يحيى سلام المنذري
(هذه القصة نشرت ضمن كتاب "رماد اللوحة" والمنشور في عام 1999 عن دار المدى بدمشق.)
بدايتك فجر وماء
يأتي الفجر..وأنت يا سلمان لم تنم بعد، خواطر غامضة تراودك... تتشكل بسرعة في أحداث متوالية غير مترابطة، عن الليل والفجر والبيوت والطفولة وعن أشياء أخرى كثيرة. الفجر يذكرك بالماء البارد.. والماء يذكرك بالسوط، عندما كنت طفلا كان أبوك يرشك بالماء البارد في وجهك قبل أن يحل الفجر بدقائق.. يصرخ:(الصلاة خير من النوم)، صراخ حاد وماء بارد، وينتصر الماء، يتحول إلى غيمة تداعب وجهك الصغير، المؤذن لم يؤذن بعد والليل ما زال بظلامه الكثيف. تقوم من الفراش متثاقلاً.. تشم رائحة خبز (الرخال) الممزوجة برائحة الخشب المحروق.. فتعرف أن أمك تخبز في ذلك الوقت وأنها تدعك عينيها بلحافها بسبب خيوط الدخان التي تتسلل كي تزعجهما بالحرقة. يزجرك أبوك كي تتوضأ لصلاة الفجر من ماء (الفلج) الذي يبعد عن بيتكم مسافة عشرين شجرة ليمون وثلاثين نخلة، هكذا أحصيتها حينما بدأت تتعلم العدّ. عندما تصل الفلج تلفظ أنفاسك، تشاهده طويلاً جداً... كثيراً ما فكرت في نهايته أين تكون، ماؤه يبدو مثل جلد ثعبان منقوش، لأن صخوره الماكثة في قاعة متنوعة ومختلفة الحجوم، هكذا فكرت أن الفلج ثعبان طويل لا تعرف أين رأسه، يزحف حاملاً الماء حتى يدخل بطن الجبل ويمر على قرى كثيرة مختلفة.عند الفلج كثير من رجال القرية جاءوا للوضوء وتأدية الصلاة في المسجد الطيني الصغير القريب من الفلج، كانوا يبتسمون لك من بعيد، يلوّحون لك بأيديهم مرسلين تحيتهم، وتسمع صوت أحد رفاقك يقول لك: (هاه.. سلمان كيف حالك لا تنسى اليوم موعد المباراة). وصوت آخر يداهمك من حنجرة جاركم بينما كان يهم بغسل فمه: (سلمان كيف حالك كيف حال أبيك؟). كنت ترد عليهم بتثاقل لأن النعاس مازال يداعب عينيك، تفكر أن الماء سوف يبلل كل أهل قريتك وسوف يغسلهم من كل شر ومن نفس هذا الماء يصنع أبوك سوطاً بارداً ولاسعاً يجلد به نومك.أراك يا سلمان تحن كثيراً لذاك الزمن، زمن فجر القرية في طفولتك، كلما تذكرته تصاب برعشة حمّى وحزن، لم تكن تعلم في ذاك الوقت أن ذلك الفجر ورائحة الخبز تلك تبعث فيك النشاط وصفاء الذهن والانتعاش وخصوصاً بعد أن تؤدي صلاتك، رغم مطالبتك بحرية الأطفال وكسر تسلط الآباء على أبنائهم، ها قد حدث الفجر من جديد، لكنه هذه المرة ليس في القرية، بل هنا بين هذه البيوت المتراصة والمختنقة حيث لا يوجد ماء يلسعك وينتزع نومك وحيث لا تشم رائحة خبز أمك ولا تعد الأشجار والنخيل وقت ذهابك إلى الفلج. أراك تبحث عن فجرك القديم.
أنت ورنين الجرس
رنين الجرس صوت رنين الجرس شبح مؤذ، كل الأشياء الجميلة ليست موجودة، كل شيء موجود ليس مثل رنين الجرس، الحب مثلا غير موجود، ليس عند الجميع، وإنما عندك يا سلمان، أنت الجالس على كرسي خشبي مثل قط خجول ووجهك يلمع بؤساً وغربة। الكرسي الخشبي تجلس عليه كل يوم كي تتحمل رنين الجرس، وإن تأمل أحد وجهك سيتذكر أن المطر لم يسقط منذ زمن بعيد وسيتساءل ألا تستحق أن تتذوق طعم الحب، أليس مهماً أن يظهر شخص مثلك لهذا الوجود، وأنت جالس على الكرسي في مبنى عملك تترقب رنين الجرس الذي يأخذك إلى المسؤول كي يرهبك بأوامره الساخطة، عندها تحترق وتغدو كتلة رماد، فالمسؤول جلاد يتلذذ بلحمك، وأنت مراسل خجول، حينما تتسلم المراسلات تحتفظ بها في يدك وصدرك خوفاً عليها من الضياع، والمسؤول يصنع كل يوم سخريات جديدة يلبسها لك، ليس المسؤول وحده وإنما كل الموظفين، جميعهم يعتبرونك ورقة بالية.رنّ الجرس... تستيقظ من غفوة قصيرة كنت تتأمل فيها خطوط السقف المشبعة بألوان باهتة ..طرقت باب المسؤول وفتحته ودخلت.. وبمجرد أن رآك، قال لك:(تعال يا قرد.. لا أعرف أي امرأة ستقبلك زوجا). تسقط كرامتك بين قدميك.. تتشظى إلى ألف قطعة وقطعة ... يحمرّ وجهك.. لا تقدر أن تفعل شيئاً سوى حبس أنفاسك وكظم غيظك خوفاً على وظيفتك الرخيصة. بعد ذلك تجلس على كرسي العقاب تنتظر بقية الموظفين، منهم من يضربك على مؤخرة رقبتك، وآخرون يضربونك على ظهرك أو رأسك أو كتفك أو أماكن أخرى، وأنت ترتعد في كل مرة، روحك تأتي وتروح، تقفز عالياً، تتألم وتبكي، تسيل دموعك، تقول في رجاء وحسرة: (ماذا تريدون مني.. دعوني .. دعوني). يفتحون أفواههم كي تظهر أنيابهم التي زرعها المسؤول لهم، يربتون على ظهرك، يقولون لك: (ما بك سلمان... إنها مجرد مداعبة). تجمع في فمك بصقة كبيرة، لكنك تبتلعها في جوفك، كنت تتمنى أن تقذفها في وجوههم بمن فيهم الكرسي والجرس، ولكنك تخاف، شيء ما يشل تفكيرك عن القيام بأي فعل أحمق، أبوك وأمك وأخوتك في القرية ينتظرون قدومك عند نهاية كل أسبوع.تتحس ثيابك وذقنك وأنفك وعينيك، توقن أنك رخيص وتتمنى في كل لحظة أن تعود إلى بيتك في القرية للبحث عن عمل، قصدت أحد رفاقك ممن يسكنون المدينة وسكنت معه مؤقتاً، تتذكر الشمس التي صهرتك أياماً كثيرة وأنت تبحث عن عمل، قدماك تورمتا من أثر المشي الطويل، بكيت كثيراً في الليل متذكراً عيني أمك وقريتك والفلج والمسجد الصغير، نصحك أبوك بالصلاة دائما ً وبغض بصرك، وبعد مدة طويلة وجدت هذا العمل كمراسل خجول تحمل الأوراق من مكان إلى مكان وبعض الأحيان تعمل فرّاشاً للمسؤول، كل ذلك بسبب تركك المدرسة مبكراً، وأنت تعرف سبب تركك لها، فقدت شهيتك للدراسة بسبب المعلمين الذين يشكلون أشباحاً مختلفة الحجوم، فقط هناك معلم الرسم الذي ارتحت له لأنه يشجعك كثيراً خصوصاً وأنه اكتشف لديك موهبة الرسم، وبالطبع أنت لا تنسى المعلم الذي شد شعر رأسك ذات مرة حتى اقتلع بعضاً منه وبعد ذلك ضرب برأسك في الطاولة، ولا تنسى المدرس الذي يأتيك في الأحلام حاملاً في يده سكيناً يريد ذبحك، وهو نفسه يزجرك وينعتك بالبغل كل صباح، وكل مرة تخبر أباك عن كل هذه الأشياء يزيدك ضربا وزجرا، وحبنما ابديت له رغبتك بترك المدرسة رحّب بالفكرة واقترح أن تذهب إلى المدينة كي تعمل مثل بقية شباب القرية ليشاهد فيك الرجل الذي يعتمد عليه، تتذكر أن أباك يصلي ويصوم وأنه فكر في الحج مراراً لولا الديون التي عليه، وفي الوقت نفسه تتذكر أن أباك تزوج مرتين والآن يكره أولاده من الزوجة الأولى ولا يسأل عنهم أبداً ويعتبرهم مثل أعدائه، وفي كل مرة يزورونه فيها يزم شفتيه، وتتذكر أيضاً أباك الذي يلتهم العسل والتمر ويشرب القهوة تحت شجرة البيت كل صباح ولا يحب أن يفعل ذلك إلا بسرد قصص الناس وتغليفها بالشتائم، تتذكر أباك جيداً منذ أن كان يرشك بالماء وقت الفجر.
صباح المدينة
صباحك في المدينة صباح لئيم، غرفتك التي تعيش فيها لعبة توقن أنها يوماً ما سوف تتلاشى مع الرياح، تتحسر على باب الحمّام الذي تهشّم فجأة، صار الحمام عارياً دون باب، تتساءل كيف يكون الحمام دون باب وقد انكشف كل شيء في داخله، وساخة أرضيته، حنفيته العجوز التي بالكاد تلفظ قطرة ماء، نافذته الصغيرة المتشققة والمشبعة بالغبار، صراصيره التي تشكل جيشاً يتدرب ليل نهار، الصابون المبعثر على الأرضية، معجون الأسنان المفتوح الفم، المرآة الصغيرة التي تحمل شقاً على شكل رقم سبعة. وهكذا صار الحمام عارياً، إن طلع أحدهم فوق الأسطح المجاورة لغرفتك فسوف يكشف الحمام، أراك تتحسر، توقن أنه لا يمكن أن يستمر الحمام دون باب، بعد ذلك تتأمل جدران الغرفة وتتحسسها، نبضاتها تتدفق ببطء شديد.صارت مثل أي كائن حي يلهث بصعوبة، يا لهذه الجدران كثيراً ما تصدعت، كثيراً ما تلقت طعنات المسامير في لحم أجسادها، التهمتها قسوة الأيام، تتخيل أي رصيف سوف يبتلعك بعدها.وصباحك صباح لئيم يركلك كل مرة خارج الغرفة كي تظل تتدحرج في الشوارع حتى يجلسك على الكرسي الخشبي في مبنى عملك وتنتظر عندها رنين الجرس، ورنين الجرس صوت ذئب جائع، تتذكر صبايا قريتك حينما يخرجن للفلج لغسل الأواني، كان قلبك يخفق وتشعر براحة حينما تنظر إليهن، ووجدت نفسك تحب المرأة والرسم، وتمقت شكل النقود ونظرات الناس، دائما ما تشعر بحرارة غريبة تسري في يدك تحفزك على أن تمسك القلم وترسم طيوراً تحلق بعيداً عن الأرض، ترسم نساء جميلات وحدائق زهور وأشكالاً هندسية، كنت في طفولتك ترسم بقطع الفحم على جدران البيوت أشكالاً غريبة جدا ليس لها وجود، أشكالاً تبتكرها وكأنها سوف تتحقق في سنوات قادمة، بعد ذلك بدأت الرسم على الأوراق، مرة رسمت شجرة أوراقها سوداء وثمارها رؤوس دامية، وتبدو الشجرة في اللوحة أكبر من المدينة وغائرة في سماء مليئة بالغربان وطيور أخرى غريبة الأشكال، وبعد رسمك لها تمعنت فيها جيداً مما أثار في نفسك الكثير من الأسئلة لأنك رسمتها بعد يوم كئيب وحارق انتهت ليلته بكوابيس كثيرة، حاولت بكل قوتك أن ..أن تنادي أمك كي تحضنك وتقرأ عليك آيات من القرآن الكريم تحفظك من كل سوء، لكنها بعيدة عنك في القرية، وفي الصباح اكتشفت أنك رسمت هذه اللوحة، ولم تستطع أن تتذكر بداية رسمك لها، ومرة رسمت أشكالاً هندسية مختلفة تتطاير في فضاء اللوحة ويطير معها طفل يمسك بيده طائرة ورقية على شكل غيمة ذات وجه مبتسم، ومن الغيم تمتد دوائر حلقية متصلة وتهبط منها مثلثات، وكان الطفل – على ما يبدو في الرسم – يرتفع ويبتعد عن المدينة التي كانت تحته على هيئة غيوم سوداء غائصة بين الجبال.دائماً ترسم وقت جلوسك على الكرسي الذئب، مرة شاهدك أحدهم ووقف خلفك يشاهد ما ترسم دون أن تشعر بوجوده، خطف منك اللوحة، وقال لك: (جميل جداً... لم تقل بأنك رسام موهوب... رسمك جميل). شعرت يا سلمان برذاذ يسري في عروقك، هو رذاذ اللذة التي نادراً ما تتذوقها، كنت الوحيد الذي يهتم بلوحاتك، رأي الموظف انتشلك بعيداً نحو كل شيء مبهج، لكن ذلك الشخص لم يدع الفرحة تستمر لفترة أطول فقد رقص باللوحة وصرخ بأعلى صوته: (تعالوا تعالوا لدينا هنا ..رسم امرأة..تعالوا.. سلمان يرسم)। تغضن وجهك، حضرت وجوه بالية تطلق ضحكات سخرية، مدَ كل واحد يده ليدغدغك، فتحولت على الفور إلى كرة تقاذفها الجميع وكادت ثيابك أن تتمزق، صمت الجميع وانصرفوا كاتمين ضحكاتهم ليفجّروها في مكان آخر، صرخ المسؤول في وجهك وقال: (وأيضاً رغم كونك زبالة... فأنت قليل الأدب والتربية.. هذه الأشياء لا ترسم في هذا المكان المحترم.. سوف أكتب عنك تقريراً بذلك). ومزق اللوحة فوق رأسك وأمرك أن تجمعها كي ترميها في القمامة، تيبس كل شيء فيك، حاولت أن تصرخ وتلبس أنياب الشر كي تحفر الجدران وتصل إلى كل ذئب، رنين الجرس انتشلك من جمودك، أخذت تجمع فتات اللوحة بيدين مرتعشتين كي تشاهد صندوق القمامة يفتح لك فمه ويضحك.
طين يابس
تقف على الطين اليابس، تتذكر نفسك، تقضم أصابعك، عمرك مرّ من أمامك سريعاً مثل الضوء ولم تحادث امرأة غير أمك، لم تنل طعم الحب، لم تلمس يدين ناعمتين، لم تتأمل في عينين واسعتين، لم تطرب لهمسات رقيقة، فقط هو الصباح اللئيم الذي كان يهزأ منك ويركلك ناحية ।مر العمر من أمامك، سكنك الجوع، سكنك الخوف، حينما شاهدت البحر أول مرة قفزت الى قلبك روح جديدة وصديق جديد، فأصبحت تسعى إليه كي تخفف من جوعك، قال لك أبوك غض من بصرك، وهو الذي حينما يشاهد امرأة يسيل لعابه، وها أنت تنظر في الأجساد الأنثوية وتنظر في البحر، كل هؤلاء النساء يمررن من أمامك ولا تجرؤ على محادثة إحداهن، وحينما صرحت لأبيك عن رغبتك في الزواج، نهرك بأن تجمع أولاً المال، والمال في هذه المدينة يذوب بسرعة مثل الثلج تحت هذه الشمس الحارقة، منذ أن كنت صغيراً والأسئلة تتقافز في رأسك حول ذلك الجسد الأنثوي، لماذا يشدك ناحيته بقوة، أي جاذبية ساحرة تلك التي تحطمك، أي تقاسيم عجيبة لهذا الجسد الأملس الناعم، بدءا من شعر الرأس المنسدل حتى الظهر، والصدر السحري، والخصر، والساقين، واليدين الناعمتين، كل هذه التقاسيم تلعب برأسك.إلى متى تنتظر رنين الجرس؟
تجمع الذئاب
حطت ليلة السخط على رأسك ياسلمان، زأرت كالأسد، هشمت نومك، وبقدميك النحيلتين رفست الجدران وختمت عليها علامات الغضب، فتحت نافذتك التي تطل على شارع مظلم، رأيتهم جميعاً كالذئاب، كل واحد يحمل شعلة نار، وبينهم جميع النساء اللواتي راودنك في أرض أحلامك।تجمعوا في ليلة السخط تلك أمام غرفتك الصغيرة، نشروا ضحكاتهم وسخرياتهم بين نارهم المتوهجة، أطلقوا صيحاتهم كي تنغرز في رأسك وتوقظ فيك الوحش الخامد وتقشع صمته، كانوا كثر يرشفون أنفاس النار ويتآمرون عليك، من الذي أرسلهم إليك، كيف تكوّنوا هكذا مثل زوبعة غبار مؤذية، أي رحم قذفهم إلى هنا. نزلت إليهم غاضباً.... وقفت أمامهم متحديا..وقلت:(ماذا تريدون مني..دعوني وشأني॥ أنا لا أحب أحدا منكم). ضحكوا، حتى امتلأت الأرض بضحكاتهم، وبصقوا، حتى امتلأ وجهك ببصقاتهم، وأطفأوا شعلات نارهم حول قدميك. عدت طفلاً من جديد أمام حفر الحياة وكائناتها، حينما لم تكن قادراً على حمل حقيبة المدرسة، حينما رُكلت خارج القرية والمدرسة، حينما لم تكن قادراً على مطاردة القطط والوقوف من بعيد للتفرج عليها، حينما كان أبوك يمتهن جمع الأخشاب كي يكسرها على ظهرك. قلت لهم بخوف وحزن: (سوف أقتلكم جميعاً). كثرت ضحكاتهم وسخرياتهم، قذفوك بكرات طين رطب، عبأت صدرك بخيبة الحياة كلها، الليل زفر فيك روح الفشل، توهج الغضب أكثر في جسدك الضئيل، شحنت القلم بضحكاتهم وبصقاتهم وأشكالهم المقرفة، رسمت وجوههم أكثر بشاعة، رسمت الليل سيدهم، رسمت أمهاتهم الخطيئة التي لا تغتفر، رسمت أباءهم أفاعي تحرضهم على إقتراف الإثم، رسمت أجسادهم معلقة على حبال الهزيمة، وفمك يعجن بصقة كبيرة تتهيأ لقذفها ناحية وجوههم، تتساءل أي كراهية هذه التي اشتعلت في جسدك، أي حقد تكون، أي لوحة تخلق الآن.مازالوا في الخارج يراقصون بعضهم البعض، ويخدعون سيدهم الليل الذي يخبئهم تحت إبطه العفن، وأنت تنفث في اللوحة سر وجودهم. إسترخيت على المقعد واللهاث يتطاير من فمك، لم يعد في قلم الرصاص روح سوى سواد علق في أصابع يدك، قمت بتغطية اللوحة بقماش أسود، هدأت قليلاً. ثم بكيت بمرارة، اشتهيت نهر الطمأنينة أن يغسل روحك وجسدك، ويرقدك في سلام تحت ظل شجرة مثمرة أو وسط حقل زهور، حدقت في السقف طويلاً، إلى أن جاءت الشمس واخترقت زجاج نافذتك، كي تعطيك صباحاً لئيماً وثقيلاً يحمل لؤم وثقل جميع الصباحات الماضية، تنبهت من غفوتك، قمت متعباً، أزحت القماش الأسود من على اللوحة، افترسك الفزع، كان كل شر العالم يجتمع في تلك اللوحة، كان الليل يلّمع أنيابه ويوسخ إبطه بأولئك الذئاب.أشعلت عود ثقاب، فركضت ناره تلتهم اللوحة، احترقوا جميعهم وصاروا رماداً. إذن ليتجرأ الصباح مرة أخرى أن يركلك ناحية الشارع، وليتجرأ مرة أخرى هذا الجرس أن يعلن عن شبحه القاتل، سوف ترسم لوحات كثيرة وتحرقها كي ترتاح من الجميع، ماعدا لوحة أمك.