سليمان المعمري
ليس الجدار هو الثيمة أو الكلمة الوحيدة التي لها حضور طاغ في معظم تجربة يحيى سلام المنذري ، فثمة أيضا الطيور والأطفال والسرير ، والشارع ، والباب واللوحة ، بالإضافة طبعا إلى ذلك الإنسان البسيط المهمش الباحث عن كوة نور في نفق الحياة المظلم .. غير أنه يمكن الاستناد عليه – أي على الجدار - بامتياز في مقاربة تجربة المنذري القصصية، ما دامت الجدران هي أول أشكال تنظيم الإنسان لحياته بعيدا عن قوانين الطبيعة ، حسب الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون ، وما دامت الحياة كلها هي المسافة التي يقطعها المرء بين جدارين أحدهما أبيض والآخر أسود كما يخبرنا يحيى ضمنياً من خلال عنوان إحدى قصص مجموعته الأخيرة .. ولذا فان هذه الورقة ستحاول جاهدة ما استطاعت تأمل جدران كتابة يحيى الشكلية والمضمونية من خلال تركيزها على "الطيور الزجاجية" وتعريجها الخجول على مجموعات يحيى الأخرى ، طارحة عددا من الأسئلة من قبيل : ما هي العوالم التي تلح على كتابة المنذري ؟ وما هي المضامين التي تتكرر لديه من مجموعة لأخرى ؟ والى أي مدى أثر عشقه للفن التشكيلي في كتابته القصصية ؟ وأسئلة أخرى يولدها التوغل في ثيمة الجدار ..
بدأ يحيى المنذري كتابة القصة منذ أكثر من عشرين عاما .. وإذا ما تخيلنا اليوم أن ثمة جداراً تعلق عليه صور الأسماء البارزة في المشهد القصصي العماني فإنها ليست مجازفة القول انه يصعب تخيّل هذا الجدار بلا صورة ليحيى ، بشاربه الخفيف الأليف ونظارته ذات العينين البيضاوين ، بطيوره الزجاجية المتراقصة حول رؤوس أبطاله ، ونافذتيه المطلتين على ذلك البحر البعيد ، بحبات برتقاله المنتقاة بدقة وزارعي غابته الأسمنتية الذين يطفئون حنينهم بالصور ، بـ"ضجيج بيته الكبير" الذي كاد أن يرمي به وحيدا بين أربعة جدران ضيقة لها حراسٌ يقدمون العدس.. ومنذ مجموعته الأولى "نافذتان لذلك البحر " ( مسقط ، 1993 ) ومرورا بـ"رماد اللوحة" ( دمشق .. 1999 ) و"بيت وحيد في الصحراء" (مسقط 2003 ) وليس انتهاء بـ"الطيور الزجاجية" ( دمشق 2011 ) والمنذري يسير بخطى بطيئة بعض الشيء ولكن واثقة في طريق القصة الشائك والطويل.
دعونا إذن نلج إلى بيت يحيى القصصي ، نتأمل جدرانه ، ونحصي غرفه ، ونتلصص على ساكنيه ، مرددين مع أنطوان سانت أكزوبيري : "إن أعجب ما في منزل ليس في أنه يؤويك أو يدفئك، أو في أنك تملك منه الجدران، ولكن في هذا الذي يضعه فينا من مؤن العذوبة"
ليس الجدار هو الثيمة أو الكلمة الوحيدة التي لها حضور طاغ في معظم تجربة يحيى سلام المنذري ، فثمة أيضا الطيور والأطفال والسرير ، والشارع ، والباب واللوحة ، بالإضافة طبعا إلى ذلك الإنسان البسيط المهمش الباحث عن كوة نور في نفق الحياة المظلم .. غير أنه يمكن الاستناد عليه – أي على الجدار - بامتياز في مقاربة تجربة المنذري القصصية، ما دامت الجدران هي أول أشكال تنظيم الإنسان لحياته بعيدا عن قوانين الطبيعة ، حسب الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون ، وما دامت الحياة كلها هي المسافة التي يقطعها المرء بين جدارين أحدهما أبيض والآخر أسود كما يخبرنا يحيى ضمنياً من خلال عنوان إحدى قصص مجموعته الأخيرة .. ولذا فان هذه الورقة ستحاول جاهدة ما استطاعت تأمل جدران كتابة يحيى الشكلية والمضمونية من خلال تركيزها على "الطيور الزجاجية" وتعريجها الخجول على مجموعات يحيى الأخرى ، طارحة عددا من الأسئلة من قبيل : ما هي العوالم التي تلح على كتابة المنذري ؟ وما هي المضامين التي تتكرر لديه من مجموعة لأخرى ؟ والى أي مدى أثر عشقه للفن التشكيلي في كتابته القصصية ؟ وأسئلة أخرى يولدها التوغل في ثيمة الجدار ..
