الجمعة، 7 أغسطس 2009

مقال جميل للدكتور سليمان العسكري عن نجيب محفوظ نشر في مجلة العربي - العدد 529 ديسمبر 2002



محفوظ.. القيمة.. والقيم

سليمان إبراهيم العسكري



يخبرنا تاريخ الحضارة الإنسانية: أن التطور الحقيقي للأمم لم يصنعه جنرالات وقادة الحروب, بل صنعه ويصنعه المبدعون من أبنائها, كتّابا وفنانين وعلماء ومخترعين ومبتكرين. وفي هذا الشهر تحل ذكرى الميلاد الثانية والتسعون لقمة من قمم المبدعين العرب, نحتفل به لا لمجرد الاحتفاء بهذه القمة, بل تكريساً لقيم رائعة وفريدة في زماننا العربي, تألقت في مسيرة حياة صاحبها الإنسان.. نجيب محفوظ.
صار عمله - الكتابة - جزءا من إيقاعه الحيوي اليومي.. يُسعده.. ويسعد به الآخرون
تواضعه وبساطته طريقة عبقرية لتحرير النفس مما هو عابر وتافه للتفرغ لما هو أعمق وأبقى
لقد أردت تأصيل مفهوم القيمة وأنا أنوي الحديث عن نجيب محفوظ لمناسبة ذكرى ميلاده الثانية والتسعين, فوجدت غابة مشتبكة الأغصان في (إشكالية القيمة) في المباحث الفلسفية, وذكرني ذلك بأن نجيب محفوظ هو تلميذ للفلسفة. ومن الطريف أنه عند التحاقه بكلية الآداب, وأثناء الاختبار الذي كان يجرى للمتقدمين بعد اختيارهم للفرع الذي يريدون التخصص فيه, فوجئ نجيب محفوظ أن الممتحن هو طه حسين, وسأله طه حسين: (لماذا اخترت قسم الفلسفة?). أجابه نجيب بأنه يرغب في معرفة سر الكون وأسرار الوجود. أصغى عميد الأدب العربي جيدا لطالب الآداب المستجد حينذاك, ثم قال ساخراً: (أنت جدير بالفلسفة فعلاً لأنك تقول كلاماً غير مفهوم).
كانت تلك دعابة من عميد الأدب العربي لطالب شاب يلتحق بأحد أقسام الكلية التي يشغل قمة عمادتها, لكن الدعابة كانت تتضمن إشارة نقدية يقع فيها بعض المتفلسفين عندما (يُعتمون المضيء ويُشكلون الواضح). ولعلها كانت إيماءة من عميد الأدب العربي للطالب نجيب محفوظ حتى يوغل في الأمر بلين ولا يستبق المعرفة بغير معرفة.
وهي إيماءة تطفو على سطح ذكريات نجيب محفوظ, وتقترب منّا ونحن نشرع في الحديث عن هذا الرجل (القيمة) بأجلى معاني هذه الكلمة, وبأعمق مفاهيمها الفلسفية أيضا.
والقيمة تعتبر اصطلاحا فلسفيا حديثا اتخذ من الفكر المعاصر كدلالة متخصصة تعبر عن ميدان محدد هو (فلسفة القيم). وتعود ملامح بحث إشكالية القيمة في البدء إلى الفيلسوف (كانت) - أو (كانط) - وإن كان الفيلسوف (نيتشه) هو الذي دشن طريق فلسفة القيمة وفض ملغزاتها.
ومن أوضح ما وجدنا في (فلسفة) القيمة القول بأن القيمة عندما ترتبط بصفة الشخصية تضفي مقامها على الشخص فترفعه وترتفع به من التميز العام عن بقية الناس إلى العبقرية وغيرها من حالات كسر القيمة المألوف والشائع والمتواضع عليه بوصفها حدودا قصوى في سلم التميز القيمي.
هذا حديث يقترب كثيرا مما أود قوله عن نجيب محفوظ كقيمة في حياتنا العربية, لا الثقافية وحسب, بل الإنسانية في عمومها. لكن هناك أطرا تعبيرية قد تكون متاحة أكثر وقريبة المنال, وربما أكثر بلاغة.
في اللغة العربية اشتقت كلمة (القيمة) من فعل (قام) فكأنها نهوض ينقل موضوع هذه القيمة إلى حالة الاستقامة والاستواء, وهي كفعل يتمتع بقوة تحملها الصحة والفعالية والتأثير. وعلى ألسنة الناس عندما يقال إن (الرجل قيمة) فإن المعنى تتسع جوانبه ليكون القصد هو علو مقام الشخص وفاعليته بين الناس.
ونجيب محفوظ بهذا المعنى - كان ولايزال - قيمة رفيعة, بكل هذه المعاني المتاحة, وبعيدة المنال على السواء. وليس مجال هذه المداخلة في تحية كاتبنا الكبير هنا أن نتوقف عند قيمته الأدبية الرفيعة والتي هي بلا شك ذات مستوى عالمي في علوها قبل حصوله على جائزة نوبل وبعد حصوله عليها. فللتقييم والنقد الأدبيين أهلهما ومكانهما, لكنني أود التوقف هنا أمام قيمته كظاهرة إنسانية مبدعة في مجتمعنا العربي المعاصر, كإنسان حقيقي يحترم وجوده في رحلة الحياة على الأرض ليعطي أفضل ما عنده, فيبلغ بهذا العطاء الذروة, ذروة الإبداع في مجاله الأدبي, وذروة الرقي في تفاعله ككائن اجتماعي مع محيطه.
وما كان نجيب محفوظ أن يبلغ هذه (القيمة) إلا عبر مجموعة من القيم اصطفاها لنفسه ودربها عليها حتى أصبحت دالة على وجوده.
وهي دلالة ينبغي أن نكرّس الانتباه لمفرداتها, لأنها جديرة بأن تكون نموذجا يحتذى للأداء الذي تفتقد مجتمعاتنا العربية الكثير من جوانبه, سواء على مستوى العامة أو النخبة من أبناء مجتمعنا. ولا أزعم أنني سأحيط بكل هذه المفردات القيمية والسلوكية لأديبنا (القيمة), لكنني أطمح إلى التوقف عند أبرزها.
العمل.. العمل.. العمل
يقول نجيب محفوظ في الإجابة عن سؤال يتضمن بعضا من المديح: (والله ما شعرت بها - العبقرية - لا في أول عمري ولا في آخر عمري, إنما شعرت بأني رجل مجتهد ومثابر وشغال ومحب لعملي وأعشقه, هذا ما أستطيع أن أحدثك عنه كأشياء ملموسة موضوعية, فأنا أحب العمل أكثر من حبي لثمرته, ويعني إن جاء لي بالمجد والفلوس.. أحبه, وإن جاء لي بالفقر أحبه, وإن لم يأت بشيء حتى الفقر, أيضا أحبه).
لم يكن هذا الحديث لنجيب محفوظ مجرد إجابة - لزوم ما يلزم - عن سؤال وجه إليه, ولم يكن ادعاء للتواضع, فالرجل لا شك في تواضعه المشبع بالكبرياء الجميل, والذي يستحق مداخلة متفردة, بل كان حديث صدق يشهد عليه أداء مرصود ومشهود استمر - فيما يعلم الجميع - لأكثر من سبعة عقود, ولايزال.
فهو الذي وُلد في حي الجمالية بمنطقة القاهرة الفاطمية في 11 ديسمبر 1911م وبدأ الكتابة في الصحف المصرية منذ سنة 1928م, وصدرت له أول مجموعة قصصية هي (همس الجنون) عام 1928م, ثم أبدع أولى رواياته (عبث الأقدار) عام 1935, ولم تكتب عنه إشارة نقدية واحدة حتى جاء المقال النقدي الأول في العام 1944م وكان شديد الحماس لفنه الروائي, كتبه الناقد الأدبي - آنذاك - الأستاذ سيد قطب ونشر في مجلة (الرسالة) المصرية, ومما جاء في مقال سيد قطب عن رواية نجيب محفوظ (كفاح طيبة): (لو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه القصة في يد كل فتى وفتاة, ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان, ولأقمت لصاحبها - الذي لا أعرفه - حفلة من حفلات التكريم)
إذن, ظل نجيب محفوظ يكتب - يعمل - لأكثر من ستة عشر عاما دون أن يجد من يلتفت إلى قيمة عمله, ومع ذلك لم ييأس, أو يتذمر أو يتوقف, كالكثيرين غيره, فقد كان العمل الأدبي مشروع حياته, بل حياته كلها, أحب عمله, فأحبه عمله, وصعدا معا سلم الإجادة والارتقاء والتكريم حتى كانت الذروة - في عرف كثير من الناس وفي عُرف العالم لكنه لا أظن في عرفه هو - يوم الخميس 13 أكتوبر 1988م وهو (اليوم الذي أعلنت الأكاديمية السويدية في الساعة الثانية بعد الظهر بتوقيت القاهرة اختيار نجيب محفوظ من بين مائة وخمسين مرشحا لمنحه جائزة نوبل في الآداب).
ولم يتوقف نجيب محفوظ عن دأبه في إرواء شجرة العمل, بل استمر, واستمر حتى بعد الاعتداء الآثم (محاولة اغتياله) الذي وقع عليه في أكتوبر عام 1994م وتسبب في إعطاب يده اليمنى التي يكتب بها, لم يكف نجيب محفوظ عن عشق عمله (الكتابة) فلم يتوان في تدريب يده على العودة إلى الكتابة. ومن اللمحات الجميلة الخاصة به والمؤثرة وبالغة الدلالة, تلك اللمحة التي حكى عنها أكثر من كاتب من أصدقاء نجيب محفوظ عن فرحته الشديدة بأنه عاد يكتب بيده دون أن (ينزل عن السطر).
والآن وهو يدلف إلى عامه الثاني والتسعين من عمره لايزال يكتب وتنشر له قصص قصيرة بديعة بعنوان (أحلام فترة النقاهة) التي يستقي مادتها من أحلامه الشخصية, وقد علق في تصريح أخير ضمن حديث لجريدة (نيويورك تايمز) الأمريكية: (إن الكاتب لا بد أن يجلس يوميا للكتابة حتى وإن كتب أي شيء).
لقد صار عمله - الكتابة - جزءا من إيقاعه اليومي, الذي يسعده هو نفسه فيسعد به الآخرون, وكان حبه ذاك للعمل لصيقاً بمفردة أخرى قرينة لإنجاح هذا الحب.


احترام أمانة الوقت
لقد قدم نجيب محفوظ للأدب العربي الحديث أكثر من 35 رواية ونحو 15 مجموعة قصصية وعددا من سيناريوهات الأفلام العربية الجميلة, وعددا أكبر من مقالات الرأي, وما يصعب احصاؤه من الأحاديث المضيئة لبعض جوانب إبداعه وآرائه في شتى المجالات التي تعنيه وتعني الناس. ولم ينقطع في ذلك كله - وحتى اليوم - عن الوجود بين الناس خاصة الأصدقاء والأدباء. ومازالت ندواته عامرة على ضفاف النيل وبين جوانح القاهرة. وهذا كله شيء كثير لا يمكن تفسيره وتبريره بطول عمر الرجل الكبير, لكن التفسير والتبرير والتقدير الأعمق هو لعنصر احترام الوقت, احتراما يوشك برغم قياسه بساعات البشر أن يكون احتراما روحيا خالصا كأمانة أودعها الله بين يدي الإنسان.
يقول نجيب محفوظ عن نفسه: (نعم أنا منظم, والسبب في ذلك بسيط, إذ عشت عمري كموظف, وأديب, ولو لم أكن موظفا لما كنت اتخذت النظام بعين الاعتبار, كنت فعلت ما أشاء وفي أي ساعة أشاء, لكنني في هذه الحالة كان علي أن أستيقظ في ساعة معينة, ويبقى لي من اليوم ساعات معينة, فإن لم أنظم هذا اليوم فسأفقد السيطرة عليه, لقد عودت نفسي على ساعات معينة للكتابة, وفي البداية كانت روحي تستجيب أحيانا وأحيانا لا, لكنني مع الزمن اعتدت ذلك... إنني أكتب عادة مع الغروب, ولا أذكر أنني كتبت أكثر من ثلاث ساعات, وفي المتوسط لمدة ساعتين. أشرب في اليوم الواحدة خمسة فناجين قهوة وأسهر حتى الثانية عشرة ليلا, وأكتفي بخمس ساعات نوم).
بالطبع ليست الوظيفة وحدها هي سبب تنظيم نجيب محفوظ لوقته الثمين, فكم من الموظفين يحترفون إهدار وقتهم ووقت الناس في عالمنا العربي حتى أصبحت ظاهرة إضاعة الوقت والإهمال في إنجاز العمل سمة بارزة من سمات التخلف العربي. ليست الوظيفة, لكنه الموظف النادر المبدع بعيد النظر والمخلص للمشروع الذي كرّس له حياته, نجيب محفوظ الذي حول نقمة الوظيفة إلى نعمة, وهو درس بليغ ليس في مجال تنظيم الإبداع وعمل المبدعين وحدهم, بل في كل مجالات حياتنا التي هددها ويهددها عبث الاستهانة بالوقت, الوقت الذي لا يعني دقة المواعيد فقط, بل الأمانة في دقة الأداء أيضاً, وهو ما قدمه - ولايزال - نجيب محفوظ الذي أتمنى أن نضبط مواعيدنا على دقة ساعته الإنسانية الفريدة, والمؤمنة بأن الوقت بين أيدينا أمانة كأثمن الأمانات.


الحرية عبر البساطة...
يقول نجيب محفوظ: (اتصلت علاقتي بالأستاذ يحيى حقي, أديبا بأديب, بل إلى ما هو أعمق من ذلك على المستوى الإنساني, وإن كنت كموظف ملتزم أقوم لتحيته إذا أقبل, وإن كان هو قد أنكر ذلك السلوك مني باعتباري أديباً كبيراً كما كان يقول, ولكنني كموظف أعطي الوظيفة حقها, فهو مديري, يعني مديري رغم الصداقة والعلاقة الإنسانية, لكنه حين يأتي لابد من الوقوف تحية له, لا أعرف غير ذلك سلوكا من موظف نحو رئيسه حتى لو كانت صداقتي به تبرر لي أن أعامله بغير ذلك, لكنني كنت أقوم له كنوع من التحية وأدب الوظيفة).
هذا الحديث لنجيب محفوظ عن يحيى حقي إذا ما أُخذ بعين السطحية والغرور قد يُستنكر, لكن الغوص فيه قليلا - على خلفية ما نعرفه عن أن نجيب محفوظ لم يفرط في كرامته يوما, ولم تنقصه الشجاعة أبدا في التعبير عن رأي يعتقده, بل في أداء واجب تحيطه الخطورة مثلما حدث عندما أصرّ على زيارة الأستاذ سيد قطب في أعقاب خروجه من سجنه الأول, يدفعنا لليقين في أن تواضع نجيب محفوظ لم يكن إلا تجليّا لنفس غنية وروح نظيفة على المستوى المعنوي, أما على المستوى العملي المادي, فقد كان هذا التواضع طريقة إنسانية فريدة في تفسير تواضع نجيب محفوظ وهو تفسير عبقري في عمقه,. يقول عنه يحيى حقي: (ليس في نجيب محفوظ ذرة واحدة من طبائع الموظفين, ليس في حياته كلها سعي وراء درجة أو علاوة أو افتتان ببريق السلطة أو أبهة المنصب, ولا تستغرب إذا قلت لك إنه - مع ذلك - موظف مثالي, لم يحدث له أن تأخر عن الوصول إلى مكتبه دقيقة واحدة بعد دقة الساعة معلنة الثامنة صباحا, كان هذا رأيه حتى وهو يشغل المنصب الرفيع كمدير لمؤسسة دعم السينما. إنه يفعل ذلك لأنه حريص على أداء واجبه وأن يكون قدوة لغيره, بل - وهذه هي الحقيقة - إنه يبعد عن نفسه وجع الدماغ ليفرغ لفنه).
هذا التواضع الهادف لتحرير الذات وادخار الطاقة للجهد الأهم, العمل, والعشق - الكتابة - أكمله نجيب محفوظ بمفردة أخرى لازمة ومهمة ومكملة لهذا السعي النبيل لتحرير الذات, وهي البعد عن المظاهر والتنائي عما لا يفيد إفادة توازي الجهد المبذول, فنجيب لا يرتدي ربطة عنق ويهدي ما يهدى إليه منها لأحبائه, وهو لم يمتلك سيارة في حياته ويسكن في شقة بالإيجار في الطابق الأول من عمارة بشارع النيل, وعدا ندواته الشخصية الحرّة مع أصدقائه لم يعرف عنه أنه حضر ندوة أو مؤتمراً أدبيا أو مهرجاناً أو لبى دعوة لمؤتمر أو ندوة خارج مصر ولم يطرق أبواب الصالونات أو المنتديات الأدبية أو السياسية. إنه مدخر عظيم وحكيم يعرف أولوياته في رحلة حياة قصيرة - قصر عمر الإنسان - مهما طالت, وعلى درب الادخار والحكمة هذا تتوالى الخصائص والقيم الإبداعية لنجيب محفوظ.


التسامح دون تنازل
ولعل سلوك نجيب محفوظ في الاتفاق والاختلاف يكون نموذجاً عربياً فريداً - يستحق أن يحتذى - لا يقدر عليه إلا من رحم ربي, ومَن روّض النفس ترويضا رفيع المستوى إلى درجة مذهلة حتى مع الخصوم. ففي أحد مقالاته كتب الناقد رجاء النقاش عام 1969 ما يرد به على سؤال: (هل أصبح نجيب محفوظ عقبة في طريق الرواية العربية?) وأثار المقال حفيظة بعض الروائيين الشبّان وظهرت تعليقات عدة عليه هاجموا فيها رجاء النقاش مما اضطره للرد بقسوة, وبرغم أن الناقد كان ينتصر لنجيب محفوظ إلا أن نجيب نفسه عاتبه بلغة مهذبة رقيقة عندما التقاه فيما بعد قائلا له: (لم أتعوّد أن أقرأ لك كلمات قاسية, ولكن مقالك الأخير كان عنيفاً, وما كنت أود منك أن تقف هذا الموقف).
ظل نجيب محفوظ - عبر حياته الفكرية الطويلة - تجسيداً حيّاً لمبدأ الترحيب بالاختلاف وقبول الرأي الآخر. ومن المرات القليلة التي اضطر للرد فيها على رأي يخالفه كان ذلك مع عباس محمود العقاد, وهذا مما يؤكد شجاعة نجيب محفوظ فيما يعتقد أنه الحق, فهو متسامح النفس ويحترم من يخالفه الرأي, نعم, لكنه لا يتخاذل في الدفاع عما يراه صحيحا. والمتابع لأدب نجيب محفوظ يقف على هذا المبدأ, ويجده واضحاً في كل آرائه الواردة في رواياته, حتى في أحلك فترات الحجر على حرية الرأي والإبداع.
لقد كتب عباس محمود العقاد مقالاً بمجلة (الرسالة) المصرية لصاحبها أحمد حسن الزيات عام 1945 سخّف فيه كتابة القصة واتهم كتّابها بأنهم كسالى. فردّ عليه نجيب محفوظ فيما بعد - بعد أن كان قد حسم أمره ككاتب قصصي - وكان رد نجيب الشاب على العقاد الجبّار - في ذلك الوقت - محكما حتى أن العقاد لم يرد عليه على غير عادته في عدم تفويت فرصة لمختلف معه في الرأي.
ولم يترك هذا الخلاف في نفس نجيب محفوظ الصافية أي شوائب للعداء, إذ ظل يضع العقاد في موضع عال من الحب والتقدير فيقول عنه: (أحببت العقاد حبا يفوق كل وصف) أما العقاد نفسه فكان - على حبه للمعارك الأدبية والفكرية - نموذجاً آخر للترفّع عن الأحقاد في مواجهة الحق والحقيقة. وقد رشح العقاد نجيب محفوظ (الروائي) لجائزة نوبل مؤكدا استحقاقه لها مرتين, الأولى نشرتها الصحف والثانية أذاعها التلفزيون. ففي عدد جريدة الأخبار يوم 31/10/1962م قال العقاد: (الآن يحق لنا أن نقول: إذا كانت المسألة مسألة بحث بعد مجهود, فلماذا يقف هذا البحث دون البلاد العربية من أمم العالمين فلا تهتدي لجنة (لجنة جائزة نوبل) ولا تريد أن تهتدي إلى واحد منهم, وهم على هذه الطبقة غير قليلين. إنني أذكر منهم أربعة) وكان نجيب محفوظ أحد هؤلاء الأربعة الذين قطع العقاد في استحقاقهم لجائزة نوبل. وكرر العقاد ذلك الترشيح في الحديث الذي أذاعه التلفزيون المصري قبل وفاته بوقت قليل.
وبعد ربع قرن من ذلك الترشيح تحققت نبوءة العقاد وفاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل كأول أديب عربي يحظى بها عن استحقاق وجدارة.
إسهام كبير... في الحياة
لقد أسس نجيب محفوظ لأمته العربية مدينة رائدة وعامرة للرواية العربية ذات المستوى العالمي, وهو أمر ملحوظ ومشهود ومرصود من الكافة, أما العمارة التي شيّدها نجيب بموازاة ذلك, وهي جديرة بأن نتمثلها ونزورها قلبيا وروحيا بصفة مستمرة, وجديرة بأن تسكننا ونسكنها, فهي القيم التي أعلاها بسلوكه الفريد العنيد - دون عنف - قيم احترام العمل, والدأب, والمثابرة, وصيانة أمانة الوقت, وإعلاء قيم التسامح وحسن الحوار, والزهد والتواضع والبعد عن المظاهر الفارغة... كل ذلك بروح صافية ونفس راضية ذات دعابة راقية ذكية.
إننا إذ نحتفل ببلوغ نجيب محفوظ عامه الثاني والتسعين من عمره الكريم, نهنئه, ونهنئ أنفسنا كعرب بهذا النموذج العربي الماثل بيننا, ولعلها فرصة نتدبر فيها أداء هذا المثال, لعله يكون اقتراحاً لطريق خروج المواطن العربي الفرد من مأزق التخلف العربي, وبرهانا عمليا على أننا نستطيع ذلك مثلما استطاع نجيب محفوظ... لو شئنا

سليمان إبراهيم العسكري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق