سماء عيسى
أين الطريق إلى حيث يسكن النور؟
هذا هو السؤال الجوهري الذي تخرج به بعد قراءتك الطيور الزجاجية ليحيى سلام المنذري، وإذا كان السؤال مقتبسا من سفر يونس ، النبي الذي كان ببطن الحوت فإننا نحن أيضا في هذا العالم، كما يدلنا يحيى، نسكن بيوتا من الزجاج مظلمة وداكنة، ليس بفعل افتقاد النور بل بفعل أفتقاد الروح. كذلك تجربة نبي الله كانت البحث، وهو في جوف الحوت، ليس عن نور الشمس بل عن نور الله الذي يضطلع الأنبياء بنشره بين العالمين.
يقدم يحيى شخصياته وقد افتقدت لهذا النور، فعاشت ليس في بيوت زجاجية فحسب، بل في قلوب زجاجية، دون أن تحس وتشعر بألم ما॥ لقد انطفأ بها نور الله وانطفأت بذلك المشاعر الانسانية التي تعيش بها। وفي ذلك يقترب يحيى من جوجول في رواية “الأنفس الميتة”، وهي تجربة بحث عن الحياة الحقيقية خارج الجسد البشري. بل ان اقتراب يحيى من أستاذه جوجول يتضح أكثر في قصتي “الأنف” لجوجول وقصة “الساق” ليحيى . إن الإشكالية التي غرسها جوجول في يحيى أكبر، حتماً هي اشكالية تشيؤ الانسان أي تحوله الى طير زجاجي مثلما يرى يحيى ومعه جيل كبير من المبدعين، الذين التفتوا الى ما تصنعه الحضارة الحديثة في الانسان، ترفعه الى الأمام حقاً، لكنها تفقده روحه، فيغدو كائنا صخريا أو زجاجيا أوما شئنا له من أوصاف تدلل على فقدان أهم ميزة اتت مع الانسان لتحافظ عليه انساناً خلاقاً، ألا وهي القيم الروحية الخصبة المتمثلة في سلسلة من الأفعال التي تبتعد به عن الوحشية والعدوانية والأنانية وغيرها من الصفات التي تنطلق بحرية في الأرض متفجرة معه حالة فقدان الروح.
هذا ما تقدمه على الأخص قصص الجزء الأول خاصة قصة السفاح الذي جاء المنزل مضمخا بالدم ويحمل معه سكاكين الذبح بعد ان مر على منازل أخرى وذبح الكثير من الشياه। كانت القصة ستنتهي نهايتها العاجية التقريرية، غير أن الاضافة الابداعية هي انطلاق غريزة الاعتداء على الحيوان الى اعتداء على الانسان أيضاً. إذ وبشكل تلقائي يهم الجزار بذبح مازن وسط ذهوله. هذا التصعيد هي الرسالة التي قدمها النص، إذ لاحقا لا مانع لدى السفاحين من قتل الأطفال وذبحهم وشرب دمائهم. بل أن التشيؤ يصل إلى مداه الأبعد في القصة التي تليه: “ثلاث زجاجات صغيرة”. إذ يقدم صبي حيواناته المنوية في زجاجات لقاء مبلغ من المال لثري॥ ويبقى السؤال دون إجابة: ماذا يريد هذا الرجل من حيوانات الصبي المنوية؟ إنه يريد الحياة مغلقاً عليها في زجاجات صغيرة. انها القصص التي تبدأ بحدث ما يقوم يحيى بترميزها أي تصعيد دلالاتها واضاءة ما هو معتم ومظلم أمامها ووراءها. لا يمتهن الكاتب التفسير ولا يقدم الحلول أو الاجابات، ذلك ليس من شأنه. الشأن هنا تلك الاضاءات العميقة التي يمارسها الكاتب بهدوء واتقان وتكثيف يبعده عن المباشرة وتسطيح النص ويقدم لنا بذلك نصوصا موغلة في الرمز المضيء وسط عتمة من الأحداث والأسئلة لا تنتهي أبداً. بالطبع هناك الأطفال ضحايا العصر بل وشاهدوه أيضا، الشهادة على انحطاطه تأتي منهم ومن الأمهات جمال الأرض الوحيد بعد اندثار قيمها.