بدأ يحيى المنذري كتابة القصة منذ أكثر من عشرين عاما .. وإذا ما تخيلنا اليوم أن ثمة جداراً تعلق عليه صور الأسماء البارزة في المشهد القصصي العماني فإنها ليست مجازفة القول انه يصعب تخيّل هذا الجدار بلا صورة ليحيى ، بشاربه الخفيف الأليف ونظارته ذات العينين البيضاوين ، بطيوره الزجاجية المتراقصة حول رؤوس أبطاله ، ونافذتيه المطلتين على ذلك البحر البعيد ، بحبات برتقاله المنتقاة بدقة وزارعي غابته الأسمنتية الذين يطفئون حنينهم بالصور ، بـ"ضجيج بيته الكبير" الذي كاد أن يرمي به وحيدا بين أربعة جدران ضيقة لها حراسٌ يقدمون العدس.. ومنذ مجموعته الأولى "نافذتان لذلك البحر " ( مسقط ، 1993 ) ومرورا بـ"رماد اللوحة" ( دمشق .. 1999 ) و"بيت وحيد في الصحراء" (مسقط 2003 ) وليس انتهاء بـ"الطيور الزجاجية" ( دمشق 2011 ) والمنذري يسير بخطى بطيئة بعض الشيء ولكن واثقة في طريق القصة الشائك والطويل.
دعونا إذن نلج إلى بيت يحيى القصصي ، نتأمل جدرانه ، ونحصي غرفه ، ونتلصص على ساكنيه ، مرددين مع أنطوان سانت أكزوبيري : "إن أعجب ما في منزل ليس في أنه يؤويك أو يدفئك، أو في أنك تملك منه الجدران، ولكن في هذا الذي يضعه فينا من مؤن العذوبة"
تجليات الجدار :
أول سطر في "الطيور الزجاجية" يتحدث عن "جدران خشبية هادئة لأن الطقس لا يعكر صفوها بالرياح" ، وفتى "يحلم بركوب أرجوحة في حديقة خضراء طقسها بارد ومليء بالرذاذ" لكننا سرعان ما سنكتشف أنه ليس سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة ، فهذا الفتى في قصة "طائرة تبدد لون السماء" سيخرج بعد قليل مع أمه ليس لركوب أرجوحة ولا للتمرغ في خضرة حديقة بل لانتظار موكب لن يأتي ، تماما كانتظار الأب الذي غاب منذ سنوات ، لا بأس إذن من أن يخفف هذا المنتظِر من عطش المنتظرين الآخرين مقابل حفنة من المال يساعد بها أمه ، هؤلاء الذين شكلوا جداراً يمنعه من الرؤية " أخذ يبحث عن منفذ لرؤية الموكب ، كان الناس مثل أحجار رصت على الشارع" (ص10) .. هذه الثلاثية ( الفتى والأم والجدار الخشبي) ستتكرر بعد قليل في قصة أخرى هي "إنقاذ" ، ولعلها ليست مصادفة أيضا حضور الجدران الخشبية منذ السطر الأول في القصة .. ثمة امرأة تتعرض للأذى من زوجها السكير .. امرأة حبيسة الجدران التي يغلقها عليها هذا الزوج المتوحش بقفل أسود كبير .. غير أن الفتى، وبتحريض من أمه المتعاطفة مع هذه المرأة، سيوسع الجدار الخشبي ركلا ويحدث به تصدعاً وصولا إلى صنع فتحة كافية لمرور المرأة التي "كانت مثل حمامة جريحة وضعيفة ووحيدة تنتظر فتح باب القفص، حمامة لها ريش ملون ، لها عينان دامعتان " .. يحق لها الآن وقد تنسمت أنفاس الحرية أن تكفكف دموعها وتردد مع كافافي : " وما دامت لدي أشياء كثيرة أقوم بها في الخارج / فلِمَ لم أحاذر حين أخذوا يبنون حولي الجدران ؟! ".. ويحق لنا أن نعود إلى الوراء قليلا ونتذكر قصة "المروحة البشرية" ضمن مجموعة "زارعي غابة الاسمنت" التي شاء المنذري أن يضمنها داخل كتاب واحد مع مجموعة "بيت وحيد في الصحراء" حيث "يتدفق الضوء من ثقب صغير في الجدار الخشبي" ويتأمل الهندي ذرات الغبار المصطفة في بطن الضوء مكونة عصا ذهبية .
بيد أن الجدران ليست خشبية وحسب ، لذا فان الثلاثية سالفة الذكر ستتحول إلى ( الفتى والأم والجدار الأسمنتي ) في قصة ثالثة من "الطيور الزجاجية" هي "ليلة الخنجر".. تحمل الأم ولدها الصغير ناصر إلى عرس ما في بيت إسمنتي كبير أصفرِ اللون ، وما إن تشد الأم ابنها إلى داخل البيت حتى يشاهد على الجدار لوحة بها خنجر وأخرى بداخلها سيف فضي فيشعر بالخوف .. أهو خوف من الخنجر والسيف أم من الجدار ؟! .. شخصيا سأرجح الثانية ، وسأعضد هذا الرأي بالتقاء ناصر هناك ببعض أقاربه الذين كانوا من عمره ، وتذكُّره بأن حاجزاً / جداراً كبيرا زُرِع بينهم رغم مشاركته لهم اللعب والضحك والجري . ثم انه يتعمد الهروب من هذا الواقع الذي يخيفه فيغمض عينيه ويتخيل خناجر تتطاير وتنغرز في الجدران .. تسكره نشوة الانتصار على هذه الجدران في الخيال فيقرر تنفيذها في الواقع .. يسحب خنجر العريس الذي يبدي مقاومة شديدة ويمسك بيدي ناصر ويعصرهما بقوة صارخاً في وجهه أن تأدبْ ، وإذا ما أضفنا أنه تلقى تأنيبا وصراخا من المرأتين اللتين كانتا في غرفة العريس ، وذهولا واستغرابا من بقية الأولاد نخلص إلى أن مزيدا من الجدران ارتفعت في وجهه وانتصرت عليه ، مثلما ترتفع في وجوهنا نحن قراءَ "الطيور الزجاجية" ، فإضافةً إلى الجدران الخشبية والإسمنتية تشمخ كذلك جدران زجاجية تقف – رغم هشاشة الزجاج - بيننا وبين سعادتنا .. ففي قصة "سر الورقة" يفرح البطل الفقير الأمي بالشيك الذي قدمه له أحد الأثرياء ، ما يعني أن حياة البطل ستتغير بلا شك إلى الأفضل، ولكن موظف البنك القابع خلف جدار زجاجي يصدمه في البداية أن "هذا الشيك لازم يصرف من بنك آخر ، تجده في الخوير" ، ثم ستصدمه موظفة أخرى في بنك آخر ومن خلف نفس الجدار الزجاجي بأن قيمة الشيك لا تتعدى العشرة ريالات ! .. ثمة جدار يقف عقبة في طريق الحلم هنا ، ولكن المفارقة أن الجدار هو أيضا الحلم .. فهذا الرجل البسيط يضع ضمن مخططاته بعد أن يستلم المبلغ الذي ظنه كبيرا أن يصلح سور بيته ، أن يقيم جداراً يستره ويحميه وأهله من اللصوص والمتطفلين .. بيد أن هذا الجدار الأسمنتي لن يقوم الآن بسبب الجدار الزجاجي ! .
وإذا كان الجدار حلماً في "سر الورقة" فانه سيتحول بقدرة كاتب إلى سد في وجه الحلم في قصة "الباب الزجاجي" ، ففي أثناء انتظار البطل الفقير المعدم الباحث عن عمل لسقوط جدار الانشغال الذي يفصله عن مقابلة المدير العام ليفاتحه بطلب وظيفة ، جلس على المقعد الجلدي أمام السكرتيرة ، "وانشغل في التحديق في المكان ، ثم أخذ يسترق النظرات ناحية وجه المرأة الذي اعتبره عذبا ، والقطة الغريبة التي تلعق عنقها ، كاد يجرؤ على الحلم بالنوم معها ، لكنه تردد ، فقد تذكر مشاكله التي تسد مداخل أحلامه بجدران قوية " .. الجدران تمنع الإنسان من مجرد الحلم هنا .. ولن تكتفي بهذا بل ستمنعه في قصة أخرى من مجرد الكلام ، "فهو يعرف أن الأصوات تتسرب من خلال الجدران بسهولة ، تنتشر مع الهواء وتغوص في الآذان كأسهم مليئة بالأخبار ، لذلك فالمدينة تكاد تخلو من الأسرار ، إلا تلك الأسرار التي تقال بالإشارات " ، ولكن حتى هذه يمكن التلصص عليها بطريقة بطل جحيم هنري باربوس : النظر من خلال ثقب جدار ، هكذا يفكر بطل قصة "الساق" الذي تمردت عليه ساقه ، وهكذا تفعل زوجة السكير البائسة في قصة "إنقاذ" ، فالجدار يغدو هنا معادلاً للحرية والانعتاق ، من خلال تلك الفتحة السرية التي كانت نافذة المرأة إلى العالم الخارجي تبث منها شكواها وحزنها لأم الفتى ، ولولا ذلك الثقب في الجدار ما علم أحد شيئا عن معاناة تلك المرأة ، وما تم إنقاذها .. فما أجمل الجدران التي تساعدنا على رؤية الآخر والتفاعل معه !.. لا أجمل ولا أنبل منها إلا تلك التي ترينا أنفسنا ، تلك التي تقوم مقام المرايا في تقديمنا كما نحن بلا أية رتوش أو محاولات تجميل .. ألهذا إذن يضع الحلاقون مرايا زجاجية على الجدران أمام زبائنهم ؟!.. لم تقل قصة "جدران ومرايا" هذا مباشرة ، ولكن كان لافتا حديث بطلها أثناء اعتلائه الكرسي لأداء دوره في الحلاقة بعد انتظارٍ قضاه في قراءة كتاب ، كان لافتا حديثه عن زميله الذي لم يطلب الكتاب ليقضي به ما تبقى له من وقت الانتظار " تركتُه مع المنتظرين يحدقون في الحيطان" .. الحيطان هنا أهم ، فنحن لسنا بحاجة لكتاب لننظر إلى أنفسنا بعمق .. وعندما نتأمل ذواتنا فان أسئلة كثيرة تنطرح في داخلنا دون أن تنتظر الإجابة .. تماما كما تفعل الكتابة الإبداعية بشكل عام .. وكتابة المنذري بوجه خاص ..
