يحيى سلام المنذري
وكأن المعلم طلب منهم الاستعداد للحرب. وكأنه طلب منهم الابتعاد عن النوم. كما –وكأنه- طلب منهم أن يتذكروا الأحزمة الجلدية ذات اللون الأسود وأن يتذكروه شخصيا بعد سنوات طويلة. وبعد أن يعلن لهم بكل صراخه بأن الغد هو مخصص لتسميع جدول الضرب تصبح أمنيتهم الوحيدة هي أن لا يأتي الغد. وبعدها تطير العصافير إلى أعشاشها منفطرة القلوب.
في اليوم التالي جاء المعلم بابتسامة صفراء لأنه بعد قليل سيبدأ بالاستمتاع بمجموعة من العصافير حبست في قفص إسمنتي. سينتف ريشهم. سيبتهج، وستزداد شهرته وشهرة حزامه الأسود وبث رعبه بين الطلبة.
قال "جلوس"، فجلسوا.
قال "وقوف"، فوقفوا.
قال "جلوس وقوف"، جلسوا، فوقفوا، فجلسوا. وقد كرر هذا الطلب عدة مرات.
كان يبتهج بهذه اللعبة اليومية، لعبة الجلوس والوقوف، بعضهم أحبها وبعضهم عرف بأنها ليست إلا تمهيدا لمسرحية الجَلد، يشعر المعلم بأنه المسيطر على كل شيء، ويمسك كل شيء، فهو لاعب منتصر وبذلك تحولت العصافير الصغيرة إلى دمى، أخذ يلعب بها حتى يحين موعد تكسيرها. ما الذي يريد فعله؟ هل يريد في بداية الصباح أن يصطادهم بسنارة المرح؟ لكنه ما لبث أن زأر وقال “ يا بهائم.. حفظتم جدول الضرب؟.. كما قلت.. الذي لم يحفظ سيأكله هذا الحزام”. ثم كوّر كف يده وضرب بها الطاولة. وكان الصمت والخوف يعبثان بقلوب العصافير الصغيرة. لم يجرؤ أحد أن يتفوه بحرف واحد حتى لو حفظ الجدول مئة مرة. عدا عصفور واحد كان يجلس في آخر الصف فاجأ الجميع بضحكة غريبة. اندهش لها الأسد وصوب له نظرات حادة كالسكين حتى قطعت ضحكته البريئة.
بدأت العصافير المرتعشة تتابع يدي الأسد ذواتي المخالب والعروق النافرة، يدان تتحركان وتمسكان المعدن الذهبي للحزام الأسود. تفتحان المعدن الذي حرر الحزام من وسطه وتحول إلى أفعى، لف رأسها بين كف يده اليمنى. العيون الصغيرة ذبلت وقلوبها تحاول الطيران إلى بيوتها. مشى ببطء الى آخر القفص، وبشكل مباغت وجّه ضربة قاسية إلى العصفور الذي كسر خوفه بالضحك. صرخ بحرقة، أما بقية العصافير فبلعت صراخها وطارت قلوبها أمامها. بعد ذلك سحبه من دشداشته ورمى به خارج الباب. تكور مثل حشرة مهروسة لا تستطيع حتى أن تئن. بعدها لمحه الجميع يمشي مطأطىء الرأس والجدران تتقاذف بكاءه. ازادد خوفهم مع كل دقيقة تزيد في أعمارهم.
انتهت لعبة المرح وازداد خوفهم. ازداد وما زال يزداد حتى هذا اليوم.
كاد الغضب أن يخرج مارده من داخل القفص، لكن ولحسن الحظ تم إخفاؤه. كانوا بحاجة إلى التنفس لكنهم لم يستطيعوا.. كانوا بحاجة إلى شيء لينسوا ولو للحظة هذا الخوف المنتشر هنا الذي لا يعرفون متى سيبتعد عنهم ويجعلهم يهنؤون براحة المعرفة.
(من مجموعة "الطيور الزجاجية"-2010- الصادرة حديثا عن دار نينوى بدمشق)
وكأن المعلم طلب منهم الاستعداد للحرب. وكأنه طلب منهم الابتعاد عن النوم. كما –وكأنه- طلب منهم أن يتذكروا الأحزمة الجلدية ذات اللون الأسود وأن يتذكروه شخصيا بعد سنوات طويلة. وبعد أن يعلن لهم بكل صراخه بأن الغد هو مخصص لتسميع جدول الضرب تصبح أمنيتهم الوحيدة هي أن لا يأتي الغد. وبعدها تطير العصافير إلى أعشاشها منفطرة القلوب.
في اليوم التالي جاء المعلم بابتسامة صفراء لأنه بعد قليل سيبدأ بالاستمتاع بمجموعة من العصافير حبست في قفص إسمنتي. سينتف ريشهم. سيبتهج، وستزداد شهرته وشهرة حزامه الأسود وبث رعبه بين الطلبة.
قال "جلوس"، فجلسوا.
قال "وقوف"، فوقفوا.
قال "جلوس وقوف"، جلسوا، فوقفوا، فجلسوا. وقد كرر هذا الطلب عدة مرات.
كان يبتهج بهذه اللعبة اليومية، لعبة الجلوس والوقوف، بعضهم أحبها وبعضهم عرف بأنها ليست إلا تمهيدا لمسرحية الجَلد، يشعر المعلم بأنه المسيطر على كل شيء، ويمسك كل شيء، فهو لاعب منتصر وبذلك تحولت العصافير الصغيرة إلى دمى، أخذ يلعب بها حتى يحين موعد تكسيرها. ما الذي يريد فعله؟ هل يريد في بداية الصباح أن يصطادهم بسنارة المرح؟ لكنه ما لبث أن زأر وقال “ يا بهائم.. حفظتم جدول الضرب؟.. كما قلت.. الذي لم يحفظ سيأكله هذا الحزام”. ثم كوّر كف يده وضرب بها الطاولة. وكان الصمت والخوف يعبثان بقلوب العصافير الصغيرة. لم يجرؤ أحد أن يتفوه بحرف واحد حتى لو حفظ الجدول مئة مرة. عدا عصفور واحد كان يجلس في آخر الصف فاجأ الجميع بضحكة غريبة. اندهش لها الأسد وصوب له نظرات حادة كالسكين حتى قطعت ضحكته البريئة.
بدأت العصافير المرتعشة تتابع يدي الأسد ذواتي المخالب والعروق النافرة، يدان تتحركان وتمسكان المعدن الذهبي للحزام الأسود. تفتحان المعدن الذي حرر الحزام من وسطه وتحول إلى أفعى، لف رأسها بين كف يده اليمنى. العيون الصغيرة ذبلت وقلوبها تحاول الطيران إلى بيوتها. مشى ببطء الى آخر القفص، وبشكل مباغت وجّه ضربة قاسية إلى العصفور الذي كسر خوفه بالضحك. صرخ بحرقة، أما بقية العصافير فبلعت صراخها وطارت قلوبها أمامها. بعد ذلك سحبه من دشداشته ورمى به خارج الباب. تكور مثل حشرة مهروسة لا تستطيع حتى أن تئن. بعدها لمحه الجميع يمشي مطأطىء الرأس والجدران تتقاذف بكاءه. ازادد خوفهم مع كل دقيقة تزيد في أعمارهم.
انتهت لعبة المرح وازداد خوفهم. ازداد وما زال يزداد حتى هذا اليوم.
كاد الغضب أن يخرج مارده من داخل القفص، لكن ولحسن الحظ تم إخفاؤه. كانوا بحاجة إلى التنفس لكنهم لم يستطيعوا.. كانوا بحاجة إلى شيء لينسوا ولو للحظة هذا الخوف المنتشر هنا الذي لا يعرفون متى سيبتعد عنهم ويجعلهم يهنؤون براحة المعرفة.
(من مجموعة "الطيور الزجاجية"-2010- الصادرة حديثا عن دار نينوى بدمشق)