لا يلاحظ الناس فقدانهم أجمل ما فطروا عليه: الحب। ذلك الفقدان يحدث تدريجيا وفي خضم الحياة اليومية وتفاصيلها، تسير الأمور الى نهايتها وكأنها طبيعية حقاً. فقط من لم يدخل في عجلة الحياة التي تطحن الانسان يوما بعد يوم وتحوله الى غذاء سهل للعقم والغرائز العدوانية الدنيئة، هو الذي يبصر مدى الكارثة، وليس هنا غير الأطفال كمازن بطل قصة “الطيور الزجاجية” وناصر بطل قصة “ليلة الخنجر” وأيمن بطل قصة “انقاذ”.
الكاتب يمتهن وبحذاقة بالغة فقط اضاءة لك ما أنت غير قادر على إضاءته، من خلال عيون الاطفال وممارساتهم البريئة। هل يعني ذلك أننا نحن جميعا شركاء في هذه المجزرة؟ وأنني قارئ النص من الممكن أن أكون السفاح في “أي يد ستمسك الحبل؟” أو الثري في “ثلاث زجاجات صغيرة” أو العريس في “ليلة الخنجر”!! بالطبع ذلك ما يود يحيى إضاءته لنا وقوله أن التفتوا الى أعماقكم تجدوا حقاً ما هو مخيف ومقزز. ربما يوقف هذا الالتفات طريقنا إلى الهاوية التي نسير إليها. يوقف طريقنا إلى المجزرة التي نعيشها كل يوم دون أن نعي ذلك. والحق أن سيرنا إلى الموت أرحم لنا حقاً وأجمل وأنبل من كارثة بقائنا طيورا من زجاج.
وفي حالة عقد مقارنة بين ساق منصور ليحيى وأنف كوفاليوف لجوجول نجد أن رمز تخشب ساق منصور جاء نظراً لعدم الحاجة إليه وبأنه أصبح عضواً زائداً في جسمه بعد أن كان أساسيا ، إذ به كان منصور يجلب لقمة العيش له ولأسرته عبر الجري من قرية إلى أخرى حاملاً الرسائل أو عبر العمل باحثاً عن العسل في الجبال। الساق هنا ترتفع وترفض النزول عن إرتفاعها احتجاجا، أي أملاً في الحركة ومن جديد، إلا ان جسم منصور أصبح متهالكاً وإبتدأ يسرد ذكرياته كشريط أمام عينيه، تلك الذكريات التي لعب فيها الساق دور البطل المغوار وأداة الشبق الجنسي وقاهر الأودية والجبال والرمال. ليست هي إذن نهاية الساق فحسب، إنها نهاية الرحلة بأكملها حيث لم يعد لهؤلاء الناس من منفعة على الإطلاق، حلت السيارة محل الساق في الأهمية كوسيلة للتنقل وقطع الأودية والرمال. أما أنف الرائد كوفاليوف فوضعه مختلف حقاُ، إذ ان هروبه الغامض من وجه صاحبه وتحولاته تلك كعسكري بارزة تارة وكموظف استقل عربة سفر، وساعده في ذلك حلاق الشارع الذي يعيش به كوفاليوف ويداوم على الحلاقة به. هنا تحدث هذه التجربة وصاحب الأنف في أمس الحاجة إليه ليس فقط كأداة للتنفس والشم، بالامكان حل ذلك بطريقة أو بأخرى، ولكن للصعود به وعبره إلى المستويات العليا للمجتمع والترقي في سلك الدرك وخوف الانتخابات المحلية وغيرها من الطموحات.
في الجزء الثالث من الطيور الزجاجية، يقترب يحيى من أقرانه العمانيين ممن كتبوا: نصوص التجربة. وهو وصف يطلق على النصوص الذي كتبها مبدعون عمانيون بناء على جرح شخصي أو ذاتي عميق أو صدمة نفسية مفاجئة أتى بها الزمن كعادته ودون سابق أنذار أو حسبان وهز تكوينهم الجسدي والنفسي ولكنه بالتالي قدم لنا هذه التجارب الابداعية المتميزة.
أهمها بالطبع تجربة “مذاق الصبر” لمحمد عيد العريمي، ينضم إليه بعد ذلك عبدالله حبيب في “فراق بعده حتوف” وخليفة بن سلطان العبري في “على الباب طارق” واسحاق الخنجري في “وحده قلقي”।
ما دار ليحيى في يوم للمطر هو سقوطه المفاجئ وذهابه أثر ذلك في غيبوبة لم يفق منها إلا بعد فترة من بقائه بين الحياة والموت، كان مهددا فيها بالشلل التام في المخ خاصة. هذه التجربة قدمها يحيى لنا في نصي “يوم واحد يتلألأ في عيني” و “من جدار أبيض إلى جدار أسود”.
يقوم الكاتب بتقديم تجربته “من جدار أبيض إلى جدار أسود” عبر مشاهد سينمائية كشكل مختلف للكتابة السردية। هي مشاهد أقرب إلى الرؤى الفجائعية، إلى الكوابيس التي تتراءى لمن هو بين اليقظة والموت. وربما المشهد الثالث من عدد المشاهد السبعة عشر هو الأكثر قوة في التوظيف والنفاذ إلى مأساوية الواقع لطفل من الريف العماني تسكن عقرب سامة ملابسه وتقوم بلدغه المتواصل حتى الموت، ومع صراخ الطفل المتواصل لم يجد والداه والطبيب وممرضات المستشفى سببا معروفا لبكائه إلا بعد موته وخلع ملابسه حيث وجدت العقرب ملتصقة بها. أما المشاهد الأخرى والتي استعان الكاتب فيها بتوظيف مشاهد من فيلم الكلب الأندلسي لبونويل وسلفادور دالي فجاءت رغم أهمية التوظيف أقل قوة في مأساويتها من الفيلم الموظفة مشاهده في الرؤى، أعود هنا الى مشهد قطع بؤبؤ العين الذي يقوم به في النص بونويل لعين سلفادور دالي مثلما تراءى في غيبوبة يحيى، في الفيلم كان المشهد أبلغ حيث يقوم دالي بقطع عين الفتاة بوسي إلى نصفين وتضيف قوة المشهد البصري السينمائي انشقاق القمر الى نصفين لاحقاً. بعدها تتابع مشاهد كابوسية في الفيلم غابت عن توظيف يحيى كالمشهد الذي تخرج فيه الديدان من يد الرجل مما يؤدي إلى تعفنها ورميها في الشارع أو تلتقطها لاحقاً امرأة سرعان ما تصدمها سيارة تموت على اثرها الصدمة الى آخر تلك الأحداث الكابوسية التي افتقدت توظيف يحيى. والاشكالية الاساسية هي تقديم بونويل كسادي يقوم بقطع عيني دالي، في الوقت الذي يفترض فيه العكس من يحيى. فمن يفتخر بساديته وحبه للفاشست هو دالي صديق فرانكو وليس الهارب من بطش الفاشت الى اوروبا والسينمائي الطليعي بونويل.
في النص الآخر “يوم واحد يتلألأ في عيني” وهو المكمل للنص السينمائي السابق سيستعين الكاتب فيه بأسطورة طائر الشؤم، والطير هنا وثيق الصلة بتجربة يحيى وهو دوما ما يعطي نصوصه هذا التميز الأسطوري، وبالمرأة كمنقذ حتى في أشد حالات المرض، بالطفولة أيضا، بالقلق الوجودي بالخوف من موت مبكر جراء الصدمة، إنه حقاً نص سردي فجائعي مدهش تتداخل فيه مشاعر الحب والموت، تتداخل فيه أزمنة اليقظة والغيبوبة وتقفز فيه إلى ذاكرة الكاتب ما كان غائبا ومندثراً كأصدقائه القدماء بعضهم يعيش والآخرون رحلوا الى غياب بعيد।
تكتمل هكذا محاور الطيور الزجاجية ليحيى في أجزائها الثلاثة। مقدمة لنا كاتبا مكتمل الأدوات الفنية، ذاهبا بتجربته التي إبتدأت منذ عشرين عاما إلى ألم مخيف يسطر هذه التجربة المتميزة عبّر عنها في تكثيف يكشف عما هو مخيف قادم مستقبلا أكثر عن ما مضى رغم عذاب الماضي وألمه: “أنتهت لعبة المرح وازادد خوفهم، ازداد وما زال يزداد حتى هذا اليوم.”.
ملاحظة: نشر هذا النص في مجلة "البحرين الثقافية" العدد 64أبريل 2011