كتابة الأسئلة :
لا أبالغ إن قلتُ إن كتابة يحيى هي كتابة الأسئلة بامتياز.. لقد دأب على طرح الأسئلة التي تبدو في ظاهرها بريئة ، ولكنها ليست كذلك في العمق .. إنها أسئلة تحرض على التأمل والتفكر وإعادة النظر في حياتنا برمتها ، أسئلة تعبرنا مخترقة جُدُرَنا الصلدة مثلما فعل بطل قصة "عابر الجدران" لمارسيل ايميه بفعل حبة سحرية عجيبة تتيح له أن يمر من أي جدار بسهولة تنْقُلُه من مكان لآخر.. أسئلة تتطاير – حسب أحد أبطال المنذري – "مثل ريش نُتِفَ من حمامة ضُرِبتْ على رأسها" : ما الموكب ؟! .. لماذا كراسي المستشفى صنعت من الاسمنت ؟ ، هل يعلم الجدي الصغير أن روحه سوف تفارقه بعد لحظات ؟ .. هل مازلت تتمنى امتلاك طاقية الإخفاء ؟ ، هل فعلا أصبحتُ لا شيء ؟ ، هل نجح الطائر الأسطوري في تفتيت عقلي ؟ لماذا ينتابني الآن شعور بالخواء ؟ .. لماذا أنا غريب وسط أقربائي ؟ .. هل سأكبر وسينبت لي مثل هذا الشعر ؟ .. لماذا هو بالذات سقط الطائران على رأسه ؟ .. لماذا كل هذا الألم الآن ؟ .. وغيرها الكثير الكثير من الأسئلة التي تتناثر في ثنايا نصوص "الطيور الزجاجية" الخمسة عشر .. ومن قرأ يحيى المنذري جيدا يدرك أن السؤال مكوِّنٌ رئيس من مكونات كتابته القصصية ، منذ "نافذتان لذلك البحر" التي يسأل فيها : "من أين يبدأ السؤال .. من الولادة أم من آخر رمق يبقى ؟" ومرورا بـ"رماد اللوحة" التي يتساءل فيها : "هل يا ترى حين يجلس الصياد إلى البحر محدقا إلى الغيوم يفكر بمطر من الأسماك ؟" ، وليس انتهاء بـ"بيت وحيد في الصحراء" التي يتعجب في إحدى قصصها : "لماذا لا تهرب الأرانب والطيور مادامت الأقفاص مفتوحة" ؟! .. إن الأسئلة هنا ما هي إلا محاولات لاختراق جدران الظلام الذي يحيط بالكائن ، إشعال فتيل ضوء في متاهة بورخيسية معتمة كلما ظننتَ أنها أفضت بك إلى مكان اكتشفتَ أنها زادتك عزلة عن نفسك وعن العالم .. ومع ذلك فلا مفر لك إلا أن تسأل وتسأل موقناً أن توقفك عن السؤال يعني نهايتك المغلقة مرسومة على جدار اليأس ..
الطبيعة والكلمة :
وما دمنا نتحدث عن الرسم على الجدار فان هذا يحيلنا إلى ثيمة لطالما برزت بوضوح في تجربة يحيى المنذري ألا وهي توظيف التشكيل واللوحة في الكتابة القصصية ، ولعل يحيى الذي صرح ذات يوم بأنه حاول أن يكون فنانا تشكيليا ففشل سيضجر من فرط ما تم التحدث عن هذه الثيمة في كتابته .. وشخصيا ما كنتُ سأتناولها هنا لولا ارتباطها بثيمة هذه الورقة وهي الجدران .. وعلى أية حال سواء نجح المنذري أم فشل في أن يصبح فنانا تشكيليا فان المؤكد أن العديد من نصوصه القصصية ما هي إلا تجسيد لعبارة ميشيل فوكو في "الكلمات والأشياء" من أن الطبيعة والكلمة يستطيعان أن يتقاطعا إلى ما لا نهاية مشكِّلَيْن لمن يعرف القراءة نصّا واحداً .. حرّكت اللوحة التشكيلية الأحداث في "ليلة الخنجر" كما رأينا قبل قليل .. وكان لها دور كذلك في قصة "من جدار أبيض إلى جدار أسود" التي يستحضر فيها المنذري الرسام العالمي سلفادور دالي إلى صالة الانتظار بالمستشفى ، فيرسم هذا الأخير بقطعة فحم في وجوه الجالسين وفي الجدران ، ولعلها نفس قطعة الفحم التي استخدمها سلمان في "رماد اللوحة" عندما كان طفلاً "يرسم على جدران البيوت أشكالاً غريبة جدا ليس لها وجود، أشكالاً يبتكرها وكأنها سوف تتحقق في سنوات قادمة" ، غير أن الملاحظة الجوهرية هنا أنه كلما تقدمت تجربة يحيى المنذري القصصية للأمام كلما تراجع الحضور التشكيلي للخلف ، أو لنقل خفت وبات في خلفية المشهد .. مجموعتاه الأوليان كان يصدّرهما بقصة لا تتعالق مع الفن التشكيلي فحسب ، بل ويدخل في نسيج أحداثها بحيث لا تغدو القصةُ قصةً إن حذفنا ثيمة التشكيل .. قصة "اللوحة" أولى قصص "نافذتان لذلك البحر" تبدأ بتأمل عميق من بطل القصة للوحة غامضة معلقة على جدران معرض، يتأمل غيوما وبرقاً ورياحا ومساحات تحمل ألوانا عدة .. إن هذا التأمل يمد البطل بأحداث مرعبة تحدث لاحقا لتنتهي القصة بهرب البطل خائفا من المعرض "تاركاً اللوحة تفسخ ثوب الأرض المتبقي" .. أما قصة "رماد اللوحة" أولى قصص المجموعة التي تحمل نفس الاسم فتتحدث عن معاناة شاب اسمه سلمان لديه موهبة الرسم منذ صغره يتعرض لضغوط اجتماعية تسبب له آلاما نفسية وجسدية فيقرر أن يرسم كل الشر الذي تعرض له في لوحة ثم يحرقها .. التشكيل هنا – كما في قصة "اللوحة" - مكون رئيس من مكونات القص .. هكذا إذن يبدأ يحيى قَصَّه في مجموعتيه الأوليين بالتشكيل .. أما في الطيور الزجاجية فان التشكيل ليس إلا معضدا للحبكة القصصية تسانده معضدات أخرى يمكن أن تحل محله أن أراد القاص دون أن تتأثر سيرورة القص .. فمن الذي يملك المراهنة أن قصة "من جدار أبيض إلى جدار أسود" ستفشل في إرسال رسالتها بدون سلفادور دالي ؟ .. ومن يجرؤ على الزعم أن "ليلة الخنجر" لن تسير للأمام بدون أن يتوقف ناصر لرؤية لوحة السيف والخنجر ؟!.. إن خفوت المشهد التشكيلي هنا يمكن أن نعزوه إلى تحقق المنذري كقاص تعويضا عن الفنان الفاشل ، لم يعد يشعر بتلك المرارة التي تدفعه لمحاولة التحقق تشكيليا على الورق .. لكن موهبة التشكيلي باقية ، وتطل برأسها في لوحة قصصية هنا أو في وصف هناك ، ولعلني لا أتعسف في التأويل إن قطعتُ بأن وصف يحيى لسلمان طفلا في "رماد اللوحة" ، والذي تتماهى فيه خبرة التشكيل بخبرة القص ، ما هو إلا وصف ليحيى نفسه : " وجد نفسه يحب المرأة والرسم، ودائما ما يشعر بحرارة غريبة تسري في يده تحفزه على أن يمسك القلم ويرسم طيوراً تحلق بعيداً عن الأرض، يرسم نساء جميلات وحدائق زهور وأشكالاً هندسية، كان في طفولته يرسم بقطع الفحم على جدران البيوت أشكالاً غريبة جدا ليس لها وجود، أشكالاً يبتكرها وكأنها سوف تتحقق في سنوات قادمة، بعد ذلك بدأ الرسم على الأوراق، مرة رسم شجرة أوراقها سوداء وثمارها رؤوس دامية، وتبدو الشجرة في اللوحة أكبر من المدينة وغائرة في سماء مليئة بالغربان وطيور أخرى غريبة الأشكال" .. لكن سلمان العاشق للرسم سيكون عُرضة لتوبيخ مسؤوله له الذي مزق اللوحة فوق رأسه وأمره أن يجمع المِزَق كي يرميها في القمامة.. من هنا ينفس سلمان عن غضبه برسم لوحات وحرقها ، أما يحيى فسيؤمن أن الطريق يتحدد بمقدار ما نمشي عليه من خطوات ، وسيختار طريق الكتابة ، حيث يغدو بإمكاننا ابتكار حيوات في الورق لم نعشها في الواقع، نرسم فيها لوحات جميلة ونبتكر شخوصا مدهشة ، ونتحدث بلغة آسرة ، ونطرح أسئلة ممضة ، نمضي مُتَحَدِّين الصعاب ، وعابرين الجدران التي تقف في طريقنا بعزيمة لا تكل ، مستحضرين في قرارتنا أمل دنقل : آه ما أقسى الجدار / عندما ينهض في وجه الشروق / ربما ننفق كل العمر .. كي نثقب ثغرة / ليمر النور للأجيال .. مرة ! /
ربما لو لم يكن هذا الجدار / ما عرفنا قيمة الضوء الطليق !! .
أول سطر في "الطيور الزجاجية" يتحدث عن "جدران خشبية هادئة لأن الطقس لا يعكر صفوها بالرياح" ، وفتى "يحلم بركوب أرجوحة في حديقة خضراء طقسها بارد ومليء بالرذاذ" لكننا سرعان ما سنكتشف أنه ليس سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة ، فهذا الفتى في قصة "طائرة تبدد لون السماء" سيخرج بعد قليل مع أمه ليس لركوب أرجوحة ولا للتمرغ في خضرة حديقة بل لانتظار موكب لن يأتي ، تماما كانتظار الأب الذي غاب منذ سنوات ، لا بأس إذن من أن يخفف هذا المنتظِر من عطش المنتظرين الآخرين مقابل حفنة من المال يساعد بها أمه ، هؤلاء الذين شكلوا جداراً يمنعه من الرؤية " أخذ يبحث عن منفذ لرؤية الموكب ، كان الناس مثل أحجار رصت على الشارع" (ص10) .. هذه الثلاثية ( الفتى والأم والجدار الخشبي) ستتكرر بعد قليل في قصة أخرى هي "إنقاذ" ، ولعلها ليست مصادفة أيضا حضور الجدران الخشبية منذ السطر الأول في القصة .. ثمة امرأة تتعرض للأذى من زوجها السكير .. امرأة حبيسة الجدران التي يغلقها عليها هذا الزوج المتوحش بقفل أسود كبير .. غير أن الفتى، وبتحريض من أمه المتعاطفة مع هذه المرأة، سيوسع الجدار الخشبي ركلا ويحدث به تصدعاً وصولا إلى صنع فتحة كافية لمرور المرأة التي "كانت مثل حمامة جريحة وضعيفة ووحيدة تنتظر فتح باب القفص، حمامة لها ريش ملون ، لها عينان دامعتان " .. يحق لها الآن وقد تنسمت أنفاس الحرية أن تكفكف دموعها وتردد مع كافافي : " وما دامت لدي أشياء كثيرة أقوم بها في الخارج / فلِمَ لم أحاذر حين أخذوا يبنون حولي الجدران ؟! ".. ويحق لنا أن نعود إلى الوراء قليلا ونتذكر قصة "المروحة البشرية" ضمن مجموعة "زارعي غابة الاسمنت" التي شاء المنذري أن يضمنها داخل كتاب واحد مع مجموعة "بيت وحيد في الصحراء" حيث "يتدفق الضوء من ثقب صغير في الجدار الخشبي" ويتأمل الهندي ذرات الغبار المصطفة في بطن الضوء مكونة عصا ذهبية .
بيد أن الجدران ليست خشبية وحسب ، لذا فان الثلاثية سالفة الذكر ستتحول إلى ( الفتى والأم والجدار الأسمنتي ) في قصة ثالثة من "الطيور الزجاجية" هي "ليلة الخنجر".. تحمل الأم ولدها الصغير ناصر إلى عرس ما في بيت إسمنتي كبير أصفرِ اللون ، وما إن تشد الأم ابنها إلى داخل البيت حتى يشاهد على الجدار لوحة بها خنجر وأخرى بداخلها سيف فضي فيشعر بالخوف .. أهو خوف من الخنجر والسيف أم من الجدار ؟! .. شخصيا سأرجح الثانية ، وسأعضد هذا الرأي بالتقاء ناصر هناك ببعض أقاربه الذين كانوا من عمره ، وتذكُّره بأن حاجزاً / جداراً كبيرا زُرِع بينهم رغم مشاركته لهم اللعب والضحك والجري . ثم انه يتعمد الهروب من هذا الواقع الذي يخيفه فيغمض عينيه ويتخيل خناجر تتطاير وتنغرز في الجدران .. تسكره نشوة الانتصار على هذه الجدران في الخيال فيقرر تنفيذها في الواقع .. يسحب خنجر العريس الذي يبدي مقاومة شديدة ويمسك بيدي ناصر ويعصرهما بقوة صارخاً في وجهه أن تأدبْ ، وإذا ما أضفنا أنه تلقى تأنيبا وصراخا من المرأتين اللتين كانتا في غرفة العريس ، وذهولا واستغرابا من بقية الأولاد نخلص إلى أن مزيدا من الجدران ارتفعت في وجهه وانتصرت عليه ، مثلما ترتفع في وجوهنا نحن قراءَ "الطيور الزجاجية" ، فإضافةً إلى الجدران الخشبية والإسمنتية تشمخ كذلك جدران زجاجية تقف – رغم هشاشة الزجاج - بيننا وبين سعادتنا .. ففي قصة "سر الورقة" يفرح البطل الفقير الأمي بالشيك الذي قدمه له أحد الأثرياء ، ما يعني أن حياة البطل ستتغير بلا شك إلى الأفضل، ولكن موظف البنك القابع خلف جدار زجاجي يصدمه في البداية أن "هذا الشيك لازم يصرف من بنك آخر ، تجده في الخوير" ، ثم ستصدمه موظفة أخرى في بنك آخر ومن خلف نفس الجدار الزجاجي بأن قيمة الشيك لا تتعدى العشرة ريالات ! .. ثمة جدار يقف عقبة في طريق الحلم هنا ، ولكن المفارقة أن الجدار هو أيضا الحلم .. فهذا الرجل البسيط يضع ضمن مخططاته بعد أن يستلم المبلغ الذي ظنه كبيرا أن يصلح سور بيته ، أن يقيم جداراً يستره ويحميه وأهله من اللصوص والمتطفلين .. بيد أن هذا الجدار الأسمنتي لن يقوم الآن بسبب الجدار الزجاجي ! .
وإذا كان الجدار حلماً في "سر الورقة" فانه سيتحول بقدرة كاتب إلى سد في وجه الحلم في قصة "الباب الزجاجي" ، ففي أثناء انتظار البطل الفقير المعدم الباحث عن عمل لسقوط جدار الانشغال الذي يفصله عن مقابلة المدير العام ليفاتحه بطلب وظيفة ، جلس على المقعد الجلدي أمام السكرتيرة ، "وانشغل في التحديق في المكان ، ثم أخذ يسترق النظرات ناحية وجه المرأة الذي اعتبره عذبا ، والقطة الغريبة التي تلعق عنقها ، كاد يجرؤ على الحلم بالنوم معها ، لكنه تردد ، فقد تذكر مشاكله التي تسد مداخل أحلامه بجدران قوية " .. الجدران تمنع الإنسان من مجرد الحلم هنا .. ولن تكتفي بهذا بل ستمنعه في قصة أخرى من مجرد الكلام ، "فهو يعرف أن الأصوات تتسرب من خلال الجدران بسهولة ، تنتشر مع الهواء وتغوص في الآذان كأسهم مليئة بالأخبار ، لذلك فالمدينة تكاد تخلو من الأسرار ، إلا تلك الأسرار التي تقال بالإشارات " ، ولكن حتى هذه يمكن التلصص عليها بطريقة بطل جحيم هنري باربوس : النظر من خلال ثقب جدار ، هكذا يفكر بطل قصة "الساق" الذي تمردت عليه ساقه ، وهكذا تفعل زوجة السكير البائسة في قصة "إنقاذ" ، فالجدار يغدو هنا معادلاً للحرية والانعتاق ، من خلال تلك الفتحة السرية التي كانت نافذة المرأة إلى العالم الخارجي تبث منها شكواها وحزنها لأم الفتى ، ولولا ذلك الثقب في الجدار ما علم أحد شيئا عن معاناة تلك المرأة ، وما تم إنقاذها .. فما أجمل الجدران التي تساعدنا على رؤية الآخر والتفاعل معه !.. لا أجمل ولا أنبل منها إلا تلك التي ترينا أنفسنا ، تلك التي تقوم مقام المرايا في تقديمنا كما نحن بلا أية رتوش أو محاولات تجميل .. ألهذا إذن يضع الحلاقون مرايا زجاجية على الجدران أمام زبائنهم ؟!.. لم تقل قصة "جدران ومرايا" هذا مباشرة ، ولكن كان لافتا حديث بطلها أثناء اعتلائه الكرسي لأداء دوره في الحلاقة بعد انتظارٍ قضاه في قراءة كتاب ، كان لافتا حديثه عن زميله الذي لم يطلب الكتاب ليقضي به ما تبقى له من وقت الانتظار " تركتُه مع المنتظرين يحدقون في الحيطان" .. الحيطان هنا أهم ، فنحن لسنا بحاجة لكتاب لننظر إلى أنفسنا بعمق .. وعندما نتأمل ذواتنا فان أسئلة كثيرة تنطرح في داخلنا دون أن تنتظر الإجابة .. تماما كما تفعل الكتابة الإبداعية بشكل عام .. وكتابة المنذري بوجه خاص ..
كتابة الأسئلة :
لا أبالغ إن قلتُ إن كتابة يحيى هي كتابة الأسئلة بامتياز.. لقد دأب على طرح الأسئلة التي تبدو في ظاهرها بريئة ، ولكنها ليست كذلك في العمق .. إنها أسئلة تحرض على التأمل والتفكر وإعادة النظر في حياتنا برمتها ، أسئلة تعبرنا مخترقة جُدُرَنا الصلدة مثلما فعل بطل قصة "عابر الجدران" لمارسيل ايميه بفعل حبة سحرية عجيبة تتيح له أن يمر من أي جدار بسهولة تنْقُلُه من مكان لآخر.. أسئلة تتطاير – حسب أحد أبطال المنذري – "مثل ريش نُتِفَ من حمامة ضُرِبتْ على رأسها" : ما الموكب ؟! .. لماذا كراسي المستشفى صنعت من الاسمنت ؟ ، هل يعلم الجدي الصغير أن روحه سوف تفارقه بعد لحظات ؟ .. هل مازلت تتمنى امتلاك طاقية الإخفاء ؟ ، هل فعلا أصبحتُ لا شيء ؟ ، هل نجح الطائر الأسطوري في تفتيت عقلي ؟ لماذا ينتابني الآن شعور بالخواء ؟ .. لماذا أنا غريب وسط أقربائي ؟ .. هل سأكبر وسينبت لي مثل هذا الشعر ؟ .. لماذا هو بالذات سقط الطائران على رأسه ؟ .. لماذا كل هذا الألم الآن ؟ .. وغيرها الكثير الكثير من الأسئلة التي تتناثر في ثنايا نصوص "الطيور الزجاجية" الخمسة عشر .. ومن قرأ يحيى المنذري جيدا يدرك أن السؤال مكوِّنٌ رئيس من مكونات كتابته القصصية ، منذ "نافذتان لذلك البحر" التي يسأل فيها : "من أين يبدأ السؤال .. من الولادة أم من آخر رمق يبقى ؟" ومرورا بـ"رماد اللوحة" التي يتساءل فيها : "هل يا ترى حين يجلس الصياد إلى البحر محدقا إلى الغيوم يفكر بمطر من الأسماك ؟" ، وليس انتهاء بـ"بيت وحيد في الصحراء" التي يتعجب في إحدى قصصها : "لماذا لا تهرب الأرانب والطيور مادامت الأقفاص مفتوحة" ؟! .. إن الأسئلة هنا ما هي إلا محاولات لاختراق جدران الظلام الذي يحيط بالكائن ، إشعال فتيل ضوء في متاهة بورخيسية معتمة كلما ظننتَ أنها أفضت بك إلى مكان اكتشفتَ أنها زادتك عزلة عن نفسك وعن العالم .. ومع ذلك فلا مفر لك إلا أن تسأل وتسأل موقناً أن توقفك عن السؤال يعني نهايتك المغلقة مرسومة على جدار اليأس ..
الطبيعة والكلمة :
وما دمنا نتحدث عن الرسم على الجدار فان هذا يحيلنا إلى ثيمة لطالما برزت بوضوح في تجربة يحيى المنذري ألا وهي توظيف التشكيل واللوحة في الكتابة القصصية ، ولعل يحيى الذي صرح ذات يوم بأنه حاول أن يكون فنانا تشكيليا ففشل سيضجر من فرط ما تم التحدث عن هذه الثيمة في كتابته .. وشخصيا ما كنتُ سأتناولها هنا لولا ارتباطها بثيمة هذه الورقة وهي الجدران .. وعلى أية حال سواء نجح المنذري أم فشل في أن يصبح فنانا تشكيليا فان المؤكد أن العديد من نصوصه القصصية ما هي إلا تجسيد لعبارة ميشيل فوكو في "الكلمات والأشياء" من أن الطبيعة والكلمة يستطيعان أن يتقاطعا إلى ما لا نهاية مشكِّلَيْن لمن يعرف القراءة نصّا واحداً .. حرّكت اللوحة التشكيلية الأحداث في "ليلة الخنجر" كما رأينا قبل قليل .. وكان لها دور كذلك في قصة "من جدار أبيض إلى جدار أسود" التي يستحضر فيها المنذري الرسام العالمي سلفادور دالي إلى صالة الانتظار بالمستشفى ، فيرسم هذا الأخير بقطعة فحم في وجوه الجالسين وفي الجدران ، ولعلها نفس قطعة الفحم التي استخدمها سلمان في "رماد اللوحة" عندما كان طفلاً "يرسم على جدران البيوت أشكالاً غريبة جدا ليس لها وجود، أشكالاً يبتكرها وكأنها سوف تتحقق في سنوات قادمة" ، غير أن الملاحظة الجوهرية هنا أنه كلما تقدمت تجربة يحيى المنذري القصصية للأمام كلما تراجع الحضور التشكيلي للخلف ، أو لنقل خفت وبات في خلفية المشهد .. مجموعتاه الأوليان كان يصدّرهما بقصة لا تتعالق مع الفن التشكيلي فحسب ، بل ويدخل في نسيج أحداثها بحيث لا تغدو القصةُ قصةً إن حذفنا ثيمة التشكيل .. قصة "اللوحة" أولى قصص "نافذتان لذلك البحر" تبدأ بتأمل عميق من بطل القصة للوحة غامضة معلقة على جدران معرض، يتأمل غيوما وبرقاً ورياحا ومساحات تحمل ألوانا عدة .. إن هذا التأمل يمد البطل بأحداث مرعبة تحدث لاحقا لتنتهي القصة بهرب البطل خائفا من المعرض "تاركاً اللوحة تفسخ ثوب الأرض المتبقي" .. أما قصة "رماد اللوحة" أولى قصص المجموعة التي تحمل نفس الاسم فتتحدث عن معاناة شاب اسمه سلمان لديه موهبة الرسم منذ صغره يتعرض لضغوط اجتماعية تسبب له آلاما نفسية وجسدية فيقرر أن يرسم كل الشر الذي تعرض له في لوحة ثم يحرقها .. التشكيل هنا – كما في قصة "اللوحة" - مكون رئيس من مكونات القص .. هكذا إذن يبدأ يحيى قَصَّه في مجموعتيه الأوليين بالتشكيل .. أما في الطيور الزجاجية فان التشكيل ليس إلا معضدا للحبكة القصصية تسانده معضدات أخرى يمكن أن تحل محله أن أراد القاص دون أن تتأثر سيرورة القص .. فمن الذي يملك المراهنة أن قصة "من جدار أبيض إلى جدار أسود" ستفشل في إرسال رسالتها بدون سلفادور دالي ؟ .. ومن يجرؤ على الزعم أن "ليلة الخنجر" لن تسير للأمام بدون أن يتوقف ناصر لرؤية لوحة السيف والخنجر ؟!.. إن خفوت المشهد التشكيلي هنا يمكن أن نعزوه إلى تحقق المنذري كقاص تعويضا عن الفنان الفاشل ، لم يعد يشعر بتلك المرارة التي تدفعه لمحاولة التحقق تشكيليا على الورق .. لكن موهبة التشكيلي باقية ، وتطل برأسها في لوحة قصصية هنا أو في وصف هناك ، ولعلني لا أتعسف في التأويل إن قطعتُ بأن وصف يحيى لسلمان طفلا في "رماد اللوحة" ، والذي تتماهى فيه خبرة التشكيل بخبرة القص ، ما هو إلا وصف ليحيى نفسه : " وجد نفسه يحب المرأة والرسم، ودائما ما يشعر بحرارة غريبة تسري في يده تحفزه على أن يمسك القلم ويرسم طيوراً تحلق بعيداً عن الأرض، يرسم نساء جميلات وحدائق زهور وأشكالاً هندسية، كان في طفولته يرسم بقطع الفحم على جدران البيوت أشكالاً غريبة جدا ليس لها وجود، أشكالاً يبتكرها وكأنها سوف تتحقق في سنوات قادمة، بعد ذلك بدأ الرسم على الأوراق، مرة رسم شجرة أوراقها سوداء وثمارها رؤوس دامية، وتبدو الشجرة في اللوحة أكبر من المدينة وغائرة في سماء مليئة بالغربان وطيور أخرى غريبة الأشكال" .. لكن سلمان العاشق للرسم سيكون عُرضة لتوبيخ مسؤوله له الذي مزق اللوحة فوق رأسه وأمره أن يجمع المِزَق كي يرميها في القمامة.. من هنا ينفس سلمان عن غضبه برسم لوحات وحرقها ، أما يحيى فسيؤمن أن الطريق يتحدد بمقدار ما نمشي عليه من خطوات ، وسيختار طريق الكتابة ، حيث يغدو بإمكاننا ابتكار حيوات في الورق لم نعشها في الواقع، نرسم فيها لوحات جميلة ونبتكر شخوصا مدهشة ، ونتحدث بلغة آسرة ، ونطرح أسئلة ممضة ، نمضي مُتَحَدِّين الصعاب ، وعابرين الجدران التي تقف في طريقنا بعزيمة لا تكل ، مستحضرين في قرارتنا أمل دنقل : آه ما أقسى الجدار / عندما ينهض في وجه الشروق / ربما ننفق كل العمر .. كي نثقب ثغرة / ليمر النور للأجيال .. مرة ! /
ربما لو لم يكن هذا الجدار / ما عرفنا قيمة الضوء الطليق !! .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق