الثلثاء, 26 يوليو 2011
جريدة عمان-ملحق شرفات
تحقيق - هدى حمد
كان هنالك سؤال يهمنا.. توجهنا به إلى عدد من الكتاب والمهتمين بالشأن الثقافي في البلد، وأيضا إلى عدد من الصحفيين الذين يشتركون معنا في التساؤل حول غياب الكاتب عن الكتابة في الملاحق والصفحات الثقافية. فهنالك عزوف عن المشاركة الكتابية، وعزوف عن حضور الفعاليات الثقافية، ونحن نحاول في هذا العدد من شرفات والعدد الذي يليه أن نطرح عدة محاور تنصب في هذه القضية.. قد نظن في البداية أن الكاتب متوقف قليلا عن الكتابة، ولكننا ما نلبث أن نكتشف أنّ له مجموعة شعرية أو قصصية جديدة، ونسبة كبيرة من نصوصها لم تنشر من قبل – وبالتأكيد هذا خيار شخصي- ولكنه مؤشر يشير إلى أن الكاتب يكتب، إلا أنه لا يفضل النشر في الملاحق!
وإذا افترضنا جدلا أنّ الكاتب لم يكتب شيئا جديدا من الشعر أو القصص.. ترى ألا تستثيره الحياة ومجرياتها ليكتب شيئا آخر.. كأن يكتب مثلا عن فيلم شاهده في السينما أو عن قضية ما لفتت انتباهه، عن كتاب قرأه وأحبه.. فهذا الشكل الآخر من الكتابة لا يكتبه إلا القلة القليلة؟ ترى هل يلعب الأجر أو المقابل المادي دورا في المشاركة من عدمها؟
الغياب ليس فقط عن الكتابة، وإنما أيضا عن حضور الفعاليات الثقافية فغالبا ما تكون المقاعد فارغة.. وغالبا ما يقتصر الحضور على من تربطه علاقة بصاحب الفعالية.. وثمة دائما عذر واحد ويتيم وهو غياب التغطية الإعلامية..هل ترى ذلك سببا حقيقيا؟ هل ثمة علاقة طردية بين ظهور المدونات وغياب النشر الورقي؟ أم أنّ التهمة التي تلاحق الملاحق الثقافية بصفة دائمة ستظل قائمة.. ألا وهي تهمة “الشللية”.. فلا يكتب ولا ينشر إلا لأسماء تتكرر دائما؟
**لا تقولوا للمغني غني
تفاجئنا الكاتبة آمنه ربيع بقولها: "لا أعرف لماذا تصرّون على تحويل كل شيء إمّا إلى أزمة أو قضية!! أنتم تبحثون عن أجوبة غير شافية! فليس مطلوبا أن يحضر الكاتب جميع الفعاليات وينشر في كل الملاحق". وتتابع قائلة: في ظفار هناك مَثل شعبي دال يقول: "لا تقولوا للمغني غني حتى يغني المغني من راسه". وترى الربيع أنّ الملاحق الثقافية مجبرة على إثارة القضايا الثقافية في الملاحق المعنية، لأن وظيفة الملحق الثقافي مثل البرامج الإذاعية والتلفزيونية الثقافية..وظيفتها استيعاب كل الأصوات والاتجاهات. وتضيف: "هذه مسؤوليتكم العامة، وربما هذا ما أحاول التخلّص منه". بينما يبدو الكاتب خالد عثمان أكثر جدية وعتبا وهو يقول: "من العيب في عرفنا العماني أن يذهب الكاتب العماني إلى مقر جريدة أو مجلة محلية وهو يتأبط الصفحة التي فيها قصته/ قصيدته/ مقالته مطالبا مقابلها ريالات محددة سلفا أو أن يتصل بالمحرر سائلا عن سعر المادة المنشورة أو متى سيجد في حسابه البنكي المصفر مقابل ما نشر أو كم تعطوني إذا نشرت عندكم؟" ويتابع قائلا: فوق هذا العيب الفاضح سيجد في اليوم التالي عمودا رخاميا يقول فيه المحرر "إياك أعني واسمعي يا جارة" فيجر قلمه على هؤلاء الكتاب الذين يتعاملون مع الأدب بمنطق المال والمكسب والتجارة، ويظل يصرخ إلى آخر قطرة حبر في قلمه الجاف حتى يثبت لك بالأدلة والبراهين الدامغة بأنك كاتب متسول ومادي بحت.. تداعبه بنكتة برنارد شو حين سأله كاتب مغرور: لماذا تكتب يا شو؟ فقال أنا أكتب من أجل المال، ثم سأله برنارد: وأنت لماذا تكتب،؟ فقال المغرور: أنا أكتب من أجل الشرف، فرد عليه برنارد: كل يكتب من أجل شيء يفقده". بينما لا يستطيع يحيى المنذري أن يعمم هذا الظن، لذا قرر أن يكلملنا عن تجربته في هذا الجانب، "الكل يعرف بأنني مقل في الكتابة، فمجموعتي القصصية الأخيرة "الطيور الزجاجية" كتبت خلال ثمان سنوات، واحتوت على خمسة عشر نصا، وبعضها نشر والبعض الآخر لم ينشر، وكما قلتِ ليس من الضروري أن أنشر كل ما تحتويه المجموعة إذ أن هذا خيار شخصي.
