يحيى سلام المنذري
يعتبر كتاب "حول الثقافة" الصادر عن دار الانتشار العربي أول إصدار للأديب العماني أحمد الفلاحي الذي بدأ كتابة المقالات ونشرها في الصحف والمجلات العمانية والعربية منذ بداية السبعينيات في القرن الماضي، إلا أنه اعتبرها وبتواضع محاولات لا ترقى بأن تكون في كتاب حتى جاء هذا الإصدار نتيجة لرغبات ومناشدات متواصلة من الأصدقاء حسب ما ذكر في المقدمة.
وكتاب "حول الثقافة" وكما يشير عنوانه هو مجموعة مقالات في شأن الثقافة العربية والعمانية ، كتبت على فترات امتدت منذ بداية السبعينات وحتى نشر الكتاب ، وقد تغيرت اليوم أحوال كثيرة مما تناولته تلك المقالات ولكن الفلاحي آثر أن يتركها على حالها لتشير إلى زمنها وتاريخها ووقتها. وهذه المقالات بعفويتها وصدقها لا تنفصل كثيرا عن شخصية كاتبها خاصة لمن عرفه عن كثب واستمع إلى أحاديثه وأقواله في شؤون الثقافة والناس والتاريخ.
الجزء الأول من الكتاب تتحدث مقالاته عن الثقافة العربية ، حيث احتوى على سبعة عناوين ، فاتحتها كان مقال بعنوان " الثقافة" الذي أضاء نقاط مهمة حول الثقافة في البلدان العربية موضحا " كيف أنها تعاني من إشكالية مزدوجة فهي من جانب مطلوبة ومرغوب فيها لتجميل وجه الدولة ، ولتعطيها الشكل الحضاري التقدمي بصفتها دولة متطورة تعنى بالثقافة وتسعى لإبراز جانبها ، ولكن الثقافة من جانب آخر تنظر إليها الدولة في الوطن العربي غالبا بالتوجس والحذر ، فالدولة العربية تتوهم في كثير من الأحيان أن الثقافة تثير البلبلة والإزعاجات ، وتفتح الأعين على ما لا ينبغي الوعي به أو الاقتراب منه وتزيح الستار عن أشياء يفترض أن يكون مسكوتا عنها ،(ص15) ". كما تطرق المقال إلى وضع المثقف العربي وكيف يكون موضع ريبة ومثار تساؤل ، وغير مرضي عنه حتى وإن حاول الاقتراب من السلطة والدفاع عنها ، فهو يظل باستمرار تحت المجهر والفحص والتنبه لكل كلمة يقولها أو لأي سلوك يبدر منه. ومن الإشارات المهمة في هذا المقال تطرقه إلى بعض المثقفين الذين تولوا السلطة في بعض البلدان العربية وكيف أنهم تحولوا من مدافعين عن المثقف والثقافة إلى قوة تمارس القمع ضد المثقفين. وقد ناقش هذا المقال نقطة مهمة أخرى وهي أن معظم الجهات المعنية بالثقافة في البلدان العربية يتولى مسؤولية إدارتها أشخاص غير معنيين بالثقافة وهمومها مما أدى ذلك إلى مضاعفة أزمة الثقافة العربية وإشكالاتها. كما يأتي المقال الثاني في الكتاب وعنوانه "في شأن الثقافة وأحوالها" مكملا للمقال الأول ، حيث توسع الكاتب كثيرا في مصطلح كلمة الثقافة ومعناها اللغوي ، وأتى بمقارنات بين تطور الوضع الثقافي العربي والوضع الثقافي عند أمم أخرى كاليابان والصين وأمريكا الجنوبية والدول الأوربية. وهكذا تأتي المقالات في القسم الأول من الكتاب متصلة ومنفصلة في أفكارها ، ويتضح ذلك من خلال العناوين التي قدمت للقاريء ، وهي: "ثقافتنا في مواجهة الأعاصير" ، "ثقافتنا بين الثقافات" ، "المثقف" ، "المثقف العربي هو المسؤول؟!!" ، "مصاعب المجلات الثقافية وتوقف مجلة الناقد". وفي المقال الأخير من الجزء الأول يتناول الكاتب بشيء من الحرقة والألم عن توقف مجلة الناقد عن الاصدار وكيف أنه كان من الحريصين على متابعتها حتى صعق ببيان توقفها عن الاصدار ، كما تطرق أيضا إلى توقف بعض المجلات الثقافية الشهيرة كمثل "الرسالة" و"الثقافة" و"الكاتب" و "الأديب" و"الفكر".
