يحيى سلام المنذري
في الصباح الباكر من يوم الجمعة فتحت الباب الزجاجي لمحل حلاقة الشعر ودخلت. كانت رائحة بخور العود الهندي الرخيص تملأ المكان، رمقت خيط الدخان يتلوى من خشبة نحيلة احترق نصفها وتناثر رمادها، أصبحت هذه الرائحة تصيبني بالقرف إلا أنني كالعادة أتجاهلها، كان هناك الكثير من الزبائن ينتظرون دورهم، الجدران مغطاة بالمرايا الزجاجية والأرضية مغطاة بالشعر. رميت جسدي على أحد كراسي الانتظار في مكان يبدو من الوهلة الأولى أنه هادئ، لم يكن هناك صوت ينبعث من التلفاز، وهذا شيء مريح لكي أتمكن من قراءة الكتاب الذي جلبته معي وحتى أستحوذ على قدر كاف من التركيز أثناء انتظار دوري.
فتحت كتابي وبدأت أقرأ، بينما جميع المنتظرين يمارسون عادة النظر إلى الحلاق حينما يقص شعر الزبون، وآخرون يتثاءبون أو يطالعون بعض الصحف أو المجلات الملونة القديمة المرمية بدون ترتيب على الطاولة الزجاجية أمام الكراسي العتيقة، كان على يميني شاب بملابس النوم ينظر إلى هاتفه النقال ويضحك، بينما على يساري رجل كان ينظر إلى السقف طوال الوقت وكأنما يبحث عن شيء مجهول ولكنه سرعان ما تلقى دعوة من الحلاق وذهب إلى كرسي الحلاقة، ظل مقعده شاغرا لمدة وجيزة حتى جاء رجل ذو لحية بيضاء وجلس بجانبي، اندهشت من وجود "المصر" على رأسه في يوم الجمعة. فجأة أشعل الحلاق تلفازه وانبعثت منه حوارات هندية صاخبة يتخللها في بعض الاحيان أغان وموسيقى، تجاهلت كل ذلك لأن موضوع الكتاب استحوذ على اهتمامي، كنت أقرأ في الصفحة اليمنى من الكتاب أما الغلاف الأخير فكان يواجه الرجل صاحب المصر، لاحظت بأنه أخذ يقرأ ما كتب على الغلاف الأخير، تعمدت الإطالة في القراءة وأعدت قراءة بعض الفقرات لأعطي الرجل فرصة لمشاركتي قراءة الغلاف الأخير الذي يعرض ملخصا عاما وقصيرا عن موضوع الكتاب، وطبعا أنا لم أقرأه بعد لأنني قد تعودت أن أترك قراءته بعد أن أنهي قراءة كل الكتاب.
قرأت تلك الصفحة مرتين حتى ينتهي الرجل من قراءة الغلاف، وبعدها انتقلت إلى قراءة الصفحة اليسرى وبذلك تم إخفاء الغلاف الأخير تحت يدي اليسرى، وهكذا قطعت على صاحبي متعة تلصصه بدون أن أعرف طبعا إن كان قد انتهى منه أم لا، بادرتني رغبة لقراءة ما كتب على الغلاف الأخير، لكنني أجلت الموضوع حتى لا يشعر الرجل بأنني كشفت سره في التلصص على كتابي، كنت أشعر به ينتظرني أن أنتهي من الصفحة اليسرى من الكتاب، لأنه تارة ينظر إلى الحلاق والزبائن ثم يرجع برأسه ناحية كتابي ليجد بأن الغلاف الأخير ما زال مختبئا. يبدو بأن موضوع الكتاب المدون في الغلاف جذبه وأثار اهتمامه. قررت أن أسرع في قراءة تلك الصفحة حتى أكتشف ماذا سيحدث حينما ينتهي من قراءة الغلاف، هل سيفتح بابا للنقاش حول الموضوع؟ هل سيسألني عن الكتاب والكاتب؟ هل سيسألني عن اسمي وعن اهتماماتي؟ ربما هو شخص لديه اهتمامات مشابهة. أنهيت الصفحة وقلبتها وبدأت في الصفحة التالية وبذلك هيأت الغلاف الأخير وعرضته متعمدا عليه وهذه المرة هيأته بطريقة أوضح ورفعته إلى أعلى، وكأنني أقف الآن أمامه وأقول له هيا إليك الفرصة الآن للقراءة وعليك أن تستغلها. وكما توقعت فإن الرجل غاص في المعلومات المكتوبة وهذا بالطبع دليل على أنه لم ينته من قراءته في المرة الأولى، على الفور توقعت بأنه سيسألني عن الكتاب أو سيطلب مني رقم هاتفي ليستعير مني الكتاب.
كانت الأغاني الهندية تزداد صخبا، وخشبة العود النحيلة لم يبق منها سوى جزء ضئيل. ثم قررت بأن أنهي قراءتي للكتاب عند ذاك الحد حتى أتيح له فرصة للكلام. وحينما أغلقت الكتاب، فاجأني بحديثه وقال بإبتسامة ماكرة: “هذا الحلاق هو الوحيد الذي يفتح باكرا في يوم الجمعة” رددت عليه بابتسامة وقلت له: “نعم..هو كذلك”. وبعد صمت وبدون أن يشير إلى الكتاب قال بسخرية: “يقولون حضارة.. واليوم سمعت بأن الحكومة قررت منع الذهاب إلى مكان العزاء وقت الدوام الرسمي”. فكرت في الشطر الأول من كلامه وكان يتعلق بموضوع الكتاب الذي أقرؤه، ولكن الشطر الثاني لا يمت بصلة الى موضوع الكتاب رغم أنه قام بربط الحضارة بالخبر الذي سمعه. قلت له: “هل هذا صحيح؟ غريب”. رد بحماس: “نعم صحيح لقد تيقنت من الخبر”. عند هذه النقطة أشار الحلاق إلي بأن دوري قد حان، استأذنته وظننت بأنه سيطلب مني الكتاب حتى يأتي دوره هو الآخر، لكنه لم يفعل ذلك، فاستأذنته وأخذت كتابي معي وتوجهت إلى كرسي الحلاقة، تركته مع المنتظرين يحدقون في الحيطان والحلاق وهو يقص الشعر، وكنت متشوقا حتى أنتهي وأخرج لأقرأ غلاف الكتاب وما كتب عليه، ولكنني كنت مستاء لأنه لم يطلب مني الكتاب لتصفحه حتى لدقيقة واحدة فقط.
من مجموعة الطيور الزجاجية 2011