** ليس لملء الفراغ
يرى الكاتب والقاص محمود الرحبي أنّ الغياب والعزوف والتقوقع والتلاشي هي مترادفات تُطلق كثيرا على حال المبدع العماني في حقل الآداب والعلوم الإنسانية، وهو الحقل الأكثر بروزا وسطوعا وحركة واعتمالا ونشاطا في حياتنا المعرفية، ويرى الرحبي أنّ أسبابا كثيرة تقف وراء ذلك وأهم هذه الأسباب يعود إلى "إبعاد" المثقف حتى من صياغة القرار الثقافي، والذي يعنيه بالأساس، والزج بعناصر من خارجه لإدارته من "أنصاف مثقفين، أو متطفلين على المشهد الثقافي.. الخ" وإبرازهم لإدارة الحياة الثقافية في عمان..
الشاعرة والمشرفة على الصفحات الثقافية في جريدة الزمن تُصف مع فعل الكتابة والكُتاب، "هذه هي النقطة التي تهمنا كمشتغلين على هذا الفعل، وليس كمحررين همنا الأول هو ملء مساحات الفراغ بصفحاتنا". المتابع للصفحات الثقافية في جريدة الشبيبة خميس السلطي، تصور أنّ الأحداث الأخيرة التي ظهرت في السلطنة والتي أحدثت تغيرات على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، كانت من بين الأسباب الرئيسة التي أوجدت هوّة واضحة بين المثقف العماني وبين الجهات الإعلامية المعنية بالأمر، "لو عدنا إلى بدايات الاعتصامات والمطالبات بتحسين ظروف وأوضاع الفرد والمجمتع العماني، سنرى أن معظم مثقفي السلطنة كانوا ضمن المطالبين بالتغيير والإصلاح، مهما تغيرت توجهاتهم أو تباينت أفكارهم، والصدمة التي أوجدت هذه الهوة هي أن أغلب الجهات الإعلامية لم تكن بدرجة الطموح التي كان يتمناها المثقف حسب تصوره، فهو يرى أنّ الجهات الإعلامية عامة كانت مضللة لنقل الوقائع والصور، بعيدة عن حديث الشارع وبيان المثقف، كما أن هناك بعض المثقفين وحسب ما تتبعنا دخلوا في حلقة شائكة مع بعض الجهات ذات الاختصاص، وربما خروجهم أيضا من هذه الحلقة أوجد لديهم فارق في التعامل مع الإعلام عامة".
** قناعة عدم إلقاء اللوم:
في السابق كان يشغل ذهن آمنة الربيع هذا الهاجس.. لماذا الغياب؟! "شغلني الهاجس من واقع انخراطي في الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء، وحاليا في لجنة الأدب والإبداع بالنادي الثقافي.. ثم وصلت إلى قناعة عدم إلقاء اللوم على المؤسسة، وتصالحتُ مع هذا الأمر. لذلك أخذ الاهتمام بالهاجس يتراجع ويقلّ، ولهذا أسبابه الموضوعية على الأقل كما أراها عندي تتمثل في انشغالي بالتركيز على مشاريعي الإبداعية الصغيرة، كالدراسة الأكاديمية والنقد المتخصص وإبداع النص الدرامي". بينما وصف السلطي الواقع الثقافي العماني بالراكد، إلا ما رحم ربنا، "رغم التنوع الثقافي والأدبي الثري في السلطنة، إلا أن الجهات الرسمية المعنية لم تقم بواجبها على أكمل وجه، ففعالياتنا ومهرجاناتنا الثقافية والفنية دائما ما تكون في قفص الاتهام، فهي غالبا ما تأتي وتنتهي بالفشل في الجانب التنظيمي، الرد الجاهز دائما: "إنّ الموازنات المادية لا تكفي لأن يخرج المهرجان الثقافي أو الفني بنجاح"، ويضيف السلطي قائلا: "الأمر لا يزال يشكل ربكة لكل مثقف عماني، لهذا ابتعد المثقف عن الثقافة والإعلام بصورة خاصة".
** المؤسسة وزمام المال
ويعقد محمود الرحبي مقارنة لواقع حال المبدع إلى جوار اللاعب قائلا: "ما يعيشه أي لاعب متميز من اهتمام وبروز، يوازي في الميزان ما يعيشه المبدع العماني من تهميش وجحود". ويتابع مضيفا: "هنا لا نتحدث عن أفراد أو حالات، وإنما الحديث دائما عن وضع كيان ثقافي وخطط ثقافية.. فلنتصور مثلا عدم وجود مهرجان ثقافي في بلد عريق وراسخ كعمان، أعني مهرجان ثقافي صرف على غرار مهرجان المربد وقرطاج وأصيلة والقرين والجنادرية .. الخ، وغياب كذلك جوائز وطنية أدبية ونقدية. فغياب كل ذلك وما سواه يعني بالتأكيد غياب الفعاليات وغياب الحضور -حضور المثقف- وبالتأكيد يعني الغياب، العزوف، التقوقع والتلاشي.. فهل كل هذا مقصود في ذاته يا ترى؟ من هنا يجب أن يبدأ السؤال. خاصة ونحن نعلم يقينا بأن المؤسسة الرسمية هي من يمسك بزمام المال والقرار في بلادنا. بينما ترى آمنة الربيع أنّ للعزوف ما يبرره حسب وجهة نظر كل مبدع يرتئيها، ولا يجب إلقاء اللوم باستمرار على المؤسسة، "من واقع تجربتي المتواضعة رأيت أن المبدع قادر أن يُقيم علاقة سلبية أو جيدة، ضعيفة أو حسنة بالمؤسسة السياسية أو المدنية، من دون التضحية بما يملك من استقلالية في الرأي، ولديه المسؤولية الكاملة في اتخاذ القرار الذي يراه مناسبا".
** العصامي يصنع مجده
ويؤكد محمود الرحبي على أن الكاتب مبعد تماما عن إدارة الشأن الثقافي، وحتى وإن وجد فإن شروطا كثيرة تطوق رقبته، الأمر الذي ينفره من تفعيل أي شيء فيه. والأمثلة والأسماء كثيرة في هذا المجال وسيرد ذكرها في حينها لو اتقضى الحال.. "هذا الأمر ولد مع الوقت نوعا من العناد والتحارب البارد بين المؤسسات الثقافية - على قلتها وشحة مواردها- وبين الكاتب المتحقق والشغول. سأذكر مثالا عابرا هنا، ميزانية النادي بفعالياته وأنشطته هي مائة ألف ريال فقط حسب علمي، بينما تمّ الإعداد لندوة عابرة استمرت ثلاثة أيام حيث رصد لها قرابة الثلاثمائة ألف ريال."وليفد ما لم يقل" كما قال جدنا الجاحظ. لذلك ظل المبدع العماني -وخاصة المبدع في حقول الأدب- عصاميا بامتياز. وإذا تحقق وخرج اسمه وشاع فإن الفضل الأول والأخير يرجع إليه وحده. ويرى يحيى المنذري من خلال الاطلاع على مسيرة الملاحق والصفحات الثقافية خلال السنوات التي مضت أن قوة الملحق الثقافي تعتمد على صدق وثقافة المحرر، فكلما كان المحرر عميق الثقافة والموهبة وصادقا في عمله كان الملحق قويا من حيث مواده وإخراجه الفني وكان أيضا يشكل مساحة تجذب الكتّاب. وبما أن الصحف المحلية قليلة في البلد فإن الملاحق الثقافية قليلة، وبعض الصحف ليس لديها ملحق وإنما تعتمد على صفحة أو صفحتين في الداخل.
** المال والخطط المتخبطة
الجانب المادي بالنسبة لـ يحيى المنذري هو عامل مهم في استقطاب الكتّاب إلى جانب عوامل أخرى، "بعض الصحف تريد مادة كتابية فقط، ولا تريد أن تدفع مقابلا مجزيا للكاتب، وربما في بعض الأحيان تقول له يكفي بأن أنشر لك، وهي –الصحيفة- لا تفكر أبدا بأنها تجني أرباحا، ولا تنتبه إلى أن مادة ذلك الكاتب ساهمت في تلك الأرباح، ونحن نعرف بأن هناك بلدانا تُقدم احتراما كبيرا لوقت الكاتب، فتعطيه أجرا مجزيا على كتابته، لأن الكتابة عمل، والإبداع عمل، فبإمكان الكاتب عدم نشر إبداعاته في الصحف وسينشرها في كتاب يحمل اسمه لاحقا. وسابقا كتبت مقالا نشر في ملحق شرفات تحدثت فيه عن قيمة الكاتب العماني وتساءلتُ عن مدى تقدير الصحف المحلية للقلم العماني.. وأن أقصى ثمن للمكافأة يمكن أن تقدمها صحيفة أو مجلة محلية للعمود أو المقال أو القصة لا يتجاوز الثلاثين ريالا.. وما زلتُ عند رأيي، وأؤكد بأن عامل المقابل المادي مهم وعدم وجوده أو بخسه يساهم في ابتعاد الكاتب العماني عن الكتابة في الملاحق الثقافية".