أما الجزء الثاني من الكتاب حمل عنوان "الثقافة في عُمان" وضم ثمان مقالات ، قدمت تحليلا لأوضاع الثقافة والمثقفين العمانيين بشيء من الصدق والصراحة ، حيث أشار الكاتب في المقال الثاني "الثقافة العمانية .. مسيرتها وإنجازاتها" إلى أن " مسيرة ثقافتنا العمانية مرت بمراحل مختلفة خلال العقود الثلاث الماضية ، ولعلني لن أكون مادحا أو مجاملا وربما كذلك لن أكون ناقدا ، ولكني سأحاول أن اتتبع الأمور كما هي في أرض الواقع داعيا في الوقت نفسه إلى ضرورة أن نتأمل أحوالنا بصدق وأن لا نغمض أعيننا عن الأخطاء والقصور ،(ص 85)". ومن هذه النظرة الجميلة يتطرق الفلاحي إلى العديد من المواضيع في هذا الجانب ، فجاء على ذكر العاملين في وزارة التراث والثقافة وكيف أنه مع إحترامه الشديد لهذه الوزارة التي يعتبرها مهمة إلا أنه يظن " أن القليل منهم من له دراية بالثقافة وشؤونها وللأسف الشديد فإن الوزارة لم تقم بالدور المناسب في تأهيل الشباب وابتعاثهم ليكونوا بعد الدراسة والتخصص العناصر الفاعلة في صنع الثقافة وتطورها ، (ص78) ". كما أن هناك مقالا حمل عنوان "هل نحن في أزمة ثقافية؟" ، ويطرح هذا السؤال على المستوى العربي بشكل عام وعلى المستوى العماني بشكل خاص ، ومن ثم يؤكد الكاتب بوجود أزمة حقيقية في العالم العربي ، ولكن كيف تكون هذه الأزمة لو تمت مقارنتها بالوضع في عمان ، حيث يقول " حالنا الثقافي في عمان يختلف اختلافا كبيرا عن حال الثقافة العربية...فنحن ما نزال أكثر بعدا عن المواقع التي استطاعت الثقافة العربية احتلالها في البلاد العربية ، (ص 111) ". ثم تطرق المقال إلى مقارنات مع دول عربية رائدة في الاصدارات والشأن الثقافي مثل الكويت ولبنان ومصر وبغداد ودمشق وغيرها.
ويبقى أن أشير إلى أن الفلاحي له قيمة ومعزة لدى المثقفين العمانيين والعرب، لما يمتلك من خصال نادرة إنسانيا بدماثة خلقه وكرمه وصدقه وثقافته. وقد ساهم في تأسيس الصحافة العمانية المعاصرة ، كما ساهم في تأسيس الحركة الثقافية العمانية الحديثة بالإضافة إلى مساهمته في قطاعات الإعلام والتربية والشباب ، وشارك في تأسيس "النادي الوطني الثقافي" في عام 1974 ، وعمل مديرا لتحرير مجلة "الغدير" الثقافية الشهرية العمانية منذ أول صدورها في 1977 وحتى توقفها في عام 1984 ، وعمل لما يزيد على عشر سنوات في الملحقية الثقافية العمانية في البحرين ومصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق