مقال مهم جدا للكاتب والناقد عبدالله خميس
قد لا تكون المقارنة مع الدراما التي تنتجها البلدان العربية ضرورية ليدرك المرء أن الدراما العمانية تراوح مكانها منذ سنوات عديدة. ما تحتاج إليه الدراما التليفزيونية العمانية لتتطور، أولا وقبل كل شيء، هو معرفة مكامن العيوب فيها والاعتراف بها.
تعيد الأعمال الدرامية التليفزيونية المحلية في شهر رمضان من كل عام طرح نفس التساؤلات والملاحظات عن هموم هذه الدراما ومشاكلها، وعن معوقات تطورها وأسباب بقائها متخلفة جماليا في مستواها العام عن الدراما المقدمة في بلدان الجوار وبقية البلاد العربية. قد لا تكون المقارنة مع الدراما التي تنتجها البلدان العربية ضرورية ليدرك المرء أن الدراما العمانية تراوح مكانها منذ سنوات عديدة، وحقا أجد أنه لا حاجة ملحة لنفكر في الجيد من المسلسلات السورية أو المصرية مثلا لنكتشف أن الأعمال التليفزيونية المحلية تعاني من جملة من المشاكل ترتبط بالنص والمضمون والتمثيل والإخراج تجعلها دراما متواضعة فنيا وغير جذابة للمشاهد، إذ يكفي تحليل مكوناتها الفنية لنرى نقاط الضعف الكثيرة التي تعتريها. إلا أن الجمهور هم من يلجؤون عادةً إلى المقارنة وهو حق مكفول لهم طالما كانت المقارنة في محلها بين عنصرين متجانسين تصح المقارنة بينهما.
تعد المقارنة بين الدراما التليفزيونية المحلية ودراما بلدان الخليج العربي مبررة، بل إنها تعمل على تبيان نقاط القوة والضعف في أعمالنا الدرامية. وما يجعل هذه المقارنة بيننا وبين بقية دول الخليج العربي مقبولة هو أن هذه البلدان لا تختلف ظروفها السياسية والاجتماعية والمدنية كثيرا عن ظروفنا، والدراما التي تنتجها هذه البلدان هي صناعة حديثة ولها نفس عمر تجربتنا المحلية من الدراما التليفزيونية، وتخاطب هذه الدراما نفس الجمهور الخليجي لأن كل مسلسل خليجي لديه فرصة المتابعة في بقية بلدان الخليج الأخرى. تقود المقارنة بين مسلسل عماني مثل "درايش 3" ومسلسل سعودي مثل "طاش ما طاش 16" إلى تفوق كفة الأخير كثيرا سواء من ناحية حُسن صياغة النص وجودة بنيان القصة، أو من ناحية المضمون النقدي الجرئ والعميق، أو من ناحية التمثيل، وكذلك من ناحية جرعة الكوميديا المقدمة. كما أن "درايش 3" لا يصمد كثيرا أمام مسلسل منفصل الحلقات مثل الإماراتي "حاير طاير" لنفس الأسباب المذكورة أعلاه، ونضيف إليها في "حاير طاير" جودة الديكور وكارزميّة شخصية الفنان جابر نغموش. إن هذه المقارنة لا تعني بالضرورة أن كل حلقة من "طاش ما طاش 16" و "حاير طاير" هي أفضل من أي حلقة كانت من "درايش 3"، فهذه الأعمال لها أيضا جوانب ضعفها في بعض حلقاتها، ولكنه توصيف إجمالي عام يَصِفُ المحصلة النهائية للمقارنة، كما أن هذه المقارنة لا تعني مطلقا أن "درايش 3" يخلو تماما من العناصر الجيدة اللافتة للإهتمام. أما إذا سقنا مقارنة بين المسلسل الدرامي المحلي غير الكوميدي "الغريقة" وبين المسلسل القطري "قلوب للإيجار" فإن المقارنة في نهاية المطاف ستنتهي بصفة عامة لصالح المسلسل القطري الذي سيتفوق أولا وقبل كل شيء في بصمة الاحتراف التي تعطيه خصوصيته، فهو مُنفّذ بواسطة فريق عمل يعرف جيدا ماذا يفعل، وتكفي الإضاءة الخلاقة للمسلسل وحركة الكاميرا وزوايا التصوير كنماذج للتنفيذ المحترف للمسلسل، وذلك فضلا عن أهمية الموضوع المطروح وكيفية طرحه (أزمة السكن وغلاء الإيجارات). إن "طاش ما طاش16" و "حاير طاير" و "قلوب للإيجار" هي أعمال فنية صنعتها دول الجوار التي تتشابه معنا في حداثة دخول فن الدراما التليفزيونية إليها كما تتشابه معنا في الكثير من الأشياء مثل صرامة الرقابة وقلة عدد الأعمال الدرامية المنتَجة في السنة الواحدة وعدم احتراف الفنانين (من حيث كونهم غير متفرغين تماما للتمثيل) والاستعانة أحيانا بمخرجين من بقية البلدان العربية.. إلا أنه وبرغم جميع نقاط الالتقاء تلك فإن الدراما العمانية في المجمل هي الأقل جودة في عناصرها الفنية المختلفة بين هذه الدرامات، فأين تكمن المشكلة؟
إن نظرة قريبة على مجمل الدراما التليفزيونية العمانية تعطينا الملامح التالية التي يعتبر كلا منها مؤشرا على مشكلة في مجال من المجالات:
* النص:
1 ـ لا يوجد إلا قلة قليلة من الكتاب المحترفين (أو شبه المحترفين) الذين يكتبون الدراما العمانية، وما يجعل هؤلاء المحترفين محترفين هو استمراريتهم في الكتابة الدرامية لعدة سنوات، والاستمرارية هي إحدى عناصر الاحتراف. إلا أن قدرات هؤلاء في خلق الشخصيات وصنع بناء درامي محكم هي قدرات متواضعة. كما أن منهم ذوو الآفاق المحدودة في الرؤية، فهؤلاء لا يطرحون الجديد ولا يَشْخَصُون بأبصارهم بعيدا في تشريح الواقع ومحاولة فهمه. كثير منهم من يقف عند عتبة "الوصف" للواقع دون التحليل أو الاستشراف أو محاولة النبش. أما السيئ حقا فإن منهم من لا يعالج الواقع أصلا ويأتي بواقع آخر متخيل لا علاقة له بحياة الناس محاولا قسرا أن يُلبِس شخصياته لُبوس العمانيين، وتكون النتيجة أن ينصرف الناس عن هذه الأعمال.