ويرى محمود الرحبي أن المقابل المادي هو حق مشروع بل وتكريم للجهد والوقت والعذابات التي يدخل بها الكاتب لحظة كتابته.."ألا يستحق الكاتب التكريم؟"، ويتابع الرحبي قائلا: "ما نفعله هو الدفع للأقلام العربية المستأجرة والتي أجد الغث والتكرار في معظم ما يتناولونه حتى وإن كانت أسماء معروفة. وحكت لنا آمنة الربيع ما دار في إحدى الجلسات التي جمعت عددا من الكتّاب حيث تلفّظ أحد المسؤولين بفجاجة قائلا: "يكفي الملاحق والصحف أنّها تنشر لهؤولاء الكتّاب وكمان يبغوا مكافأة"!!! هذا كلام لا يصدر إلاّ عن ثقافة كُرست فضيلة المن والعطايا والهبات، وللأسف يُدرك المرء المنخرط في الثقافة بشكل عام أن تغيير هذه العقلية صعب كثيرا لأنها شكلّت نسقا راكمه أفكار ضعيفة وسلوكيات متعجرفة، بينما يؤكد خالد عثمان على ضرورة إعطاء الكاتب حقه قبل أن يجف قلمه، وتجف الصحف عن الإبداع.. "إن أول أسباب العزوف عن النشر في الملاحق الثقافية هو تلكؤ الجريدة في دفع أجر كاتب لأسباب واهية، والسبب الآخر هو تواضع هذا الأجر حيث لا يتعدى 10 ريالات للقصة/ الشعر، و20 ريالا للمقال.. هل هذا التعامل السلحفائي يثري الأدب ويرفعه؟ لو صرفت هذه الملاحق أجور الكتّاب بعد أسبوع من نشر المادة لوجدت عندها العشرات من المواد الإبداعية الراقية، ولما وسعت صفحاتها لها، ولكن الكسل يولد الكسل والشح يولد الشح والجفاف والركود والتراجع إلى ما بعد الصفر وإلى المربعات والنقاشات البيزنطية العقيمة، نقاش البيضة والدجاجة، كما إن هذه الملاحق في كل مرة تجدد قديمها دون أن تتطور في كل مرة تدور في الساقية نفسها، وجديدها قديم وقديمها جديد.. منذ أربعين السنة وأسئلة الأدب في عمان هي هي، لأننا لم نتجاوز أنفسنا، نبتعد عن الحقيقة دون ملامستها. الأدب برمته أول مشكلاته في عمان هو الدعم المالي وثانيها الاستراتيجيات المتخبطة والفوضوية وغياب الداعم الجاد والحقيقي له".
** خيبات ومواقف لا تنسى!
من جهة أخرى حدثتنا بدرية الوهيبية عن كم الاحباطات والخيبات التي قد يواجهها محرر الصفحات الثقافية، وقد ذكرت لنا مثالا حصل معها: "قمتُ باستطلاع استطلع فيه آراء المثقفين في شيء معين، وقد تفاجأتُ من أحد الكتّاب.. الكاتب يُرسل لي رأيا بعيدا عما طلبناه ودخل في مناطق يُدرك صعوبة نشرها، ويدرك أنها لا تمت للموضوع بصلة فكان من باب أولى عدم نشر رأيه لسبب رئيسي لأنه ليس المطلوب والسبب الآخر ما زال معلقا في عنق حرية الصحافة المسؤولة، فاتصل يؤنبني لماذا لم ينشر رأيه وأنه عار علينا كمثقفين أن نغتال الكلمة والحرية، فشعرتُ أنّه كان يريد الإيقاع بنا لا أكثر حسب نظرية المؤامرة.. البعض يشعرك بذلك فعلا.. هذا وأمثاله أقسم بعدم النشر في صحافتنا واتجه إلى المواقع الالكترونية والمدونات وهو حر في ذلك".
خميس السلطي أخبرنا أنه لن ينسَ تلك العبارة التي قالها أحد الزملاء المثقفين عندما أراد أن يجري معه حوارا حول ما يجري من أحداث، وقتها ردّ عليه غاضبا: "يجب ألا نتعامل مع أي صحيفة في عُمان، أنتم مضللون وغير صادقين مع أنفسكم ومن الأجدر أن نقاطع صحفكم المطبلة في نقلها للوقائع".. هذه العبارة لا تزال عالقة في مسامع السلطي إلى اليوم
جريدة عمان-ملحق شرفات
تحقيق - هدى حمد
كان هنالك سؤال يهمنا.. توجهنا به إلى عدد من الكتاب والمهتمين بالشأن الثقافي في البلد، وأيضا إلى عدد من الصحفيين الذين يشتركون معنا في التساؤل حول غياب الكاتب عن الكتابة في الملاحق والصفحات الثقافية. فهنالك عزوف عن المشاركة الكتابية، وعزوف عن حضور الفعاليات الثقافية، ونحن نحاول في هذا العدد من شرفات والعدد الذي يليه أن نطرح عدة محاور تنصب في هذه القضية.. قد نظن في البداية أن الكاتب متوقف قليلا عن الكتابة، ولكننا ما نلبث أن نكتشف أنّ له مجموعة شعرية أو قصصية جديدة، ونسبة كبيرة من نصوصها لم تنشر من قبل – وبالتأكيد هذا خيار شخصي- ولكنه مؤشر يشير إلى أن الكاتب يكتب، إلا أنه لا يفضل النشر في الملاحق!
وإذا افترضنا جدلا أنّ الكاتب لم يكتب شيئا جديدا من الشعر أو القصص.. ترى ألا تستثيره الحياة ومجرياتها ليكتب شيئا آخر.. كأن يكتب مثلا عن فيلم شاهده في السينما أو عن قضية ما لفتت انتباهه، عن كتاب قرأه وأحبه.. فهذا الشكل الآخر من الكتابة لا يكتبه إلا القلة القليلة؟ ترى هل يلعب الأجر أو المقابل المادي دورا في المشاركة من عدمها؟
الغياب ليس فقط عن الكتابة، وإنما أيضا عن حضور الفعاليات الثقافية فغالبا ما تكون المقاعد فارغة.. وغالبا ما يقتصر الحضور على من تربطه علاقة بصاحب الفعالية.. وثمة دائما عذر واحد ويتيم وهو غياب التغطية الإعلامية..هل ترى ذلك سببا حقيقيا؟ هل ثمة علاقة طردية بين ظهور المدونات وغياب النشر الورقي؟ أم أنّ التهمة التي تلاحق الملاحق الثقافية بصفة دائمة ستظل قائمة.. ألا وهي تهمة “الشللية”.. فلا يكتب ولا ينشر إلا لأسماء تتكرر دائما؟
**لا تقولوا للمغني غني
تفاجئنا الكاتبة آمنه ربيع بقولها: "لا أعرف لماذا تصرّون على تحويل كل شيء إمّا إلى أزمة أو قضية!! أنتم تبحثون عن أجوبة غير شافية! فليس مطلوبا أن يحضر الكاتب جميع الفعاليات وينشر في كل الملاحق". وتتابع قائلة: في ظفار هناك مَثل شعبي دال يقول: "لا تقولوا للمغني غني حتى يغني المغني من راسه". وترى الربيع أنّ الملاحق الثقافية مجبرة على إثارة القضايا الثقافية في الملاحق المعنية، لأن وظيفة الملحق الثقافي مثل البرامج الإذاعية والتلفزيونية الثقافية..وظيفتها استيعاب كل الأصوات والاتجاهات. وتضيف: "هذه مسؤوليتكم العامة، وربما هذا ما أحاول التخلّص منه". بينما يبدو الكاتب خالد عثمان أكثر جدية وعتبا وهو يقول: "من العيب في عرفنا العماني أن يذهب الكاتب العماني إلى مقر جريدة أو مجلة محلية وهو يتأبط الصفحة التي فيها قصته/ قصيدته/ مقالته مطالبا مقابلها ريالات محددة سلفا أو أن يتصل بالمحرر سائلا عن سعر المادة المنشورة أو متى سيجد في حسابه البنكي المصفر مقابل ما نشر أو كم تعطوني إذا نشرت عندكم؟" ويتابع قائلا: فوق هذا العيب الفاضح سيجد في اليوم التالي عمودا رخاميا يقول فيه المحرر "إياك أعني واسمعي يا جارة" فيجر قلمه على هؤلاء الكتاب الذين يتعاملون مع الأدب بمنطق المال والمكسب والتجارة، ويظل يصرخ إلى آخر قطرة حبر في قلمه الجاف حتى يثبت لك بالأدلة والبراهين الدامغة بأنك كاتب متسول ومادي بحت.. تداعبه بنكتة برنارد شو حين سأله كاتب مغرور: لماذا تكتب يا شو؟ فقال أنا أكتب من أجل المال، ثم سأله برنارد: وأنت لماذا تكتب،؟ فقال المغرور: أنا أكتب من أجل الشرف، فرد عليه برنارد: كل يكتب من أجل شيء يفقده". بينما لا يستطيع يحيى المنذري أن يعمم هذا الظن، لذا قرر أن يكلملنا عن تجربته في هذا الجانب، "الكل يعرف بأنني مقل في الكتابة، فمجموعتي القصصية الأخيرة "الطيور الزجاجية" كتبت خلال ثمان سنوات، واحتوت على خمسة عشر نصا، وبعضها نشر والبعض الآخر لم ينشر، وكما قلتِ ليس من الضروري أن أنشر كل ما تحتويه المجموعة إذ أن هذا خيار شخصي.
** ليس لملء الفراغ
يرى الكاتب والقاص محمود الرحبي أنّ الغياب والعزوف والتقوقع والتلاشي هي مترادفات تُطلق كثيرا على حال المبدع العماني في حقل الآداب والعلوم الإنسانية، وهو الحقل الأكثر بروزا وسطوعا وحركة واعتمالا ونشاطا في حياتنا المعرفية، ويرى الرحبي أنّ أسبابا كثيرة تقف وراء ذلك وأهم هذه الأسباب يعود إلى "إبعاد" المثقف حتى من صياغة القرار الثقافي، والذي يعنيه بالأساس، والزج بعناصر من خارجه لإدارته من "أنصاف مثقفين، أو متطفلين على المشهد الثقافي.. الخ" وإبرازهم لإدارة الحياة الثقافية في عمان..
الشاعرة والمشرفة على الصفحات الثقافية في جريدة الزمن تُصف مع فعل الكتابة والكُتاب، "هذه هي النقطة التي تهمنا كمشتغلين على هذا الفعل، وليس كمحررين همنا الأول هو ملء مساحات الفراغ بصفحاتنا". المتابع للصفحات الثقافية في جريدة الشبيبة خميس السلطي، تصور أنّ الأحداث الأخيرة التي ظهرت في السلطنة والتي أحدثت تغيرات على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، كانت من بين الأسباب الرئيسة التي أوجدت هوّة واضحة بين المثقف العماني وبين الجهات الإعلامية المعنية بالأمر، "لو عدنا إلى بدايات الاعتصامات والمطالبات بتحسين ظروف وأوضاع الفرد والمجمتع العماني، سنرى أن معظم مثقفي السلطنة كانوا ضمن المطالبين بالتغيير والإصلاح، مهما تغيرت توجهاتهم أو تباينت أفكارهم، والصدمة التي أوجدت هذه الهوة هي أن أغلب الجهات الإعلامية لم تكن بدرجة الطموح التي كان يتمناها المثقف حسب تصوره، فهو يرى أنّ الجهات الإعلامية عامة كانت مضللة لنقل الوقائع والصور، بعيدة عن حديث الشارع وبيان المثقف، كما أن هناك بعض المثقفين وحسب ما تتبعنا دخلوا في حلقة شائكة مع بعض الجهات ذات الاختصاص، وربما خروجهم أيضا من هذه الحلقة أوجد لديهم فارق في التعامل مع الإعلام عامة".
** قناعة عدم إلقاء اللوم:
في السابق كان يشغل ذهن آمنة الربيع هذا الهاجس.. لماذا الغياب؟! "شغلني الهاجس من واقع انخراطي في الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء، وحاليا في لجنة الأدب والإبداع بالنادي الثقافي.. ثم وصلت إلى قناعة عدم إلقاء اللوم على المؤسسة، وتصالحتُ مع هذا الأمر. لذلك أخذ الاهتمام بالهاجس يتراجع ويقلّ، ولهذا أسبابه الموضوعية على الأقل كما أراها عندي تتمثل في انشغالي بالتركيز على مشاريعي الإبداعية الصغيرة، كالدراسة الأكاديمية والنقد المتخصص وإبداع النص الدرامي". بينما وصف السلطي الواقع الثقافي العماني بالراكد، إلا ما رحم ربنا، "رغم التنوع الثقافي والأدبي الثري في السلطنة، إلا أن الجهات الرسمية المعنية لم تقم بواجبها على أكمل وجه، ففعالياتنا ومهرجاناتنا الثقافية والفنية دائما ما تكون في قفص الاتهام، فهي غالبا ما تأتي وتنتهي بالفشل في الجانب التنظيمي، الرد الجاهز دائما: "إنّ الموازنات المادية لا تكفي لأن يخرج المهرجان الثقافي أو الفني بنجاح"، ويضيف السلطي قائلا: "الأمر لا يزال يشكل ربكة لكل مثقف عماني، لهذا ابتعد المثقف عن الثقافة والإعلام بصورة خاصة".
