزمن:
«أعمدة الكهرباء المطلة من علً، الأول، الثاني، الثالث، وهي تسرع وأنت تحاول اللحاق بها«.
«عمود الكهرباء العشرون، عمود الكهرباء الواحد والعشرون«.
«العمود المائة والواحد والعشرون«.
«العمود المائتان، العمود المائتان والواحد«.
«العمود الثلاثمائة والاثنان والثلاثون، العمود الثلاثمائة والثلاثة والثلاثون...«.
هنا تنتهي القصة لكنها، فـي الحقيقة، لا تنتهي.
إنها قصةٌ قد تستغرق الزمن كله ولا تعثر على مكان للحب؛ لأنه لا يوجد فـي مسقط!. :)
عن ملحق شرفات
________________________________________