2 ـ هيمنة الخطاب الإعلامي الرسمي التقريري والخطابي والوعظي والمباشر حول ما يسمى بالتوجهات التنموية. بلغة أخرى: وقوع "الدراما" التليفزيونية العمانية في كنف البروباجندا وهو ما يتعارض مع الفن الخالص، فإما الدراما وإما البروباجندا.
3 ـ صرامة الرقابة وأثر ذلك على النصوص الدرامية من حيث غياب الطرح الحيوي للقضايا التي تهم الناس واستبداله بموضوعات ميتة تدور عادة في الماضي، وهو ماضٍ غير قادر على مد يديه للحاضر، هو مجرد ديكور لحكاية باردة. أما الدرامات التي تدور في الحاضر فلا تأخذ منه سوى قشور الإيحاءات الزمنية مثل استخدام الهاتف النقال وركوب السيارات وغيرها، ولولا هذه المظاهر الخارجية لما عرفنا ان بعض الأعمال الدرامية العمانية تدور في الحاضر لأنه لا حواديتها تعنينا ولا شخصياتها تشبهنا أو تشبه من نعرفهم. واستطرادا أود القول هنا أن عددا من الأعمال الدرامية العمانية تعاني في حقيقة الأمر من التباس مفهوم الزمن، فلا نحن نعرف هل أحداثها تدور في الماضي أم الحاضر، وهو بالطبع عيب كبير في بنيان هذه الأعمال.
وبخصوص جزئية صرامة الرقابة فإن الملاحظة هي عدم وجود كتاب رائين (أي ذوي رؤى ثاقبة) ممن تستطيع أعمالهم أن تقول كلمتها بالحيل الفنية المختلفة. فلننظر فقط إلى قوة السينما في روسيا وأوروبا الشرقية (بولندا تحديدا) زمن القبضة الحديدية للاتحاد السوفييتي، ولنتأمل كيف تمكن المؤلفون والمخرجون المبدعون من قول كلمتهم رغم أنف الرقيب ودمويته. لو كان لدينا وفرة معقولة من المبدعين الرائين الحقيقيين من كتاب الدراما التليفزيونية ومخرجيها لنجح بعضهم دون شك في تجاوز المحظورات والذهاب إلى أفق العطاء الأروع، في الوقت الذي من الطبيعي أن ينكسر فيه بعض هؤلاء وتنتصر قبضة الرقابة عليهم فيهجرون الفن مكرهين إلى حيث يحتفظون بماء وجههم.
* التمثيل:
يغلب على نمط التمثيل في عمان طابع المبالغة الصوتية والحركية، وضعف التعبير بقسمات الوجه، مع تسيد الأداء الانفعالي والصراخ. التمثيل في عُمان ـ بصفة عامة ـ هو تمثيل التمثيل، أي أن الممثل لا يتقمص شخصية ما ويذوب فيها، ولكنه على العكس من ذلك، يعمل على تذكير المشاهدين طوال الوقت بأنه يقوم حاليا بالتمثيل وأنه يلعب دورا. على أي أساس أقول هذا؟ أقوله من كون عامة الممثلين العمانيين يشتغلون بالحد الأدنى من الجهد المطلوب لتقمص الشخصيات، ولعل سبب هذا أنهم لا يأخذون التمثيل مأخذ الجد، فهو مجرد نشاط بسيط يمارسونه بضع سويعات في السنة وبقية العام هم منشغلون بوظائفهم. لا يريد الممثل العماني أن يتعب أكثر في تجويد أدائه كممثل، ويكتفي بالحد الأدنى الذي يجعله يكتفي بـ "تسميع" النص الدرامي الذي يحفظه دونما إضفاء أي روح على الأداء، وكأن "حفظ النص" هو غاية الغايات لدى الممثلين العمانيين. إنهم يتحدثون بأيديهم وبصوت عال عوضا عن أن يُعبّروا بملامح وجهوهم وقسماتهم وتعابيرهم. حين يضحكون يقهقهون بدلا من أن نرى ابتسامة على وجوههم. وحين يبكون فإنهم يبدون مفتعلين مثل الممثلين في الأفلام بالأبيض والأسود في الأربعينيات والخمسينيات حين كان الممثلون آنذاك يستعيرون أساليب التمثيل المسرحي ويجلبونها للسينما. ما يفعله عموم الممثلين العمانيين هو أنهم يجلبون أردأ ما في المسرح (وليس أحسن ما فيه) ويزجون به في الدراما التليفزيونية. بالطبع لا ينطبق هذا الكلام على الجميع، وحتى من ينطبق عليهم فإنه ينطبق بمستويات متفاوتة، وحتى لدى الممثل الواحد نجد الأداء متباينا وفقا للمخرج الذي يعمل معه. وفي هذا السياق أود الإعراب عن ثقتي الشخصية أن مجموعة لا بأس بعددها من الممثلين العمانيين لديهم قدرات جيدة قابلة للتوظيف مع مخرج يعرف ماذا يفعل، ولعل نجاح أمين عبداللطيف في توظيف طاقات الممثلين العمانيين في مسلسل متميز من قبيل "قراءة في دفتر منسي" لهو إشارة إلى أن بعض هؤلاء لديهم طاقة كامنة غير مستغلة للأداء الجيد يمكن استغلالها حين يكون هناك نص جيد ومخرج جيد وظروف إنتاجية جيدة.