** المؤسسة وزمام المال
ويعقد محمود الرحبي مقارنة لواقع حال المبدع إلى جوار اللاعب قائلا: "ما يعيشه أي لاعب متميز من اهتمام وبروز، يوازي في الميزان ما يعيشه المبدع العماني من تهميش وجحود". ويتابع مضيفا: "هنا لا نتحدث عن أفراد أو حالات، وإنما الحديث دائما عن وضع كيان ثقافي وخطط ثقافية.. فلنتصور مثلا عدم وجود مهرجان ثقافي في بلد عريق وراسخ كعمان، أعني مهرجان ثقافي صرف على غرار مهرجان المربد وقرطاج وأصيلة والقرين والجنادرية .. الخ، وغياب كذلك جوائز وطنية أدبية ونقدية. فغياب كل ذلك وما سواه يعني بالتأكيد غياب الفعاليات وغياب الحضور -حضور المثقف- وبالتأكيد يعني الغياب، العزوف، التقوقع والتلاشي.. فهل كل هذا مقصود في ذاته يا ترى؟ من هنا يجب أن يبدأ السؤال. خاصة ونحن نعلم يقينا بأن المؤسسة الرسمية هي من يمسك بزمام المال والقرار في بلادنا. بينما ترى آمنة الربيع أنّ للعزوف ما يبرره حسب وجهة نظر كل مبدع يرتئيها، ولا يجب إلقاء اللوم باستمرار على المؤسسة، "من واقع تجربتي المتواضعة رأيت أن المبدع قادر أن يُقيم علاقة سلبية أو جيدة، ضعيفة أو حسنة بالمؤسسة السياسية أو المدنية، من دون التضحية بما يملك من استقلالية في الرأي، ولديه المسؤولية الكاملة في اتخاذ القرار الذي يراه مناسبا".
** العصامي يصنع مجده
ويؤكد محمود الرحبي على أن الكاتب مبعد تماما عن إدارة الشأن الثقافي، وحتى وإن وجد فإن شروطا كثيرة تطوق رقبته، الأمر الذي ينفره من تفعيل أي شيء فيه. والأمثلة والأسماء كثيرة في هذا المجال وسيرد ذكرها في حينها لو اتقضى الحال.. "هذا الأمر ولد مع الوقت نوعا من العناد والتحارب البارد بين المؤسسات الثقافية - على قلتها وشحة مواردها- وبين الكاتب المتحقق والشغول. سأذكر مثالا عابرا هنا، ميزانية النادي بفعالياته وأنشطته هي مائة ألف ريال فقط حسب علمي، بينما تمّ الإعداد لندوة عابرة استمرت ثلاثة أيام حيث رصد لها قرابة الثلاثمائة ألف ريال."وليفد ما لم يقل" كما قال جدنا الجاحظ. لذلك ظل المبدع العماني -وخاصة المبدع في حقول الأدب- عصاميا بامتياز. وإذا تحقق وخرج اسمه وشاع فإن الفضل الأول والأخير يرجع إليه وحده. ويرى يحيى المنذري من خلال الاطلاع على مسيرة الملاحق والصفحات الثقافية خلال السنوات التي مضت أن قوة الملحق الثقافي تعتمد على صدق وثقافة المحرر، فكلما كان المحرر عميق الثقافة والموهبة وصادقا في عمله كان الملحق قويا من حيث مواده وإخراجه الفني وكان أيضا يشكل مساحة تجذب الكتّاب. وبما أن الصحف المحلية قليلة في البلد فإن الملاحق الثقافية قليلة، وبعض الصحف ليس لديها ملحق وإنما تعتمد على صفحة أو صفحتين في الداخل.
** المال والخطط المتخبطة
الجانب المادي بالنسبة لـ يحيى المنذري هو عامل مهم في استقطاب الكتّاب إلى جانب عوامل أخرى، "بعض الصحف تريد مادة كتابية فقط، ولا تريد أن تدفع مقابلا مجزيا للكاتب، وربما في بعض الأحيان تقول له يكفي بأن أنشر لك، وهي –الصحيفة- لا تفكر أبدا بأنها تجني أرباحا، ولا تنتبه إلى أن مادة ذلك الكاتب ساهمت في تلك الأرباح، ونحن نعرف بأن هناك بلدانا تُقدم احتراما كبيرا لوقت الكاتب، فتعطيه أجرا مجزيا على كتابته، لأن الكتابة عمل، والإبداع عمل، فبإمكان الكاتب عدم نشر إبداعاته في الصحف وسينشرها في كتاب يحمل اسمه لاحقا. وسابقا كتبت مقالا نشر في ملحق شرفات تحدثت فيه عن قيمة الكاتب العماني وتساءلتُ عن مدى تقدير الصحف المحلية للقلم العماني.. وأن أقصى ثمن للمكافأة يمكن أن تقدمها صحيفة أو مجلة محلية للعمود أو المقال أو القصة لا يتجاوز الثلاثين ريالا.. وما زلتُ عند رأيي، وأؤكد بأن عامل المقابل المادي مهم وعدم وجوده أو بخسه يساهم في ابتعاد الكاتب العماني عن الكتابة في الملاحق الثقافية".
ويرى محمود الرحبي أن المقابل المادي هو حق مشروع بل وتكريم للجهد والوقت والعذابات التي يدخل بها الكاتب لحظة كتابته.."ألا يستحق الكاتب التكريم؟"، ويتابع الرحبي قائلا: "ما نفعله هو الدفع للأقلام العربية المستأجرة والتي أجد الغث والتكرار في معظم ما يتناولونه حتى وإن كانت أسماء معروفة. وحكت لنا آمنة الربيع ما دار في إحدى الجلسات التي جمعت عددا من الكتّاب حيث تلفّظ أحد المسؤولين بفجاجة قائلا: "يكفي الملاحق والصحف أنّها تنشر لهؤولاء الكتّاب وكمان يبغوا مكافأة"!!! هذا كلام لا يصدر إلاّ عن ثقافة كُرست فضيلة المن والعطايا والهبات، وللأسف يُدرك المرء المنخرط في الثقافة بشكل عام أن تغيير هذه العقلية صعب كثيرا لأنها شكلّت نسقا راكمه أفكار ضعيفة وسلوكيات متعجرفة، بينما يؤكد خالد عثمان على ضرورة إعطاء الكاتب حقه قبل أن يجف قلمه، وتجف الصحف عن الإبداع.. "إن أول أسباب العزوف عن النشر في الملاحق الثقافية هو تلكؤ الجريدة في دفع أجر كاتب لأسباب واهية، والسبب الآخر هو تواضع هذا الأجر حيث لا يتعدى 10 ريالات للقصة/ الشعر، و20 ريالا للمقال.. هل هذا التعامل السلحفائي يثري الأدب ويرفعه؟ لو صرفت هذه الملاحق أجور الكتّاب بعد أسبوع من نشر المادة لوجدت عندها العشرات من المواد الإبداعية الراقية، ولما وسعت صفحاتها لها، ولكن الكسل يولد الكسل والشح يولد الشح والجفاف والركود والتراجع إلى ما بعد الصفر وإلى المربعات والنقاشات البيزنطية العقيمة، نقاش البيضة والدجاجة، كما إن هذه الملاحق في كل مرة تجدد قديمها دون أن تتطور في كل مرة تدور في الساقية نفسها، وجديدها قديم وقديمها جديد.. منذ أربعين السنة وأسئلة الأدب في عمان هي هي، لأننا لم نتجاوز أنفسنا، نبتعد عن الحقيقة دون ملامستها. الأدب برمته أول مشكلاته في عمان هو الدعم المالي وثانيها الاستراتيجيات المتخبطة والفوضوية وغياب الداعم الجاد والحقيقي له".
** خيبات ومواقف لا تنسى!
من جهة أخرى حدثتنا بدرية الوهيبية عن كم الاحباطات والخيبات التي قد يواجهها محرر الصفحات الثقافية، وقد ذكرت لنا مثالا حصل معها: "قمتُ باستطلاع استطلع فيه آراء المثقفين في شيء معين، وقد تفاجأتُ من أحد الكتّاب.. الكاتب يُرسل لي رأيا بعيدا عما طلبناه ودخل في مناطق يُدرك صعوبة نشرها، ويدرك أنها لا تمت للموضوع بصلة فكان من باب أولى عدم نشر رأيه لسبب رئيسي لأنه ليس المطلوب والسبب الآخر ما زال معلقا في عنق حرية الصحافة المسؤولة، فاتصل يؤنبني لماذا لم ينشر رأيه وأنه عار علينا كمثقفين أن نغتال الكلمة والحرية، فشعرتُ أنّه كان يريد الإيقاع بنا لا أكثر حسب نظرية المؤامرة.. البعض يشعرك بذلك فعلا.. هذا وأمثاله أقسم بعدم النشر في صحافتنا واتجه إلى المواقع الالكترونية والمدونات وهو حر في ذلك".
خميس السلطي أخبرنا أنه لن ينسَ تلك العبارة التي قالها أحد الزملاء المثقفين عندما أراد أن يجري معه حوارا حول ما يجري من أحداث، وقتها ردّ عليه غاضبا: "يجب ألا نتعامل مع أي صحيفة في عُمان، أنتم مضللون وغير صادقين مع أنفسكم ومن الأجدر أن نقاطع صحفكم المطبلة في نقلها للوقائع".. هذه العبارة لا تزال عالقة في مسامع السلطي إلى اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق