يحيى سلام المنذري
تقترب الأعمال الأدبية كالرواية والقصة والشعر من القاريء حينما تلامس أحاسيسه وتثير لديه نوعا من التساؤل والتأمل المعرفي حول ما يتعلق بخصائص وموضوعات النص ، شريطة أن يكون هذا القاريء شريكا في النص ومقدرا للأدب والفن والتجديد. لأن الكتابة الأدبية والفنون بشكل أساسي تأتي للتأثير في الواقع ومحاولة طرح ما هو غير مألوف ولا يراه الإنسان العادي. والكاتب يطرح رؤيته من خلال اندماجه وتفاعله واشتراكه مع المجتمع الذي يعيشه ، وقد تأتي هذه الرؤية في عمله الأدبي أو الفني دون تخطيط مسبق نتيجة ما يشاهده ويتأمله من أحداث وعادات وشخصيات وربما أيضا تأتي بتخطيط منه ووضع خطوط رئيسية لرواية ما مثلا يحرك شخوصها في عالم جديد يبتكره وفي نفس الوقت مستلهم من الواقع ، وهذا لا يتعارض أيضا مع تسليطه الضوء على ذاته التي لا يستطيع أن ينفصل عنها ، فمهما كتب عن شخوص أخرى تتدخل ذاته بطريقة غير واعية.
وتوضيحا لمدى تفاعل الأجناس الأدبية والكاتب مع المجتمع ، لا بد من الإشارة إلى كتاب ((المجتمع العربي في القرن العشرين – بحث في تغير الأحوال والعلاقات)) للروائي وعالم الاجتماع الدكتور حليم بركات الذي وضع فصلا كاملا بالكتاب عنوانه (الثقافة الإبداعية وعلاقتها بالواقع الإجتماعي) ، حيث أشار من خلاله وضع نظرية عِلم-اجتماعية متطورة للرواية العربية وكتمثل للفنون الأخرى ، حيث وضع فرضيات أساسية لها وجرى على إثباتها بالتحليل والقراءة عن طريق تقديم أمثلة حسية للعديد من الأعمال الروائية العربية ، ومن هذه الفرضيات وجود علاقة تفاعلية بين العمل الأدبي كالرواية مضمونا وشكلا والواقع الاجتماعي التاريخي ، وكيف أن هذا العمل يؤثر في تغيير هذا الواقع من حيث الإسهام في خلق وعي جديد وتسليط الضوء على أبعاده ومكوناته الخفية. كما افترض أيضا أن الرواية هي منظور معرفي آخر وبحث في طبيعة المجتمع والإنسان كبقية الاختصاصات المعرفية ، فلا تقِل عن العلم والفلسفة دقة وعمقا واكتناها لأسرار الحياة وأقانيمها ، إضافة إلى كون الرواية بحث واكتشاف وخوض في معرفة النفس الإنسانية وتجاوز الواقع (ص686-687).
وفي هذه القراءة الانطباعية سأتناول قصص مجموعة (رفرفة) للقاصة بشرى خلفان كنموذج حاول الإشتغال على هذا الجانب ، فعند قراءتي الأولى لهذه القصص اشتعلت فيّ رغبة مواصلة القراءة حتى آخر قصة ، وحينما انتهيت من قراءتها قلت بأن ثمة أهمية تكمن فيها ، ثم وعدت نفسي بأن أعود إليها، وبعد فترة قرأتها مرة أخرى وتكشفت لدي استنتاجات عدة ومهمة على صعيد فن كتابة القصة لدى الكاتبة وكيف رصدت ثيمة مشتركة –ربما لا شعوريا- لموضوع القص لديها يمكن وصفها بِعقد قصصي يربطه خيط من هم وعذابات المرأة العربية. وحينها فرض السؤال نفسه عن أي مدى نجحت مجموعة رفرفة في تسليط الضوء على أبعاد المجتمع ومكوناته الخفية وخاصة فيما يتعلق بالمرأة ؟
تركز هذه القراءة على الموضوع الذي يربط نصوص المجموعة ببعضها ، وإذا كان العِقد يحتوي على خَرَز بلون واحد ، تأتي خرزتان أو قصتان وهما (إسطرلاب ، ص 25) و (رقص ، ص 27) تحملان لونا آخر يشذ عن بقية القصص ، فقصة إسطرلاب تحكي عن القبطان العربي والقبطان الأبيض - حسب وصف الكاتبة – اللذين اشتركا في مشروع رحلة بحر غير بريئة ، والأخرى هي قصة رقص التي تصف مشهدا لبعض الشبان في إحدى الحانات. وأما بقية القصص فإنها تشترك إلى حد ما في فكرة موضوعاتها التي تتمحور حول المرأة وعذاباتها وقسوة المجتمع العربي بعاداته القديمة وسطوة الذكورة ودور الإناث الهامشي فيه وعلاقات الرجل الشرقي بالمرأة، إضافة إلى أن الشخصيات الرئيسية في هذه القصص هي من النساء. ويبدو أن هذا الاشتغال نتج عن التحام الكاتبة بهموم مجتمعها وتأثرها بما يحمله من أحداث وعادات وخاصة فيما يتعلق بالمرأة وشؤونها. وربما يأتي هذا التدفق في الكتابة بهذا النوع عفويا وبلا شعور نتيجة الضغط الاجتماعي ، أي ليس ثمة تخطيط أو قصدية من أن يكون موضوع عذابات المرأة هي الثيمة الرئيسية في نصوص المجموعة. والجدول الآتي يؤكد على وجود هذه الثيمة من خلال بعض خصائص كل نص عدا القصتين اللتين ذكرتا أعلاه:
إذن القصص في هذه المجموعة جاءت كإعادة لصياغة الواقع المنبثق من المجتمع في عمل له خصائصه الفنية غير المباشرة والذي أيضا احتفى بلغة شعرية وتوظيف الخيال وبعض الموروثات الشعبية. نجد في قصة (هُنّ ، ص 35) رصدا لحالة نفسية لفتاة تعشق الموسيقى والرقص ، ولكن الجدران الأربعة بقيودها الاجتماعية تقف حائلا في تحقيق رغبتها الجامحة بالرقص. قلم الكاتبة خط مشهدا قصيرا للموسيقى والطبول التي تتصاعد خارج نافذة الفتاة بدون التصريح عن مصدر الموسيقى إلا ان هناك دلائل عن وجود عرس في الخارج يوقظ في الفتاة رغبتها في الرقص ، فتمارسه داخل غرفتها ، ولكنها في نفس الوقت لا تنسى تحذير أُمِها عن عدم الرقص وعلى أنه " تقليد للجواري فاقدات الحيا" ولا تنسى أيضا "عيون أخوتها الراصدة في شقوق الدار". القصة إلى جانب إشاراتها الواضحة للعادات الاجتماعية وقمعها للرغبات كرغبة الرقص هنا -حتى وإن كان داخل الغرفة- فإنها تعطي وصفا مركزا ودقيقا لتفاعل الفتاة مع الموسيقى والطبول " تنفخ الضوء في المصباح ، تخلع ملابسها فيتحد بياضُها بالظلمة ، تدخلها الموسيقى عبر المسام المتعرق ، تدق قدميها أرض غرفتها ، وتزداد قسوتُها كلما ازداد صخب الطبول ، ص 35 ".
ونلاحظ فقدان الأمان لدى المرأة في قصة (صرير الأبواب المحكمة ، ص 47) ، وهي عبارة عن رسالة تكتبها فتاة لشخص مسافر ، تُعلمه من خلالها عن أبيها الذي طرأ تغيير في حالته بعد وفاة زوجته. ورغم أن فكرة السرد عن طريق الرسالة متكررة إلا أن الكاتبة تتمكن بطريقة فنية من رصد نفسية وحالة الأب بعد فقده لزوجته ، كما أن القصة رصدت الحنين والألم والوحدة وفقد الأمان الذي تعانيه كاتبة الرسالة من حالة أبيها وفراق من تكتب له ، إذ تقول بكل حرقة للشخص الذي تخاطبه " تعرف كم هي صعبة كتابة الرسائل ، تماما كإعادة نبش قبور أهلنا الذين ماتوا والتفرس في بقاياهم ، لا تعترض ، عن ماذا سأكتب لك؟ عن وحدتي ، فراغي ، أم عن هذا الفقد المؤلم للصحبة، ص47 " إذن كمثل هذه المشاعر الحارقة وغيرها في النص تبثها كاتبة الرسالة .. تصرح عن معاناة الفقد وابتعاد الأمان ، كما أن الأبواب المحكمة ترمز إلى الأمان الذي كان يوفره لها أبوها ، فالأب كانت له عادة إغلاق جميع أبواب البيت بعد أن ينام الجميع ، حيث كان في عز استيقاظه وخوفه على أولاده ، أما الآن بعد تغير حالته وتقدمه في السن تظل الأبواب غير محكمة وتظل الفتاة كاتبة الرسالة أسيرة حزنها وقلقها بعد أن تعودت على حماية الرجل لها.
وثمة قصة جمعت في ثناياها القهر الاجتماعي وسلطة الأب وقمع الرغبات ، وهي قصة (ريا، ص56) ، وفكرة القصة معروفة وهي قضية العائلة أو الأب الذي لا يوافق ولا يرضى بأن يزوج إبنته لرجل دون مستواه الاجتماعي ، إلى جانب فكرة قمع الفتيات وحبسهن في البيوت ، ولكن الكاتبة هنا تُلبس الحكاية ثوبا تاريخيا وشاعريا مستوحى من قصص ألف ليلة وليلة. حيث استهلت كل مقطع ورد بالقصة بكلمة (يحكى أن ..) وجعلت الأب ملكا ذا سطوة جبارة ، أوليس المجتمع العربي مجتمعا ذكوريا وأبويا سلطويا؟ وابنته أميرة جميلة ذات شعر طويل والتي دائما ما كانت تبكي حتى يغلبها النوم إلى أن وقعت في غرام أحد حراس القلعة بطريقة مفبركة. إذن قصة الحب هذه مستهلكة وموضوع الانتحار في نهاية القصة أيضا مستهلك في العديد من القصص ويذكرنا بمسرحية روميو وجولييت التي أيضا ظهرت في أفلام سينمائية عديدة وبأزمان مختلفة ، إلا أنه حسب تفسيري ربما ارتأت الكاتبة هنا أن تؤكد على هذه القصة وتضمها إلى مجموعة القصص عن عذابات المرأة وقسوة المجتمع والتقاليد ، وربما أرادتها صرخة مترددة من بئر التاريخ وحتى الحاضر ، لتقول أن هذه القصة حدثت في مجتمعات مختلفة وما زالت تحدث.
وتأتي قصة (رفرفة، ص59) كصرخة أخرى ضد القهر الاجتماعي والسلطة الأبوية ، وهي قصة خولة الفتاة الصغيرة التي أطلقت سراح الحمامة من القفص الذي كان على سطح البيت لتدخل هي في قفص زواج مبكر وهي ما زالت طالبة بالمدرسة ، وكأنها عملية مقايضة غريبة لا تعلم الفتاة عنها شيئا وهي حرية الحمامة مقابل حرية الفتاة ، ولكن هذه المقايضة تحدث نتيجة رغبة الفتاة في حرية الحمامة ، ونتيجة خسارة أبيها الرهان على من يسقط أكبر عدد من الحمام مع رجل جشع ليزجها في آلام لا حصر لها. تبدأ القصة بضمير المخاطب ، ليصف السارد حركة جناحي الحمامة وهما يرفرفان نحو الحرية والهواء والطرب ، وثمة وصف لخولة ورغبتها في إطلاق سراح الحمامة وخوفها من معرفة أمها بذلك، وفجأة ينبه السارد القاريء إلى أن خولة "ستدلق كل تفاصيل الحكاية التي ترددها حتى كلت جدران البيت من الإنصات ، ص60" ليتحول السرد من ضمير المخاطب الى ضمير خولة وهي تحكي قصتها بطريقة الفلاش باك ، فمنذ ذلك اليوم وبعد أن رجعت من المدرسة وجدت أباها يقول لها "أنت اليوم عروس" لتتغير حياتها وتفقد طفولتها وصباها ، وثمة إشارة واضحة الى عادات الزواج المبكر للفتيات نتيجة أسباب اجتماعية كثيرة ومختلفة ، وأيضا ثمة رصد لحالة الفتاة الصغيرة بعد زواجها وما صاحبه من آلام وحسرة وخوف ورحيلها إلى المدينة وتحولها الى "جارية مطيعة ، أعرف كل واجباتي ولا أسأل عن شيء ، ص63" فهي أصبحت كالدمية عند الرجل لدرجة أنها تكيفت مع الوضع وأصبحت خانعة ، وأيضا " وفي الليل أهرع إلى فراشي متجنبة أصابعه التي تتوغل في أنيني فتكتمه ، ص63 " وغيرها من التصاوير الشعرية التي تتمكن من رصد عذابات هذه الفتاة الصغيرة ، والفتاة لا تنسى حمامتها الطليقة الحرة فتأتي على ذكرها بين الحين والآخر في مقاطع متفرقة ، فتقول مثلا " هل كان للحمامة خيار عندما رأت الباب مفتوحا؟ كان خروجها في حد ذاته أمنية ،...، كان كل ما فَعلتُه أني فتحت الباب ، أما هي فقد استجابت لغواية الأفق .. يا إلهي كم كان الأفق مزهوا بخفقات الأجنحة! ، ص65 ".
وختاما فإن قصص مجموعة رفرفة تحتمل الكثير من التفاسير ، وهذه القراءة العابرة أشعلت ضوءا خافتا لعوالمها وشخوصها. إلا أن ثيمة المرأة وعذاباتها تظل أساسها الذي شيدت عليه.
المصادر
د.حليم بركات ، المجتمع العربي في القرن العشرين – بحث في تغير الأحوال والعلاقات ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، الطبعة الأولى ، يوليو 2000.
بشرى خلفان ، رفرفة / قصص ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 2004.
نشرت هذه القراءة في مجلة نزوى العدد التاسع والأربعون