* الإخراج والعناصر الفنية:
تقوم الدراما التليفزيونية العمانية على مخرجين عمانيين وآخرين عربا تم تكليفهم بإخراج هذه الأعمال، إلا أنه ـ ولنكن صرحاء جدا ـ لا يوجد لغاية اليوم أسماء حفرت نفسها كمخرجين لافتين للنظر في ذاكرة الجمهور العماني سوى أمين عبداللطيف وفوزي الغماري في مسلسل "صيف حار". هذا لا يعني أن الآخرين لا يجتهدون وليسوا مخلصي النوايا تجاه ما يقومون به، ولكن الاجتهاد الفردي وحسن الطوية لا يصنعان لوحدهما دراما تليفزيونية جيدة. أما الأسوأ فهو أن بعض المخرجين الذين تم استقدامهم لإخراج أعمال تليفزيونية محلية كانوا مخرجين ضعافا لم يعملوا سوى على تثبيت حال الدراما المحلية عند نقطة "محلك سِر"، وذلك عوضا عن استقطاب الأسماء التي بإمكانها أن تضيف شيئا للساحة. وقد وجدنا بعض هؤلاء يمارسون الفوقية والوصاية والاستعلاء على الشارع الفني المحلي ويزعمون زورا وبهتانا أنهم جاءوا ليصنعوا بأيديهم جيلا من صناع الدراما المحليين الأفذاذ، وأنّى لإناء أن ينضح بما ليس فيه!
في الكثير من الأعمال الدرامية التليفزيونية المحلية يتضاءل دور الإخراج إلى مجرد التنفيذ، والفرق بين الإثنين هو أن الأول عبارة عن رؤية والثاني عبارة عن عمل آلي قد يشبه عمل الماكينات والروبوتات. أين نجد الرؤية؟ نجدها في المعنى العام، الإيقاع العام، أو الطبيعة الخاصة للعمل الفني التي تميزه عن غيره. أعمال نجدت أنزور على سبيل المثال لها طابعها الخاص الذي بواسطته يعرف من يشاهدها أنها أعمال صنعها هذا المخرج (وهذا ليس تقييما لجودتها أو رداءتها، وإنما توصيف لطبيعتها وخصوصيتها). أما أعمالنا المحلية ففي معظمها لا يوجد فرق حقيقي ان تضع اسم المخرج الفلاني بدلا من الفلاني، والمصور الفلاني بدلا من العِلاني، ومدير التصوير الفلاني (إن كان لدينا مدراء تصوير حقا) بدلا من مدير تصوير آخر. قِس على ذلك ما يتعلق بالتصوير (زاوية الكاميرا وحركتها) والإضاءة وإيقاع المونتاج وإيقاع العمل الدرامي ككل والديكور والماكياج. كلها عناصر كثيرا ما تغيب عنها الاحترافية وتتسم بالارتجال، وهو ما نجد العكس منه في مسلسل مثل القطري "قلوب للإيجار" حيث تأسرك الإضاءة وتضفي على المَشاهد طابعا جذابا للجمهور دون أن يعلم غير المختصين من هؤلاء أن جزءا من التناغم الحاصل بين المُشاهد والمسلسل منبعه الإضاءة الخلاقة التي تتسرب للوجدان فتستمتع عين المتفرج بالعمل الفني وترتاح لما تراه.
* الجودة الإنتاجية:
الجودة الإنتاجية مصطلح واسع يشتمل على أشياء كثيرة، منها تهيئة ظروف الإنتاج الملائمة والاهتمام بالعناصر التقنية الداخلة في الصناعة الدرامية، إضافة إلى توافر المخصصات المالية الكافية لكافة متطلبات الإنتاج الدرامي من ديكورات ومناظر، شاملا ذلك الأجور المجزية للفنانين والفنيين والكتاب والمخرجين.
في عُمان بصفة عامة فإن إنتاج الدراما التليفزيونية لا يزال موسميا، وقد تكون هناك أسباب فعلية تقود إلى هذا منها قلة أعداد المشتغلين بالمجال الفني إجمالا من كتاب ومخرجين وممثلين، ووجود جمهور محلي بسيط تعداده أقل من مليوني نسمة بخلاف الجمهور المصري الذي يبلغ ثمانين مليونا ويحتاج إلى العشرات من المسلسلات، بل والقنوات التليفزيونية، حتى تلبي احتياجاته. ليست المشكلة الأم في موسمية الأعمال، وإنما في عشوائية الإنتاج المتمثلة في غياب الخطط والاستراتيجيات المتضمِنة برامجَ واضحةً لمراحل الإنتاج الدرامي. فإذا بدأنا من عنصر النص الدرامي، لا نجد أن هناك خطة عملية تتبنى فعل شيء طوال العام لإعداد مسلسل جيد للموسم المقبل. حتى في مسلسل "درايش 3" الذي يتكون من حلقات منفصلة يساهم فيها عدة كتاب، نجد أن المعمول به هو انتظار مبادرات الكتاب والقبول بالحلقات حتى الضعيف منها فقط لأجل إنتاج عمل مدته 30 حلقة منفصلة. الأمر مختلف مثلا مع مسلسل "طاش ما طاش"، ففي الجزء الـ 16 من هذا العمل نقرأ في التترات خمسة أسماء تقع تحت مسمى "ورشة السيناريو". هذا هو الشغل الاحترافي حقا. ما يفعله منتجو "طاش ما طاش" هو أنهم يتجهزون طوال العام للمسلسل، ويتلقون النصوص بعد إعلانهم في الصحف عن حاجتهم لنصوص درامية، ثم تُعرض النصوص المبدئية على لجنة الاختيار، وما يتم اختياره منها يذهب لورشة إعادة الكتابة التي يشرف عليها خمسة أشخاص. هذا ما تحتاج الدراما العمانية أن تقوم به على صعيد إعداد النص، شريطة ألا تتضمن هذه الورشة إلا أسماء جيدة ـ محلية وعربية، أو عربية فقط.. لا مانع ـ تتولى الإشراف على تطوير قدرات مؤلفي هذه النصوص الأصليين سعيا لتحسين نصوصهم وتطوير قدراتهم. بذا يمكن استثمار الموسمية في إنتاج أعمال تستحق الانتظار.
إن ما يحصل في ظروف الإنتاج المحلية هو سيادة مفهوم "عالبركة" و"كله بالبركة"، أي إنتاج الأشياء كيفما اتفق بالحد الأدنى من مواصفات الجودة. لا المسؤولون يسألون أنفسهم لماذا يجب أن تكون لدينا أعمال درامية (لغير ملء الشاشة فحسب)، ولا الكتاب يَسألون أنفسهم ما الذي تناقشه حلقاتهم، ولا الممثلون يعرفون لماذا يمثلون. وحده الجمهور فقط هو من يعلم لماذا لا يحب كثيرا الأعمال الدرامية التليفزيونية العمانية!
إن جودة الإنتاج مطلب حيوي لصنع دراما جاذبة ومحترفة، أما حذف عشرات المَشاهد بعد التصوير من بعض المسلسلات المحلية نظرا لرداءة الصوت أو ظهور الميكروفون المرفوع أمام وجه الممثل وهو يمثل فهو نقيض مسألة "الجودة الإنتاجية" ورديف مفهوم "عالبركة"! أفكر دائما في الشكوى المتكررة من المخرج عبدالله صالح حيدر من مساهمة فصل الصيف في عمان في إرهاق الممثلين وبالتالي ضعف الأداء. ذلك أن جاهزية التليفزيون للإنتاج الدرامي تأتي غالبا قبيل شهر رمضان، أي في الصيف، ونظرا لصيفنا الحار فإن التصوير الخارجي في الحرارة اللاهبة يتسبب في إجهاد الممثلين وطاقم التصوير، ولذا يرضى المخرجون بتصوير أي مشهد مرة أو مرتين حتى وإن لم يكن بالمستوى المطلوب لأنه لا أحد يرغب في تعريض نفسه لضربة شمس. والسؤال هنا: ماذا يفعل صناع الدراما طوال بقية شهور السنة؟ ألا يجدون وقتا أفضل من عز الصيف لتصوير المسلسلات؟ إن هذا جزء مما أسميه بعشوائية خط الإنتاج الدرامي وغياب الاستراتيجيات الواضحة والمخطط لها للإنتاج الفني بمختلف مراحله ومراعاة متطلبات كل مرحلة منها على حدة.
***
ما تحتاج إليه الدراما التليفزيونية العمانية لتتطور، أولا وقبل كل شيء، هو معرفة مكامن العيوب فيها والاعتراف بها. لا يعني الاعتراف بالعيوب قبولها والاستسلام لها، ولكنه يعني عدم نكرانها والإقرار بأنه ما كان يُفترض أن توجد. إذا كانت النوايا صادقة لتطوير الدراما العمانية فإن الخطوة الأولى هي الوقوف على العيوب والاعتراف بها، وعدم المكابرة بأنه لم يكن في الإمكان أبدع مما كان. إن الاعتراف بمكمن الخلل يستلزم معالجته، ومعرفة المشكلة يتطلب حلها، وها هي عيوب الدراما العمانية مكشوفة أمام عيوننا الآن، فهل نعمل على معالجة أسبابها من جذورها، أم سيختار الممارسون للعمل الدرامي المحلي ـ كل في مجاله ـ استمرار الحال على ما هو عليه والسير بمبدأ "عالبركة" الذي ليس فيه من البركة شيء. هو ذا السؤال الذي لا مناص من الإجابة عليه.
قد لا تكون المقارنة مع الدراما التي تنتجها البلدان العربية ضرورية ليدرك المرء أن الدراما العمانية تراوح مكانها منذ سنوات عديدة. ما تحتاج إليه الدراما التليفزيونية العمانية لتتطور، أولا وقبل كل شيء، هو معرفة مكامن العيوب فيها والاعتراف بها.
تعيد الأعمال الدرامية التليفزيونية المحلية في شهر رمضان من كل عام طرح نفس التساؤلات والملاحظات عن هموم هذه الدراما ومشاكلها، وعن معوقات تطورها وأسباب بقائها متخلفة جماليا في مستواها العام عن الدراما المقدمة في بلدان الجوار وبقية البلاد العربية. قد لا تكون المقارنة مع الدراما التي تنتجها البلدان العربية ضرورية ليدرك المرء أن الدراما العمانية تراوح مكانها منذ سنوات عديدة، وحقا أجد أنه لا حاجة ملحة لنفكر في الجيد من المسلسلات السورية أو المصرية مثلا لنكتشف أن الأعمال التليفزيونية المحلية تعاني من جملة من المشاكل ترتبط بالنص والمضمون والتمثيل والإخراج تجعلها دراما متواضعة فنيا وغير جذابة للمشاهد، إذ يكفي تحليل مكوناتها الفنية لنرى نقاط الضعف الكثيرة التي تعتريها. إلا أن الجمهور هم من يلجؤون عادةً إلى المقارنة وهو حق مكفول لهم طالما كانت المقارنة في محلها بين عنصرين متجانسين تصح المقارنة بينهما.
تعد المقارنة بين الدراما التليفزيونية المحلية ودراما بلدان الخليج العربي مبررة، بل إنها تعمل على تبيان نقاط القوة والضعف في أعمالنا الدرامية. وما يجعل هذه المقارنة بيننا وبين بقية دول الخليج العربي مقبولة هو أن هذه البلدان لا تختلف ظروفها السياسية والاجتماعية والمدنية كثيرا عن ظروفنا، والدراما التي تنتجها هذه البلدان هي صناعة حديثة ولها نفس عمر تجربتنا المحلية من الدراما التليفزيونية، وتخاطب هذه الدراما نفس الجمهور الخليجي لأن كل مسلسل خليجي لديه فرصة المتابعة في بقية بلدان الخليج الأخرى. تقود المقارنة بين مسلسل عماني مثل "درايش 3" ومسلسل سعودي مثل "طاش ما طاش 16" إلى تفوق كفة الأخير كثيرا سواء من ناحية حُسن صياغة النص وجودة بنيان القصة، أو من ناحية المضمون النقدي الجرئ والعميق، أو من ناحية التمثيل، وكذلك من ناحية جرعة الكوميديا المقدمة. كما أن "درايش 3" لا يصمد كثيرا أمام مسلسل منفصل الحلقات مثل الإماراتي "حاير طاير" لنفس الأسباب المذكورة أعلاه، ونضيف إليها في "حاير طاير" جودة الديكور وكارزميّة شخصية الفنان جابر نغموش. إن هذه المقارنة لا تعني بالضرورة أن كل حلقة من "طاش ما طاش 16" و "حاير طاير" هي أفضل من أي حلقة كانت من "درايش 3"، فهذه الأعمال لها أيضا جوانب ضعفها في بعض حلقاتها، ولكنه توصيف إجمالي عام يَصِفُ المحصلة النهائية للمقارنة، كما أن هذه المقارنة لا تعني مطلقا أن "درايش 3" يخلو تماما من العناصر الجيدة اللافتة للإهتمام. أما إذا سقنا مقارنة بين المسلسل الدرامي المحلي غير الكوميدي "الغريقة" وبين المسلسل القطري "قلوب للإيجار" فإن المقارنة في نهاية المطاف ستنتهي بصفة عامة لصالح المسلسل القطري الذي سيتفوق أولا وقبل كل شيء في بصمة الاحتراف التي تعطيه خصوصيته، فهو مُنفّذ بواسطة فريق عمل يعرف جيدا ماذا يفعل، وتكفي الإضاءة الخلاقة للمسلسل وحركة الكاميرا وزوايا التصوير كنماذج للتنفيذ المحترف للمسلسل، وذلك فضلا عن أهمية الموضوع المطروح وكيفية طرحه (أزمة السكن وغلاء الإيجارات). إن "طاش ما طاش16" و "حاير طاير" و "قلوب للإيجار" هي أعمال فنية صنعتها دول الجوار التي تتشابه معنا في حداثة دخول فن الدراما التليفزيونية إليها كما تتشابه معنا في الكثير من الأشياء مثل صرامة الرقابة وقلة عدد الأعمال الدرامية المنتَجة في السنة الواحدة وعدم احتراف الفنانين (من حيث كونهم غير متفرغين تماما للتمثيل) والاستعانة أحيانا بمخرجين من بقية البلدان العربية.. إلا أنه وبرغم جميع نقاط الالتقاء تلك فإن الدراما العمانية في المجمل هي الأقل جودة في عناصرها الفنية المختلفة بين هذه الدرامات، فأين تكمن المشكلة؟
إن نظرة قريبة على مجمل الدراما التليفزيونية العمانية تعطينا الملامح التالية التي يعتبر كلا منها مؤشرا على مشكلة في مجال من المجالات:
* النص:
1 ـ لا يوجد إلا قلة قليلة من الكتاب المحترفين (أو شبه المحترفين) الذين يكتبون الدراما العمانية، وما يجعل هؤلاء المحترفين محترفين هو استمراريتهم في الكتابة الدرامية لعدة سنوات، والاستمرارية هي إحدى عناصر الاحتراف. إلا أن قدرات هؤلاء في خلق الشخصيات وصنع بناء درامي محكم هي قدرات متواضعة. كما أن منهم ذوو الآفاق المحدودة في الرؤية، فهؤلاء لا يطرحون الجديد ولا يَشْخَصُون بأبصارهم بعيدا في تشريح الواقع ومحاولة فهمه. كثير منهم من يقف عند عتبة "الوصف" للواقع دون التحليل أو الاستشراف أو محاولة النبش. أما السيئ حقا فإن منهم من لا يعالج الواقع أصلا ويأتي بواقع آخر متخيل لا علاقة له بحياة الناس محاولا قسرا أن يُلبِس شخصياته لُبوس العمانيين، وتكون النتيجة أن ينصرف الناس عن هذه الأعمال.
2 ـ هيمنة الخطاب الإعلامي الرسمي التقريري والخطابي والوعظي والمباشر حول ما يسمى بالتوجهات التنموية. بلغة أخرى: وقوع "الدراما" التليفزيونية العمانية في كنف البروباجندا وهو ما يتعارض مع الفن الخالص، فإما الدراما وإما البروباجندا.
3 ـ صرامة الرقابة وأثر ذلك على النصوص الدرامية من حيث غياب الطرح الحيوي للقضايا التي تهم الناس واستبداله بموضوعات ميتة تدور عادة في الماضي، وهو ماضٍ غير قادر على مد يديه للحاضر، هو مجرد ديكور لحكاية باردة. أما الدرامات التي تدور في الحاضر فلا تأخذ منه سوى قشور الإيحاءات الزمنية مثل استخدام الهاتف النقال وركوب السيارات وغيرها، ولولا هذه المظاهر الخارجية لما عرفنا ان بعض الأعمال الدرامية العمانية تدور في الحاضر لأنه لا حواديتها تعنينا ولا شخصياتها تشبهنا أو تشبه من نعرفهم. واستطرادا أود القول هنا أن عددا من الأعمال الدرامية العمانية تعاني في حقيقة الأمر من التباس مفهوم الزمن، فلا نحن نعرف هل أحداثها تدور في الماضي أم الحاضر، وهو بالطبع عيب كبير في بنيان هذه الأعمال.
وبخصوص جزئية صرامة الرقابة فإن الملاحظة هي عدم وجود كتاب رائين (أي ذوي رؤى ثاقبة) ممن تستطيع أعمالهم أن تقول كلمتها بالحيل الفنية المختلفة. فلننظر فقط إلى قوة السينما في روسيا وأوروبا الشرقية (بولندا تحديدا) زمن القبضة الحديدية للاتحاد السوفييتي، ولنتأمل كيف تمكن المؤلفون والمخرجون المبدعون من قول كلمتهم رغم أنف الرقيب ودمويته. لو كان لدينا وفرة معقولة من المبدعين الرائين الحقيقيين من كتاب الدراما التليفزيونية ومخرجيها لنجح بعضهم دون شك في تجاوز المحظورات والذهاب إلى أفق العطاء الأروع، في الوقت الذي من الطبيعي أن ينكسر فيه بعض هؤلاء وتنتصر قبضة الرقابة عليهم فيهجرون الفن مكرهين إلى حيث يحتفظون بماء وجههم.
* التمثيل:
يغلب على نمط التمثيل في عمان طابع المبالغة الصوتية والحركية، وضعف التعبير بقسمات الوجه، مع تسيد الأداء الانفعالي والصراخ. التمثيل في عُمان ـ بصفة عامة ـ هو تمثيل التمثيل، أي أن الممثل لا يتقمص شخصية ما ويذوب فيها، ولكنه على العكس من ذلك، يعمل على تذكير المشاهدين طوال الوقت بأنه يقوم حاليا بالتمثيل وأنه يلعب دورا. على أي أساس أقول هذا؟ أقوله من كون عامة الممثلين العمانيين يشتغلون بالحد الأدنى من الجهد المطلوب لتقمص الشخصيات، ولعل سبب هذا أنهم لا يأخذون التمثيل مأخذ الجد، فهو مجرد نشاط بسيط يمارسونه بضع سويعات في السنة وبقية العام هم منشغلون بوظائفهم. لا يريد الممثل العماني أن يتعب أكثر في تجويد أدائه كممثل، ويكتفي بالحد الأدنى الذي يجعله يكتفي بـ "تسميع" النص الدرامي الذي يحفظه دونما إضفاء أي روح على الأداء، وكأن "حفظ النص" هو غاية الغايات لدى الممثلين العمانيين. إنهم يتحدثون بأيديهم وبصوت عال عوضا عن أن يُعبّروا بملامح وجهوهم وقسماتهم وتعابيرهم. حين يضحكون يقهقهون بدلا من أن نرى ابتسامة على وجوههم. وحين يبكون فإنهم يبدون مفتعلين مثل الممثلين في الأفلام بالأبيض والأسود في الأربعينيات والخمسينيات حين كان الممثلون آنذاك يستعيرون أساليب التمثيل المسرحي ويجلبونها للسينما. ما يفعله عموم الممثلين العمانيين هو أنهم يجلبون أردأ ما في المسرح (وليس أحسن ما فيه) ويزجون به في الدراما التليفزيونية. بالطبع لا ينطبق هذا الكلام على الجميع، وحتى من ينطبق عليهم فإنه ينطبق بمستويات متفاوتة، وحتى لدى الممثل الواحد نجد الأداء متباينا وفقا للمخرج الذي يعمل معه. وفي هذا السياق أود الإعراب عن ثقتي الشخصية أن مجموعة لا بأس بعددها من الممثلين العمانيين لديهم قدرات جيدة قابلة للتوظيف مع مخرج يعرف ماذا يفعل، ولعل نجاح أمين عبداللطيف في توظيف طاقات الممثلين العمانيين في مسلسل متميز من قبيل "قراءة في دفتر منسي" لهو إشارة إلى أن بعض هؤلاء لديهم طاقة كامنة غير مستغلة للأداء الجيد يمكن استغلالها حين يكون هناك نص جيد ومخرج جيد وظروف إنتاجية جيدة.
* الإخراج والعناصر الفنية:
تقوم الدراما التليفزيونية العمانية على مخرجين عمانيين وآخرين عربا تم تكليفهم بإخراج هذه الأعمال، إلا أنه ـ ولنكن صرحاء جدا ـ لا يوجد لغاية اليوم أسماء حفرت نفسها كمخرجين لافتين للنظر في ذاكرة الجمهور العماني سوى أمين عبداللطيف وفوزي الغماري في مسلسل "صيف حار". هذا لا يعني أن الآخرين لا يجتهدون وليسوا مخلصي النوايا تجاه ما يقومون به، ولكن الاجتهاد الفردي وحسن الطوية لا يصنعان لوحدهما دراما تليفزيونية جيدة. أما الأسوأ فهو أن بعض المخرجين الذين تم استقدامهم لإخراج أعمال تليفزيونية محلية كانوا مخرجين ضعافا لم يعملوا سوى على تثبيت حال الدراما المحلية عند نقطة "محلك سِر"، وذلك عوضا عن استقطاب الأسماء التي بإمكانها أن تضيف شيئا للساحة. وقد وجدنا بعض هؤلاء يمارسون الفوقية والوصاية والاستعلاء على الشارع الفني المحلي ويزعمون زورا وبهتانا أنهم جاءوا ليصنعوا بأيديهم جيلا من صناع الدراما المحليين الأفذاذ، وأنّى لإناء أن ينضح بما ليس فيه!
في الكثير من الأعمال الدرامية التليفزيونية المحلية يتضاءل دور الإخراج إلى مجرد التنفيذ، والفرق بين الإثنين هو أن الأول عبارة عن رؤية والثاني عبارة عن عمل آلي قد يشبه عمل الماكينات والروبوتات. أين نجد الرؤية؟ نجدها في المعنى العام، الإيقاع العام، أو الطبيعة الخاصة للعمل الفني التي تميزه عن غيره. أعمال نجدت أنزور على سبيل المثال لها طابعها الخاص الذي بواسطته يعرف من يشاهدها أنها أعمال صنعها هذا المخرج (وهذا ليس تقييما لجودتها أو رداءتها، وإنما توصيف لطبيعتها وخصوصيتها). أما أعمالنا المحلية ففي معظمها لا يوجد فرق حقيقي ان تضع اسم المخرج الفلاني بدلا من الفلاني، والمصور الفلاني بدلا من العِلاني، ومدير التصوير الفلاني (إن كان لدينا مدراء تصوير حقا) بدلا من مدير تصوير آخر. قِس على ذلك ما يتعلق بالتصوير (زاوية الكاميرا وحركتها) والإضاءة وإيقاع المونتاج وإيقاع العمل الدرامي ككل والديكور والماكياج. كلها عناصر كثيرا ما تغيب عنها الاحترافية وتتسم بالارتجال، وهو ما نجد العكس منه في مسلسل مثل القطري "قلوب للإيجار" حيث تأسرك الإضاءة وتضفي على المَشاهد طابعا جذابا للجمهور دون أن يعلم غير المختصين من هؤلاء أن جزءا من التناغم الحاصل بين المُشاهد والمسلسل منبعه الإضاءة الخلاقة التي تتسرب للوجدان فتستمتع عين المتفرج بالعمل الفني وترتاح لما تراه.
* الجودة الإنتاجية:
الجودة الإنتاجية مصطلح واسع يشتمل على أشياء كثيرة، منها تهيئة ظروف الإنتاج الملائمة والاهتمام بالعناصر التقنية الداخلة في الصناعة الدرامية، إضافة إلى توافر المخصصات المالية الكافية لكافة متطلبات الإنتاج الدرامي من ديكورات ومناظر، شاملا ذلك الأجور المجزية للفنانين والفنيين والكتاب والمخرجين.
في عُمان بصفة عامة فإن إنتاج الدراما التليفزيونية لا يزال موسميا، وقد تكون هناك أسباب فعلية تقود إلى هذا منها قلة أعداد المشتغلين بالمجال الفني إجمالا من كتاب ومخرجين وممثلين، ووجود جمهور محلي بسيط تعداده أقل من مليوني نسمة بخلاف الجمهور المصري الذي يبلغ ثمانين مليونا ويحتاج إلى العشرات من المسلسلات، بل والقنوات التليفزيونية، حتى تلبي احتياجاته. ليست المشكلة الأم في موسمية الأعمال، وإنما في عشوائية الإنتاج المتمثلة في غياب الخطط والاستراتيجيات المتضمِنة برامجَ واضحةً لمراحل الإنتاج الدرامي. فإذا بدأنا من عنصر النص الدرامي، لا نجد أن هناك خطة عملية تتبنى فعل شيء طوال العام لإعداد مسلسل جيد للموسم المقبل. حتى في مسلسل "درايش 3" الذي يتكون من حلقات منفصلة يساهم فيها عدة كتاب، نجد أن المعمول به هو انتظار مبادرات الكتاب والقبول بالحلقات حتى الضعيف منها فقط لأجل إنتاج عمل مدته 30 حلقة منفصلة. الأمر مختلف مثلا مع مسلسل "طاش ما طاش"، ففي الجزء الـ 16 من هذا العمل نقرأ في التترات خمسة أسماء تقع تحت مسمى "ورشة السيناريو". هذا هو الشغل الاحترافي حقا. ما يفعله منتجو "طاش ما طاش" هو أنهم يتجهزون طوال العام للمسلسل، ويتلقون النصوص بعد إعلانهم في الصحف عن حاجتهم لنصوص درامية، ثم تُعرض النصوص المبدئية على لجنة الاختيار، وما يتم اختياره منها يذهب لورشة إعادة الكتابة التي يشرف عليها خمسة أشخاص. هذا ما تحتاج الدراما العمانية أن تقوم به على صعيد إعداد النص، شريطة ألا تتضمن هذه الورشة إلا أسماء جيدة ـ محلية وعربية، أو عربية فقط.. لا مانع ـ تتولى الإشراف على تطوير قدرات مؤلفي هذه النصوص الأصليين سعيا لتحسين نصوصهم وتطوير قدراتهم. بذا يمكن استثمار الموسمية في إنتاج أعمال تستحق الانتظار.
إن ما يحصل في ظروف الإنتاج المحلية هو سيادة مفهوم "عالبركة" و"كله بالبركة"، أي إنتاج الأشياء كيفما اتفق بالحد الأدنى من مواصفات الجودة. لا المسؤولون يسألون أنفسهم لماذا يجب أن تكون لدينا أعمال درامية (لغير ملء الشاشة فحسب)، ولا الكتاب يَسألون أنفسهم ما الذي تناقشه حلقاتهم، ولا الممثلون يعرفون لماذا يمثلون. وحده الجمهور فقط هو من يعلم لماذا لا يحب كثيرا الأعمال الدرامية التليفزيونية العمانية!
إن جودة الإنتاج مطلب حيوي لصنع دراما جاذبة ومحترفة، أما حذف عشرات المَشاهد بعد التصوير من بعض المسلسلات المحلية نظرا لرداءة الصوت أو ظهور الميكروفون المرفوع أمام وجه الممثل وهو يمثل فهو نقيض مسألة "الجودة الإنتاجية" ورديف مفهوم "عالبركة"! أفكر دائما في الشكوى المتكررة من المخرج عبدالله صالح حيدر من مساهمة فصل الصيف في عمان في إرهاق الممثلين وبالتالي ضعف الأداء. ذلك أن جاهزية التليفزيون للإنتاج الدرامي تأتي غالبا قبيل شهر رمضان، أي في الصيف، ونظرا لصيفنا الحار فإن التصوير الخارجي في الحرارة اللاهبة يتسبب في إجهاد الممثلين وطاقم التصوير، ولذا يرضى المخرجون بتصوير أي مشهد مرة أو مرتين حتى وإن لم يكن بالمستوى المطلوب لأنه لا أحد يرغب في تعريض نفسه لضربة شمس. والسؤال هنا: ماذا يفعل صناع الدراما طوال بقية شهور السنة؟ ألا يجدون وقتا أفضل من عز الصيف لتصوير المسلسلات؟ إن هذا جزء مما أسميه بعشوائية خط الإنتاج الدرامي وغياب الاستراتيجيات الواضحة والمخطط لها للإنتاج الفني بمختلف مراحله ومراعاة متطلبات كل مرحلة منها على حدة.
***
ما تحتاج إليه الدراما التليفزيونية العمانية لتتطور، أولا وقبل كل شيء، هو معرفة مكامن العيوب فيها والاعتراف بها. لا يعني الاعتراف بالعيوب قبولها والاستسلام لها، ولكنه يعني عدم نكرانها والإقرار بأنه ما كان يُفترض أن توجد. إذا كانت النوايا صادقة لتطوير الدراما العمانية فإن الخطوة الأولى هي الوقوف على العيوب والاعتراف بها، وعدم المكابرة بأنه لم يكن في الإمكان أبدع مما كان. إن الاعتراف بمكمن الخلل يستلزم معالجته، ومعرفة المشكلة يتطلب حلها، وها هي عيوب الدراما العمانية مكشوفة أمام عيوننا الآن، فهل نعمل على معالجة أسبابها من جذورها، أم سيختار الممارسون للعمل الدرامي المحلي ـ كل في مجاله ـ استمرار الحال على ما هو عليه والسير بمبدأ "عالبركة" الذي ليس فيه من البركة شيء. هو ذا السؤال الذي لا مناص من الإجابة عليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق