(1)
صاحبة المقهى ترقص
بعد ساعة من الآن سأحضر عرض مسرحي . جلست في مقهى الجامعة ، كانت صاحبة المقهى ترقص ، والموسيقى تبهج المكان، وقبل أن أهم بالكتابة تناولت بالخطأ قلم السكر بدلا من قلم الحبر ، وسرعان ما إنتبهت بأن قلم السكر للقهوة وليس للكتابة. كان المقهى يقع داخل إستراحة الجامعة الاسترالية ، وكان مملوءا بالطلبة وهناك معرضا للبوسترات واللافتات ونسخ من لوحات فنية شهيرة. وبلذة لا توصف أحتسي الكافي لاتيه، أحدق في عالم الطلبة المختلف تماما عن عالمهم في عُمان ، صاحبة المقهى مستمرة في الرقص أثناء إعدادها للمشروبات والأكلات ، وكان هناك إثنان من الطلبة يقومان بمساعدتها ، أتمعن في الوجوه من حولي وأجد بعضها –ومعظمها من الهند- يتشابه مع بعض أقربائي وأصدقائي في عُمان. وهناك في طاولة ليست ببعيدة عني كانت فتاة تجلس وتتكلم في هاتفها النقال. اكتشفت بأنها تشبهني. سمعت لهجتها الهندية. تذكرت بأنني رأيتها في حفل راقص على مسرح الجامعة. كانت ترقص وتغني بمهارة فائقة. الآن تذكرت بأنني وأثناء مشاهدتي لعرضها أحسست بشيء تجاهها لكنني لم أكتشفه. وها أنا اليوم أكتشف بأن هذه الفتاة تشبهني وربما يكون هو سبب إنجذابي لها وقت أن شاهدتها ترقص. كنت أحدق في هيئتها وهي تتكلم عبر هاتفها النقال وفجأة تلاقت عيوننا. لكنها سرعان ما نكست رأسها. هل أنهض واتجه إليها وأسالها إن كانت تعرفني أو تُشّبِهُني بأحد ما؟ ثم أضيف لها نقطة مهمة وهي أنها ربما تكون أختي وقد فرقتنا ظروف صعبة وها نحن نجتمع صدفة وفي بلد بعيد. ضحكت من هذا الخيال الساذج وتذكرت الأفلام الهندية. إنتهيت من الكافي لاتيه ثم التفت لأكمل مشاهدتها فوجدتها قد غادرت المقهي. إتجهت بنظري إلى صاحبة المقهى النشيطة ، لأجد مساعديها إنضما إليها في الرقص مشكلين بذلك جوقة راقصة تبهج الجالسين. نظرت لساعتي ووجدت بأن موعد العرض المسرحي يقترب.
(2)
القطار السريع يرقص
بعد أن إبتلعت البوابة الآلية لمحطة القطارات البطاقة فُتح الباب الحديدي ، فدخلت بسرعة وسحبت بطاقتي بعد أن لفظتها الآلة من الجهة الأخرى ، كانت المحطة مزدحمة بالناس الذين ينتظرون وصول قطاراتهم ، الشاشة الإلكترونية تشير إلى أنه لم يبق سوى دقيقتين ويأتي القطار الذي أنتظره ، قطارات كثيرة تأتي وتروح ، أفواج من الناس تصل وأفواج أخرى تغادر. حركة دؤوبة بالحياة فهناك دخول وخروج ، خروج ودخول ، قطارات تلتهم وتلفظ البشر، قطارات تَرقُص وتُرقّص معها زبائنها.
دخلت إلى القطار المزدحم ولم أجد مقعدا شاغرا فوقفت مع الواقفين وأحسست أن الهواء بدأ ينقص، ومثل كل مرة وحتى لا يقع أحد الركاب الواقفين تركوا أياديهم ملتصقة بقضيب حديدي لونه أصفر مثبت في سقف القطار. وإلتفت أصابع يدي اليمنى على الحديد وباليد الأخرى أمسكت بحقيبتي المحملة بالكتب. وسرعان ما اكتشفت بأن يدي تجاور يد إمراة عجوز، وعندما إنعطف القطار يمينا تخيلته يؤدي رقصة ما أحدثت إرتجاجا أدى إلى إهتزاز جميع الاجساد ، فمالت يدها ناحية يدي ولامستها. وعلى الفور أبعدت يدي. وعند توقف القطار في المحطة التالية خرجت اليد العجوز، ودخلت فتاتان ، إحداها مدت يدها اليمنى وأمسكت بالحديد ، صارت يدها بجانب يدي، سرت حرارة في جسدي ، وتحرك القطار فتدفق الهواء بكثرة وبلطف.
ووسط الأيادي الكثيرة والملونة كانت اليدان بجانب بعضهما لكنهما لا تتلامسان.. يدان مختلفتان لا تتعارفان بينهما مسافة قصيرة جدا، يد خشنة وأخرى ناعمة ، يد سمراء وأخرى حمراء ، وعند منعطف حاد إهتز وسط القطار بقوة فتلاشت المسافة واندفعت يدي تجاه يدها ولامستها عن غير قصد ، وبسرعة خاطفة إبتعدت اليد الناعمة، ولكن في تلك الفترة السريعة جدا فإن نعومتها إختلطت مع خشونة يدي.. وشعرت بأن ألفة تكونت بين اليدين، لكن لم يلاحظها أحد.
ويا لهذا القطار فهو بخيل ، لأنه لم ينعطف مرة أخرى ولم يؤدي رقصته الشهيرة ، ويدي كانت متعطشة لتداخل آخر ، ومما زاد الأمر سوءا هو توقف القطار في أحد المحطات مما أدى ذلك إلى إختفاء اليد الناعمة، فقد حملتها الفتاة ونزلت. وعند نزولها أمسكت بيد صاحبتها ومشتا داخل المحطة وبينما القطار يتأهب في الانطلاق إلى المحطة التالية تابعتهما بنظراتي حتى فاحت حميمية لا توصف بينهما أدت إلى أن ما حدث من تلامس وألفة تلاشى وذاب.
ورحل القطار ، والحديد الأصفر ظل ثابتا ومتماسكا ومساندا للأيادي المتنوعة .. وأتت أيادي أخرى بجانب يدي التي ما زالت متشبثة به.
(3)
فتاة الألوان ترقص
في الفصل الأخير من المسرحية انتشرت الموسيقى. أدت الفتاة دورها البسيط ونزلت من على المسرح ووقفت أمامنا. الأضواء تماوجت في جوف القاعة حتى حضنت جسدها الممتليء. الممثلون الآخرون أشعلوا نار الصخب في كل جوانب المسرح. خلعت هي ملابسها العلوية. إنطلق نهداها البضان يرفرفان في هواء القاعة وكأنها أطلقت حمامتان من قفصيهما. تناولت بفرح أوراقا بيضاء وألوانا مائية ، وبرقة متناهية وضعت الورقة الأولى على المسرح. غمست نهديها في الألوان المختلفة ثم ألصقتهن على الورقة لترسم بذلك لوحتها النادرة. الورقة ابتهجت والممثلين ازدادوا صخبا داخل المسرح ، بينما تشبث الجمهور بالصمت والتأمل.
واصلت الرسم بالفاكهتين ، بل بالفرشاتين الراقصتين مع الموسيقى الصاخبة. وجاءت بورقة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة .... وصارت الاوراق لوحات مجنونة مفعمة بالحب، والألوان ما زالت تتقاطر كالعسل من التفاحتين.
أخذ صوت الموسيقى يتناقص تدريجيا وحينها أخذت هي اللوحات ووزعتها على الجمهور ، بينما الألوان تقطر من منبعين غامضين يأسران الأفواه.
وكان المسرح وكانت هي وكنت أنا غارقا في الدهشة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق